محمد فرح الله / منذ بزوغ فجر صحيفتا “أوكرانيا بالعربية” والتي تقترب من اطفاء شمعتها الثانية في نهاية شهر ديسمبر المقبل، لم أبدي رأيا ولم أكتب مقالا باللغة العربية يوما ما، مع ان ذلك كان يتطلبه أحيانا موقفا ما او قضية ما، ولكن مع مصادفتي لحادثة مذهلة تستحق الوقوف أمامها والاعجاب بها قررت أن أكتب بها أولى مقالاتي باللغة العربية، آملا بذلك ان تكون خير مثالا منيرا في هذا الواقع الحالك بظلامه والصعب بتضاريسه.
فالمعايش للواقع في أوكرانيا والمتابع لقضايا ها السياسية يشعر بنوع من التعود على المشهد ذاته مع تغير الاسماء والالقاب، فقد تعودنا على رؤية السياسة الاوكرانية في خضم صراعها بين معارض ومؤيد.. بين متقلب وعائد.. بين يميني ويساري.. بين أوروبي وشرقي بوجهته.. بين مغادر من حزب ومنضم لاخر.. هكذا هي الصورة العامة للساسة الاوكران.
ولكن ثمة هنالك ساسة من نوع آخر فنائب مجلس العاصمة الاوكرانية كييف السيد “الكساندر بابات” وهو المرشح السابق في نيابة منطقة “سفياتوشين” لدى البرلمان الاوكراني والذي حقق به المرتبة الثانية ومنعه من الفوز فارق ليس بالكبير مع خصمه من القوائم الفردية للمنطقة.
فبعد تلك الانتخابات وقبيل اصدار أمر تعيين الكساندر بابات ليترأس المجلس المحلي لمنطقة “سفياتوشين” في العاصمة كييف وأثناء احتفاله في بيته وبين اسرته انفجرت به فرقعة نارية محدثة بجمجمته وعينيه آثار جسيمة تم بعدها اسعافه محليا، ليعرب الاطباء المحليين عن عجزهم في انقاذه او مساعدته طبيا بل تواردت أنباء (غير رسمية) بأن ثمة هنالك من شرع في اصدار وثيقة وفاته.. الا انه بأصرار اسرته وثباتها وايمانها بالخالق تم نقلة الى مصحة متطورة في ألمانيا ليصارع الموت هناك وليكتب له الحياة بدون نظر.
وكانت التوقعات بان تكسر هذه الفاجعة شوكته وعزيمته واصراره.. فكيف يمكن لرجل ضرير عاجز ان يكون رجل سياسة ورئيسا لمجلس في المدينة؟! الا انه لم يستسلم للقدر ليشغل مكانه بين العجزة!! ولكن حدث عكس ذلك تماما فقد عاد النائب “بابات” الى كييف ليتولى مهامه بادارة مجلسه ويقوم بواجباته كنائب لمجلس العاصمة والذي يوضع على أكتافه النظر في قضايا المواطنين وان يحل مشاكلهم ويقدم لهم المساعدة وهو في واقع الامر بامس الحاجة لابسط مساعدة، فهذا النائب الضرير يسطر بعزيمته تاريخا جديدا في السياسة الاوكرانية.
فلم ينقضي الكثير من الوقت عندما كانت تتناقل وسائل الاعلام المحلية كنيته واصفة اياه اما بالطفل المدلل المنحدر من الاسرة الثرية (اثناء حملته الانتخابية) او ذلك الخريج من الجامعات الراقية والعريقة وصاحب تشكيلة كبيرة من السيارات الفاخرة والرياضية… ولم يمضي وقت طويل كذلك على تناقل وسائل الاعلام له بذلك النائب الذي تورد كنيته في صفحة الاحداث (عند اصابته الخطيرة) وما كان ما يدور عن العمليات الجراحية التي يتعرض لها وغير ذلك …
فأين هو اليوم من كل ما سبق؟ كانت الاجابة مذهلة بل تدمع لها الاعين .. عندما اعلنت احد المدارس في طرف العاصمة كييف عن افتتاحها لقاعة موسيقية لها بعد تجديدها، دُعينا بمحض الصدفة (فلم يكن هنالك من يمثل الاعلام) ولم تكن هذه الفاعلية للترويج لنلتقي مع النائب بابات وهو بمرافقة مساعده ونائبة في المجلس المحلي والذي هو بمثابة بصره.
راقبنا كيف تحدث النائب الضرير عن تاريخه مع هذه المدرسة والتي يهتم بها منذ عام 2009 ويقدم لها الدعم المادي دوما منذ ذلك الوقت ليعرب من جديد عن استعداده لمد يد العون لها لشراء الاثاث وبعض المستلزمات لها.
وقد أفسح النائب الضرير عن سر حضوره الصعب لهذا الحفل وهو حصوله على بطاقة دعوة من المدرسة والتي كلفت تلاميذها بأعدادها بشكل يدوي فقد قال:”عندما لامست باطراف أصابعي لبطاقة الدعوة الطفولية شعرت بها بكم كبير من أداء الطفولة والدفئ البرئ فبصنع التلامذ لهذه البطاقة ازدات عزيمتي وقررت فورا الحضور”، مضيفا ومصرحا بان من أهم أهدافه حاليا هو ان تكون المنطقة التي يتراس مجلسها “سفياتوشين” هي الافضل في العاصمة كييف بل وصفها بأنها الاقرب الى أوروبا.
ولماذا الاستغراب ؟ لان الناخب الاوكراني تعود كثيرا على “كذب” وخداع نوابهم وتنصلهم من وعودهم بعد الفوز في الانتخابات ليكون همهم الاول والاكبر هو كيف يستخلصون من منصبهم “المكسب” الاكبر ليعوضوا ما تم صرفه في حملتهم الانتخابية.
ولكن ما شاهدناه هنا يختلف كليا، فقبل انتخابه وأثناء صراعه السياسي على التمثيل في البرلمان الاوكراني اطلعنا النائب لاكثر من مرة على افتتاحه للعديد من ساحات اللهو للاطفال وترميم اسوار الحدائق العامة في المنطقة اضافة الى تأمينه للتربة السوداء لزراعة الزهور في باحات المنازل واصلاحه لمداخلها وتشجيره لبعضها وغيرها الكثير من النشاطات والمساعدة لسكان الحي… وبعد الانتخابات يتعرض النائب “بابات” لهذه المآساة والتي لم تكسر عزيمته ولم تبعده عن خطه السياسي. بل عاد لمنصبه ليوفي بما تعهد به أمام ناخبه، في حيه بل وجد بنفسه الاصرار والعزيمة بادارة برنامج يبث عبر القنوان المحلية باسم “ساحة الأمن” ويدير جميع المهام الحكومية الملقاة على أكتافه ويشارك في دعم وتعزيز المسيرة التعليمية والصحية والاجتماعية وغيرها.
فقد دارت عجلة الزمن وهدء كل ما أثير في العالم لصالحه او ضده وذهبت تلك المقالات المسيئة في طي النسيان لتبقى في الذاكرة الافعال الحية والانجازات التي قام بها ويقوم عليها حاليا فقد انشئ موقع خاص به لينشر عبره كل انجازاته على موقعه الرسمي “بابات دوت كوم” ليعرف عليها كل ناخب.
فانجازات المرء هي التي تتحدث عنه وليست بالكلمات انما بما هو أكثر وأكبر، ليسجل التاريخ الأوكراني بل وربما العالمي كيف يستطيع النائب الضرير صاحب الحاجة لامس المساعدة حتى لتمشيه أو لتنقله ليقدم أكبر المساعدات للاصحاء واصحاب العيون، وكي لا ننسى الاشادة بدعم اسرته له بكامل المجالات وعدم تخليها عنه… ليكون نائبا وسياسيا وناشطا وابا وزوجا… فهذه المأساة التي لم تكسره تعيد للذاكره المقولة السلافية الشهيرة “مالم يقتلنا يقوي من عزيمتنا”.
فكل ذلك يدعوا للاعجاب والاحترام والتقدير لهذه الرجولة وهذه العزيمة لهذا الانسان، لتذكرنا بالمقولة والحكمة التاريخية لا يأس مع الحياة ولاحياة مع اليأس.
رئيس تحرير أوكرانيا بالعربية
عضو نقابة الصحافيين الأوكران
عضو النقابة الدولية للصحافيين