الأدب وحتمية النقد
13 نوفمبر, 2013
مقالات, ملفات خاصة
مشلين بطرس / خاص لموقع أوكرانيا اليوم / نأتي بقول لأبي الأسود الدؤلي:”ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك” .عندما ولد الأدب لم يكن وحيداً في الكون، إنما لديه توأم يشبهه كثيراً، لكنه يختلف عنه بتيمات وخصائص تقرّ بضرورة وجوده وحتمية ولادته كموضوع قائم بحد ذاته، ألا وهو النقد. فالنقد دراسة للأدب الذي هو مصدر معلومات عن الإنسان وطرائق اتصاله، ومن الأدب تتاح لنا معرفة الإنسان في الإنسان، كما قال “فيدور ديستويفسكي”. لكن في عصر النهضة، اتخذت دراسة الأدب أشكالاً متعددة. انصب اهتمام فقهاء اللغة على ما في وسع الأدب أن يكشف لهم من طبيعة اللغة، وكذلك علماء البلاغة قد درسوا الأدب لما يوضحه من فنون الفصاحة والإقناع، كما درسه الباحثون الذين اهتموا بوضع نصوص دقيقة عن ظروف الكتّاب وحيواتهم، فكان النقد فهماً وتذوقاً للنصوص الأدبية، لكن نظرة الريبة كانت ظلاً له لعدم وضوح أهدافه، وكونه وسيلة يسعى الناقد من خلالها إلى مجرد تبرير خيارته وتحاملاته. وعلى الرغم من وجود أوائل النقاد مثل أفلاطون وأرسطو وهوراس، لم يكن هذا كافياً لإبعاد نظرة الريبة والشك عن النقد، فهوميروس عندما كان يستدعي ربة “الإلهام المقدسة” أو “آلهة الغناء” كي تساعداه في كتابة الأوديسة أو الإلياذة، فإنه بذلك يقدم ضمنياً تقريراً نقدياً حول الشعر الذي ينظمه وحول جوهره وقيمته، وبذلك فإن هوميروس وبتواضع، يقلل من قيمة دوره كمؤلف، فيكون كوسيط يحفظ حكايات الأبطال القدامى شعراً بواسطته، وهذا يقدم لنا نتيجة بأن الأداءات الشفهية غير قابلة للنقض، لأن الشفاهية تفرض استخداماً ملائماً لسياقها، فيما تنتج الكتابة معرفة تبعد عن سياقها، وإن ابتعاد الكتابة عن سياقها فإن القراءة تعيد بالضرورة المكتوب إلى سياقه، وعليه فإن النص الأدبي يكون صالحاً للقراءة حين يستثمر معناه الدلالي بمعنى نفعي بصفته منطوقاً يلتمس نطقاً حيث يبني علاقات ما، تتحدد في المجال الاجتماعي والتاريخي بين الناسخ والقارئ. فالأدب بمعناه التاريخي يعني تحديد نصوص لا تتطلب أن تقرأ فحسب، بل نصوص تضع القارئ فيها فاعل التعبير، وليس أداة مشافهة، لأن الكتابة تعتبر فعلاً أولاً، لايتبين هدفه إلا بالفعل الثاني الذي يتضمنه غالباً، وهو فعل القراءة، ليأتي النقد محاولاً فهم الأدب، وكل محاولة لفهم الأدب تحمل في جعبتها قيمة ومعايير. في ضوء الدراسات البنيوية والأسلوبية والتفكيكية المعاصرة لم يعد النقد مجرد ملحق سطحي للأدب، بل غدا على حد تعبير تودورف،قرينه الضروري (ينشأ الخطاب حول الأدب مع نشوء الأدب نفسه)، وبذلك يكون النقد إنشاء لغوي آخر هو الأدب. ومن واجبات النقد اتجاه أخيه التوأم أن يتكلم الأول مع النص، وليس أن يتكلم عنه، لأن وظيفة النقد ليست مقصورة على التحليل والتفسير والحكم على العمل الأدبي، وإبراز ايجابياته وسلبياته كما كان شائعاً عندما كان النقد يترعرع في أحضان العصر الكلاسيكي، لقد أصبح الآن لوجود النقد شروط تحققه، وهي ضرورة الوعي الفلسفي بالعصر وبالادب وأجناسه، ويستبطن مابين سطورها، ومعرفة دلالاتها. فالتكلم مع النص، يعني استنطاق شيفراته الظاهرة والمتوارية. وفي حديثنا عن النقد العربي الحديث فهو يحاكي في بعض اتجاهاته المناهج والنظريات النقدية العربية من واقعية جديدة وتفكيكية وبنيوية، لكنه لم ينتقل بعد إلى مرحلة المثاقفة والحوار معها. فالنقد الغربي كما نعلم لم يأت نتيجة محاولات فردية، كما في النقد عندنا، بل جاء نتاج تجمعات ونشاطات تعنى بالأدب والإبداع والنقد، وتحترف العمل بهما، ومنه ماسمى بـ(مدرسة براغ) وجوليا كريستيفا وغيرها، والسوريالية والبنيوية والكثير غيرها. لذلك على النقاد العرب أن يستنبطوا من النص العربي معايير تحدد قيمة أدبية لإنتاج كتابنا، لا أن يستوردوا ما أنتجه الآخرون، مع ضرورة الأخذ به والحوار معه. فمن النقد تولد مشكلة التداخل بين القيمة الفنية والحكم الأخلاقي، أو العكس، فنياً، علينا أن نقارن هذا النص بما سبقه من نصوص تنتمي إلى جنسه، فأهمية النصوص فيما تضفيه على ما سبق منها. فالتعلّم هو الخطوة الأولى نحو التطور، والتقليد خطوة نهائية وحتمية نحو الموت، لكن للمعيار الأخلاقي في النقد حضوراً قوياً أيضاً، فلابد من التريث قبل اصدار أي حكم قد يعني الموت، وخصوصاً على النصوص الوليدة، وكتّابها المبتدئين، وعلى الرغم من وجود كفتي ميزان للنقد، على الناقد آلا يتساهل فيعلي الأخلاقي على الفني، وعليه الابتعاد عن الأحكام المسبقة أو المتسرعة، فهي تفسد الذائقة وتساعد على الرداءة والإستهال في الكتابة.
أخيراً لا كتابة ما لم يكتب الإنسان نفسه. عليه ألا يدع الآخرين يكتبونه. فأن تكتب، يعني أن تخلق، أن تدخل في مناطق متجددة لتكتشفها. وبهذا يتحول الأدب عند “ماريو فارغوس يوسا ” إلى نشاط دائم يشغل وجود الكاتب، فهو لا يكتب ليعيش بل يعيش ليكتب. والزمن هو الناقد الوحيد الذي لا طموح له كما قال” جون ستايبنك”.
ناقدة واديبة سورية