أهم الأخبار
talal أوكرانيا

مواتنا متذمرون

talal أوكرانياد. طلال الشريف / في زيارة عابرة، وليست، بغرض الإقامة الدائمة، وجدت نفسي فجأة في المقبرة الغربية تلك الليلة، سائراً دون هدف، ودون نوايا مسبقة، وما إن، أدركت مكاني وشعرت بصمت القبور، حتى مر برأسي هزيع مرعب لصوت عريض بعرض المقبرة المترامية الأطراف.
كان الصوت مخنوقاً،ينادي يا دكتور، يا دكتور، فتسمرت قدماي، واهتززن بقوة، من الخوف، وتقلصت عضلات رقبتي، كأني أختنق، و أجهدني العرق، ورحت في غيبوبة، ولا أدري كم استغرقت من الوقت. 
أفتح عيني ناظرا حولي، أرفع رأسي بصعوبة وأنا ملقاَ على الأرض، وأشعر بألم في رأسي، وفي خاصرتي، حاولت الجلوس ممسكا بشيء صلب جاءت يدي عليه، ولم أميزه، وأسندت ظهري بصعوبة بالغة علي كتلة أحسست ببرودتها، ولكني غير قادر علي النهوض، وتحسست جوالي، حاولت إضاءته ويداي ترتعشان، ولا أدري ما الذي حدث، ولهول ما رأيت، وكاد يفقدني الوعي مرة أخري، أن الشيء الصلب، الذي أمامي هو شاهد قبر، فأغمضت عينيي بسرعة من فجيعة المنظر، وأدركت أنني أستند بظهري علي قبر آخر، وإذا بي في هذا الظلام الدامس جالساً بين قبرين، وليتهما كانا علي أطراف المقبرة، لرأيت أي ضوء قي الشارع، أو البيوت القريبة، وأدرت ضوء الجوال فإذا بي في منتصف المقبرة.
الصوت السابق يأتيني مرة أخري، لكنه هذه المرة أكثر قربا،ً ومن شدة الإرباك، وقع الجوال من يدي، تحسست حولي فلم أجده.
وعاد الصوت من جديد، قائلاً، وبهدوء هذه المرة:
أنا أحمد، فقلت له، أهلاً وسهلاً، مين أحمد؟ فقال لا تسأل، أنت مازلت مع الأحياء في الدنيا، ونحن هنا أموات ونريد سؤالكم فأستمعوا وأجيبونا، فقلت له، اسأل ما تريد، فقال:
هذه قدمي المقطوعة، ماذا فعلتم بها؟ فقلت له: يمكن كانت ملتهبة من مرض السكر، وخفنا عليك من التسمم، وقد تكون الشرايين مسدودة، ولهذا عالجناك بقصها. فقال: لا أسألك عن الطب، إن قدمي قد قطعت في الحرب، وصدري متفجر من رصاص الأعداء دفاعاً عن بلادنا وعنكم، فماذا فعلتم بعدها؟ أنا لا أسألك في الطب يا دكتور. 
أنا أسألك عن ثمن النضالات، ألست قيادياً، ودخلت الانتخابات ثلاث مرات من أجل أن تكملوا المسيرة؟ فقلت له: لم يعطني الفرصة، ولم أنجح في أي منها، فقال: اسألهم، وعد لنا بالإجابة، فقلت: نعم سأسألهم، لكننا نواجه عدو شرس، ويربكنا بقوته، فقال: نحن أقوي منه، لكننا أنانيون، وعصبويون، وفئويون، وحزبويون، فقلت له: صحيح.
قال: وماذا جرى بانقسامكم؟ فقلت: الحال على ما هو عليه وأسوأ، فقال: خلتونا استشهدنا وقسمتوا البلد قبل ما تتحرر، قلت له: حماس السبب، فقال: وايش بعمل الرئيس؟ قلت: نازل قمع وفصل وقطع رواتب الفتحاويين، ونبيل بدو الرئاسة حتى لو خربت فتح، فقال: مين نبيل؟ فقلت نبيل شعيل،  فقال: ديروا بالكوا على فتح هيك قال الختيار ،  إحنا لا نرتاح في قبورنا حتى تعودوا بلدا واحدا وسلطة واحدة فالمسيرة طويلة وتحتاج كل الفلسطينيين رغم أنني من أم الجماهير، فقلت: ياريت تعملوا وثيقة زي وثيقة الأسرى عل المنقسمين ينهوا معاناة الناس، فقال: لسا الانفاق شغالة والمليونيرات بتزيد؟ قلت: نعم ولكن بيغلوا الوقود علينا وبيلعبوا بمستقبل الشعب، والناس تبهدلت وهما لسا بيناقشوا مين أول الوزارة وإلا لجنة الانتخابات ، فقال: إخس عليهم الوطن بيضيع وهما بيدوروا على حالهم، قلت له والله الشعب بيغلي ويمكن يثور عليهم: قال هو الحل الصحيح بعد فشلهم واحنا معاكوا واخرجوا للشارع وراح تلاقونا قبلكم.
وما إن أتممت الإجابة، حتى هالني المنظر ، كم كبير من الخيالات من الموتى، تنتظم في صف طويل لتوجيه الأسئلة . 
وبدأ أحدهم قائلاً: أين بيتي الذي تهدم بفعل القصف؟ لماذا لم يتم بناءه من جديد؟ من المسئول؟ أبلغهم، واسألهم. 
وقال الثاني قول لأبو الثائرين الأمين العام يعمل نظام داخلي في حزبه، ويلاش يطول في الأمانة العامة، ويحتكر القرار، ولم يتبق في حزبه إلا هو والسكرتيرة لأن الناس كشفوه وكرهوه. 
وثالث قال لماذا أضعتم حق ابني في التعليم، وأعطيتم المنحة، لأولادكم. 
وقال رابع، أولادي لا يجدون اكلأ، لأنني مناضل فقير ومش قيادي كبير، ولم أترك لهم شيئاً، وأين المسئولين من فقراء المناضلين. 
وقال خامس بلغ أخي بأن عمي زيف أوراق الطابو، وأخذ كل ملكي، وحرم الأيتام منه. 
وقالت سادسة أبي لم يرد تزويجي لكي لا يذهب إرثه من الأرض التي يملكها إلي زوجي إذا ما تزوجت. 
وقالت سابعة، لقد زوجني أبي برجل لا أحبه. 
وقال تاسع: لم أجد عناية من الأطباء حين أصبت بالمرض، فمت، أين المسئولين؟ 
وقال عاشر لم يهتم بي أولادي، وأنا شيخ كبير، وانصاعوا لزوجاتهم. 
وقال آخر: كنت أعمل الخير لكل الناس، والآن لا أحد يقرأ علي قبري الفاتحة. 
وقالت أخري: كان زوجي يضربني، ولا تستطيع القوانين إنصافي. 
وجاء ميت يترنح فقال أنا من يوم ما مت لم أتذكر شيئا فقد شربت عشر شرايط  ترامال مرة واحدة لأنسى الهم الذي يلاحقني، لا عمل ولا وظيفة ولا زواج ولا حرية. 
وجاء مسئول قيادي كبير فقال: تركتكم أحسن من هيك، ايش اللي جرالكم؟ لماذا لاتتحدوا وتحموا شعبكم، وتجنبوه الحرب الأهلية؟ فقلت له: لا تخف إن شعبنا واع، ولن تكون عندنا حرب أهلية، فقال: ما هذا الذي يجري بين فتح وحماس؟ أليست هذه هي الحرب الأهلية؟ ولمصلحة من تراق الدماء الذكية؟ ولماذا يتاجرون بدماء الفلسطينيين، ومرة يبيعوها لوسيط، ثم يعودوا ليبيعوها لوسيط آخر؟ هل أصبحوا تجار دم، وتركوا النضال ضد إسرائيل؟!! هل تعبوا وسهروا الليالي علي تربية هؤلاء الشباب الذين يقتلون بلا هدف؟ لقد دفع أهلهم دم قلوبهم ليربوهم، ويكبروهم ويعلموهم، لتحرير أرضهم، وليعيشوا مثل باقي البشر، لا ليباعوا مرة لعيون عاصمة هنا، ويباعوا مرة أخري لعاصمة أخري تدفع أكثر هناك، قل لهم إن دماء الفلسطينيين لا تباع أيها القادة، قلهم: سكتنا علي بهلوانياتكم وتجاوزاتكم، لكننا لن نسكت هذه المرة علي هذه التجارة الرخيصة، كان الأجدر ألا تفعلوا ذلك لو كنتم قادة حقيقيون لهذا الشعب العظيم. إنني اقترح عليهم، أن يرحموا شعبنا، وإما أن يتفقوا علي طريقة ترضي شعبنا، لا أن تدمره، وإما أن يتنحوا جانباً ويعملوا انتخابات.
ولا تنسى أن تقول لهم أن يقللوا من النثريات،والسفريات، والسيارات الفخمة والهيلمانات، والبنزين، والرز، واللحم، وطخ الفشك عالفاضي والمليان، وأن يوزعوا المساعدات بالعدل، لأن المساعدات تنهب، وتباع، ولا توزع بالعدل، وأن يكفوا عن تجارة الدم، أو أن يتركوا هذا الشعب ليقرر من يحكمه بعد أن فشل الجميع بالانجاز ، بل دفعوه إلي أتون الحرب الأهلية المقيتة . 
وجاء شيخ كبير يلبس الحطة فقال: قلهم دولة العصابات ساعة، ودولة المؤسسات إلي قيام الساعة.
وحدث كل هذا، وأنا جالس بين القبرين، علني اسمع غير الشكاوي، والظلم، والتزوير، والاستنكار  أو أري ميتاً قد مات وهو مرتاح أو راض عما يحدث لنا، وفجأة، جاءني صوت ناعم من بعيد، فقلت: لربما يحمل لي هذا الميت شيئاً أتفاءل به، فقال: أنا من رواد وقيادات الانجئوز، وأريد منك أن تقول لأهلي، يروحوا لعند أبو الوليد، ويأخذوا منه أتنين مليون دولار، كنا سرقناهم سوا، وهو استولي عليهم، وهو اللي بعت المجموعة اللي طخوني، وخبأ الجريمة.
فأخذت نفساً عميقاً، علني أحفظ كل ما قيل لتوصيله إلي شعبنا، والذين نسميهم مسئولين، فإذا بالجوال يرن علي المنبه عند الساعة السادسة لأصحو إلي عملي، وصوت أمواتنا الغاضب لازال يرن بأذني.

المقالات التي تنشر تعبر عن رأي أصحابها و ليس بالضرورة عن رأي الموقع

شاهد أيضاً

أوكرانيا

أوكرانيا : فرص السلام والحرب

كتب محمد العروقي ، رئيس تحرير موقع “أوكرانيا اليوم” / تسارعت في الأونة الأخيرة الأحاديث …

اترك تعليقاً