كان كل المخيم نحو البحر.. يسيل
11 مايو, 2012
مقالات, ملفات خاصة
منال خميس / “بدهم يشحتوا علينا “، قال بائع الفلافل الذي رفض تصويره،وهو يشير لمعاونه أن يبتعد عن عدسة الكاميرا. زميلي الذي يحمل الكاميرا استفزه الرد، لكن “أبو خالد”الذي يعتاش من بسطة الفلافل، ويبدأ يومه منذ الفجر حتى أذان العشاء، قال : صار لنا ستين سنة في المخيم ع هالحال، فقر وجوع وبيوتنا قربت تقع،الكل بيشحت علينا ، وإحنا متل ما إحنا ليوم الدين”.
مثل جزيرة مفتوحة فقط على الشمس والسماء،بدا مخيم الشاطئ هذا الصباح،الريح جافة،صفراء تعبث بالشوارع، من كل الجهات تنشر الرمل والغبار في وجوه العابرين، والشمس تعامدت تصب حميمها على الرؤوس منذ العاشرة صباحا، رطوبة وحر…وازدحام كبير، والطريق حيث وجهتنا إلى منزل الحاج عبد الفتاح حميد”أبو علاء”في آخر المخيم مازال طويل.
شوارع المخيم الضيقة تنفذ بك من منطقة إلى أخرى، وان كنت غريباً عن المكان ستحتاج إلى دليل لا يفارقك لأنك حتماً ستتوه في هذه الزواريب المتلاصقة والمتشابهة ،وان وصلت إلى الجزء الشمالي من المخيم، الملاصق للبحر، (يطلقون عليه المخيم الشمالي) سترى المنازل الصفيح، تسيل بانهيار تدريجي توشك أن تعانق الموج والنوارس.سترى كل المخيم نحو البحر يسيل.
في وسط شارع السوق جلس ثلاثتهم، يلعبون “طاولة زهر” يقتلون بلادة الوقت غير مبالين بزحمة المكان حولهم،احدهم الذي انتبه للكاميرا،توقف عن متابعة اللعب ونظر إلينا ، استأذنا منه لاستمرار التصوير،وافق بإشارة من يده لكن نظرته الغير محايدة لم تتغير.
عمر السالمي أحد مناضلي المخيم القدامى المعروفين والذي له ولعائلته قبول كبير في المكان، نادى علينا بأعلى صوته،وبعد سيل من السلامات والتحيات دعانا لمنزله بشكل عفوي، اعتذرنا له مع وعد بزيارة أخرى.أثناء وداعه لنا كان أحد لاعبي طاولة الزهر،قد بدأ يخبط بعصبية الكرسي الذي كان جالسا عليه في الأرض، سألت السالمي،ماذا به؟قال ضاحكاً، ما انتبهتي؟ كاسة الشاي وقعت من ايده وانكسرت.
المخيم عصبي، زحمة المكان، شيوخ،كبار،صغار،شباب،نساء،تشعر كأن البيوت أفرغت من ساكنيها،سألت السالمي،شو في كل المخيم برا الدار؟ قال الناس مش طايقه الزينكو وحرارة الجو.
في مخيم الشاطئ أينما مشيت، في كل زقاق ستجد حميرا وأحصنة، وتكاتك”جمع توك توك”، من يوم أزمة الوقود والحمير والحصن والتكاتك بس هي إلي شغالة بالمخيم، أرخص وبتدخل بالحارات الضيقة بتوصلك لحد البيت”..أوضح “أبو حسين”الذي التقيناه على باب”الرائد” حلاق المخيم. ولكن عند بيت الباحث المتخصص في شؤون اللاجئين، الحاج عبدالفتاح حميد “ابو علاء” مفوض عام لجان الإصلاح في قطاع غزة ، كان الشارع أوسع،لكن ولا حائط نظيف وتلاحظ من الشعارات أن “كل الفصائل مرت من هنا”.
وحميد الذي عمل مدرساً ثانويا لسنوات طويلة”وربنا فتحها عليه” لم ينسى يوم كانت أمه تستلم “صرة الملابس”من وكالة الغوث مرة واحدة في السنة وقال :” كنت افرح يوم ما تطلع أواعي من التموين،كنا نغيب عن المدرسة وكانت أمي تستلم صرة الملابس من المؤن وتفردها بوسط الدار،وكنا نتخانق أنا واخواتي على الملابس، أحيانا ما يكون اشي يناسب مقاسي، ،وأحيان ألاقي جزمة واسعة مش ع مقاس رجلي، كنت أحشيها ورق علشان اعرف ألبسها”.
الحاج حميد قال أكثر من هيك و كلامه كله بيوجع،قال زميلي انه لخّص مأساة المخيم ، وأنا كنت أحاول أن أرسم بخيالي الصورة الأصل،الأقدم للمخيم.
“منيح يا عمي؟ الوكالة لما عملت مراكز تغذية كنا نسميها”الطعمه”وكان يوم عيد لما يطلعولنا كفته،كان الشاي للمريض فقط “دواء” واللحمة ما نعرفها،من وين ؟أقلك على حاجة لما انا كنت بتوجيهي، كانت حياة أمي الله يرحمها، تعزني بفترة الامتحانات كانت تسلق لي كل يوم بيضة، خلصت توجيهي وأنا أدرس على لمبة كاز نمرة 2، ولما دخلت الجامعة بالقاهرة لبست البنطلون الصوف لأول مرة،كان لي بنطلون واحد بس ، أقلك خليها ع الله”.
و”خليناها على الله”وغادرنا منزل الحاج حميد بعد انتهاء عملنا، لنعود ثانية إلى شوارع المخيم التي بدت لي في هذه اللحظة متناقضة أكثر، فمنازل ‘أسبستية’ قد هدمت وبنيت منازل باطون من عدة طبقات على أنقاضها، بيت عالي وبجانبه بيت أسبست يكاد يتهاوى، وهكذا.. لكن التصاق المباني وضيق الأزقة بقيت السمة الغالبة، حيث لا يمكن إخراج نعش ميت في بعض الأحيان.
صوت الحاج حميد مازال يخبط براسي “كنا نروح ع ملعب اليرموك نتفرج ع المباريات، وكنت أتعلم بمدرسة الكرمل الثانوية،بتعرفي، مأساة مخيم الشاطئ انه ملاصق للمدينة وهذا اثر ع نفسيتنا،كنا نطلع من مخيم بائس للمدينة،نشوف فلل بحدائقها الواسعة والسيارات والمحلات التجارية، والملابس، والعز عند أبناء المدينة، كل هذا كان يترك حسرة وقهر وألم في نفوسنا إحنا أولاد المخيم”.
بحسب إحصائيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الاونروا” في البداية، استضاف مخيم الشاطئ 23,000 لاجئ فروا من اللد ويافا وبئر السبع والمناطق الأخرى بفلسطين. والمخيم اليوم يعد مسكنا لأكثر من 80,000 لاجئ يسكنون جميعهم في بقعة لا تزيد مساحتها عن 0,52 كيلومتر مربع فقط . “كيف المخيم خلّف كل هالبني آدمين؟ “ضحك زميلي من سؤالي.
وكنا قد وصلنا عند أول شارع السوق، بدا العجوز الجالس هناك كأنه في مكانه من آلاف السنين بنفس الوضعية ونفس الذاكرة ونفس النظرات، بدا كأن أحداً نسيه هناك، سألته” ليه يا “أبو تحسين”طفران؟، أخذ نفس طويل من سيجارة ناوله إياها زميلي،”فش مصاري” قال.
* مشرف عام أسوار برس