الفيلم المُلهم “نحو الأمام، أيتها السوداء”
14 يونيو, 2014
ثقافة و فنون, مقالات
مازن محمد ـــــــ حزيران 2014
كان من الصعب التصوّر بأن أحدا ما، يمكن له أن يتنبأ في مؤلفه بحدث؛ بمستوى حدث الربيع العربي. فقد كان من غير المتوقع، حتى عند أعظم وأذكى رجال الساسة في العالم. فمن كان يظن بأن الزعيم حسني مبارك، والذي يقبض على مصر ويمسك بزمام الأمور في البلد قرابة 30 عاما، ومن حوله أناس تطلب استرضائه دائما. سيجد نفسه ملقا في السجن ضعيفاً كسيراً وعاجزاً. وهل راودت بن علي يوما ما؛ فكرة طرده من البلاد أو فراره مع عائلته بتلك السرعة التي حدثت؟ وأن القابعين في السجن ظلماً، أنهم سيتحررون، وفوق ذلك سيجدون أنفسهم من أكبر وأهم الساسة في تونس.
ولذلك كان من الصعب جداً، الأخذ بحدس وتكهن الصحفي الروسي سيرغي نازاروف. الذي كشف في سيناريو فيلمه الهزلي عن أحداث لثورة تتأجج في مصر. ليس هذا وحسب بل سنرى في سياق نص السيناريو وأحداثه، ما يدل ويتصل بالطبقة الحاكمة في أوكرانيا، والشريحة التي دخلت ساحتها السياسية وشاءت أن تقرر مصير البلد، فالشقراء ذات الجدائل، ومن تلقى حكماً للتجاوزات القانونية والإختلاس. كل هذه الشخصيات لها حضوراً في سيناريو المؤلف، وكأنه يتنبأ بالأحداث وترتيبها حتى في تفاصيلها أحياناً. فظلال تلك الشخصيات الحاكمة تتطاول عبر القرون. والظلال تشكل علاقة ليست مكانية فحسب بل زمانية أيضاً.
لنبدأ القصة من البداية، ونحدّث قرائنا كيف انبثقت هذه الإشراقة وهذا الإلهام عند الكاتب.
هو مهندس ومبتكر في مجال الطاقة ودارس، كما أنه صحفي وكاتب سيناريو. في صيف 2009 بمدينة سانت بطرسبورغ، حيث كان الصحفي المستقل سيرغي نازاروف يعمل على مقالة يرصد فيها ظلم الموظفين الروس. وجد نفسه ولأول مرة بأنه لا يستطيع أن ينهي ألتزامه في الموعد المحدد. اتصل بالمحرر وقدم اعتذاره في عدم القدّرة على إتمام العمل. فما كان من المحرر إلا أن يقترح عليه السفر لمصر في جولة سياحية. نازاروف لم يُقدم على السفر، لكنّ هذا الافتراح أثاره من ناحية وجعله ينشغل بالتفكير بمصر القديمة، ويستزيد بالمعرفة فيما يخصّها، وهو الذي لم يلقي لها بالاً أو أي اهتمام في السابق بهذا القدر. وكان ثمة شيء ما يستحث تفكيره ويدفعه للمضيّ أكثر في البحث والمعرفة عن مصر. وبدت تتراءى أمامه وترتسم صور أشبه بلقطات لفيلم وتتدافع المشاهد في رأسه. وأدرك بأنه يجب ألا يفوّت لحظة الوحي والإلهام هذه. فتولّدت لديه فكرة كتابة سيناريو لفيلم فني تجري أحداثه على أرض مصر القديمة، يعرض فيه الحياة الواقعية الراهنة القائمة. ومُقاساة البسطاء والظلم والجور الممارس من قبل الحكام. والطغيان الذي كان سائداً في الماضي ولازال مستمراً، وما تغيّر سوى أشكاله فقط.
قام سيرغي نازارف بكتابة سيناريو الفيلم تحت عنوان “إلى الأمام، أيتها السوداء” وسارع الى تسجيله وباتت جميع حقوق النشر محفوظة اعتباراً من تاريخ 25.01.2010 وبعد هذا التاريخ بعام كامل، وتحديداً في 25.01.2011 تنطلق الاحداث في مصر وعلى أرض الواقع وبنفس الطريقة، كما خطّها سيناريو نازاروف. لقد ادهشت الأحداث الجميع ولم يكن لأحد أن يتوقع ما جرى. أدرك نازاروف بعد ذلك، أن عليه أن يقوم بهذا الفيلم وتصويره ومن المفروض أن يقدم بلغة الشاشة. وكان الرائع في الأمر أن هناك ثمة من يرغب بالتعاون، وله تأثير وحضور في عالم السينما، ومد يد المساعدة ومساندة نازاروف في تنفيذ مشروعه وتحقيقه، لا لشيء سوى لعدالة الفكرة وصحتها. ولا عجب أن يتلقى السيناريو الإشادة والعديد من الجوائز. وقد يكون من أبرزها جائزة “أفضل سيناريو للعام” التي حصل عليها من قناة تلفزيونية أوكرانية وبشهادة من المخرج الهوليودي خورونجيا.
أما فيما يخص عملية التصوير، فيمكن لنا أن نبوح بالجزء اليسير من تلك العملية، ففريق التصوير مؤلف من محترفين من عدة جنسيات مختلفة، والجميع حريص على أداء مهامه على أكمل وجه. وكما يمكننا القول بأن الفيلم يعدّ من نوعية أفلام “الكوميديا السوداء”. وهنا تجدر الإشارة إلى وضع تشديدٍ عند عبارة السوداء، والتي لطالما استخدمت هذه العبارة بالمعنى السلبي، وترسّخت في الذاكرة الشعبية كلفظة ممكنة للقدح والذم. بينما عند نازاروف، هنا العبارة مقترنة بالتطلّع نحو العدالة الاجتماعية والقدرة على تحقيق الحرية. فأما نحن لا يسعنا سوى الانتظار بشوق لظهور الفيلم والذي من المتوقع له أن يُحدث صدىً طيباً.
لقد سمّى المصريون القدماء بلدهم بعدة أسماء، فمن بينها “كمت” والتي تعني “الأرض السوداء”. تجري احداث الفيلم في فترة انهيار ما يسمى بـ “مصر القديمة” حوالي 2560 ق.م، أي في نهاية عهد السلالة الرابعة على وجه التقريب، وعصر بناة الإهرامات الهام. المؤلف هنا لديه محاولة للإجابة على ما تجنبه علماء الأثار المصرية وما اعتبر دائماً عصياً، صعب التفسير، وهو مؤشرات ودلائل على وجود هندسة دقيقة، وتقنية معقدة وكأنها تضاهي التقنية الحديثة، ودورها في البناء الحضاري العام، ومن ثم الاختفاء المفاجئ لها. من دون أن تترك أي أثر في مناحي الحياة الأخرى، بعد نهاية عهد الأسرة الرابعة ومع الأزمنة اللاحقة لها. فهنا يقدم المؤلف ما يحسبه التفسير المنطقي والوحيد، الذي هو: تأثير حضارة متطورة أخرى، يبينها تفصيلياً في الفيلم. المؤلف يحاول ان يقدم تحليلا للمجتمع، فيقوم بطل الفيلم الرئيس بتعرية نُظم العلاقات الاجتماعية والأقتصادية والسياسية، ابتداءً من أصغر الموظفين مكانة، حتى أكبر المناصب الموجودة فيها.
قصة الفيلم: يعود الشاب ايوفانخ من الصحراء إلى قريته، مسقط رأسه، والذي كان يخدم في الجيش. لكن ما أن يتخطى عتبة المنزل، حتى يتفاجأ بمظاهر “حضارة القرن الواحد والعشرين”. تبدأ الأم هنا والتي طالما انتظرت قدومه معافاً سليماً من الصحراء، بشرح وتقديم منتجات الحضارة الحديثة إليه، التي حلّت في البلاد ومعها الكثير من التقنيات المذهلة والمبهرة من خدمات الماء والكهرباء وإلى آخر ما هنالك من مظاهر التطوّر والتمدّن والتي من المفترض بها، أن تجعل من حياة الناس أكثر أمناً وتساهم في تيسير أمورهم. يذهب الفتى ايوفانخ بعد ذلك للنوم وتحت وسادته موسوعة إلكترونية، وهو مأخوذ بالدهشة والحماس.
يبدأ الشاب يومه مع الأسرة بالذهاب إلى المطعم ويلاحظ أن الكثير من الأمور قد تغيرت ولم تعد كالسابق. حتى التفاعل والعلاقات الإنسانية قد تبدّلت وبات الناس أقل مودّة، أقل عطفاً، أقل صفاء. الإنسان تحول إلى قيمة بضائعية، سلعية. وأصبح لكل شخص تميمةٌ أو طَلمسةٌ تحدد هويته، وحتى الأم قد اصبح لها أسم جديد “سوسانا”، وعند كل بضع خطوات يلاقي رجال الحفاظ على الأمن والمراقبة. لقد غدت الحياة مع كل هذه التحولات الحضارية تثير القلق أكثر مما مضى، وأضحت أخطر مما كانت عليه من زمن خطر التماسيح والأفاعي.
يقابل ايوفانخ صديق الطفولة نيفرتوت، الذي يذكره بإبتكاره القديم وهو “توربين بخاري” ويقترح عليه، أن يوظّف هذا الإنجاز مستفيدا من التكنولوجيا الحديثة المتاحة، ويقوم ببيع حق الامتياز الخاص به. هنا تبدأ جولة الشاب ايوفانخ مع رجال الدولة والموظفين، ويبدأ التصادم مع أصحاب المصالح الضيقة، والمحتكرين وكيان الدولة البيروقراطي القائم. وعندما يبدي مقاومة وإصراراً على المضي لبلوغ هدفه، في تعميم إنجازه والإستفادة من ابتكاره. تلاقيه المراوغات وحيل الخداع، كما تبدأ محاربته من قبل الملّاكين والمحتكرين وأصحاب النفوذ، فتلفّق له التهم وتحاك له المكائد وتتم محاولة انتزاع أملاكه. ينجح ايوفانخ مع صديقه نيفرتوت في الهرب باتجاه العاصمة، مبقياً كل شيء وراءه. وفي خرجته هذه يعلم بأن ابتكاره قد سُرق، وقد تم الاستفادة منه وعلى نطاق واسع. ويقرر عندها ايوفانخ اللجوء إلى الفرعون، وما أن ينجح في مقابلة الفرعون، حتى يتبين له بأن القرارات الحاسمة والمصيرية ليست بيد الحاكم الأول. بل أن الغول العظيم المكوّن من النظام البيروقراطي وكبار الموظفين المدافعون عن مصالحهم الخاصة. يصبحون شرسين للغاية عندما تهتز ركائزهم وتختل دعائمهم. وفي جليّ الأمر، هم من يسيّرون الكثير من أمور الدولة. وتبرز هنا معادلة المواطن الصالح أمام النظام الفاسد، كينونة الإنسان أمام نظم العلاقات السيئة، وقيمة الإنسان في لحظته التاريخية والإنسان كقيمة تاريخية. وإلى ماذا سيؤدي كل هذا في المحيط العام.
على الرغم من المساندة الموعودة من الفرعون، فإن أسرة ايوفانخ تكون عرضة للضياع والتشتت. وعلى المستوى العام تتصاعد حالات النضال ضد الدولة، التي بات جسدها منخوراً ويُنذر بإلانهيار الوشيك. وهنا حيث نصل لنهاية الفيلم. هل تتبدد الشكوك في إمكانية تغيير النظام؟ تبدأ الرمال الحارة بالتحرك ويطفو على السطح تمرد مشكلا حراكا شعبيا ينحو منحى الثورة على الحكم والحكام، على شخوصه وهياكله. فشمس “الأرض السوداء” غدت حارقة.
تعريف للفيلم
عنوان الفيلم: “نحو الأمام، أيتها السوداء” أو “إلى الأمام أيتها السمراء”
المدة: 119 دقيقة
النوع: يعد من الكوميديا السوداء وينحو منحى تراجيدياً، ومضاد للمثالية، وكما أنه يدعو لإعادة النظر في التاريخ.
الموقع الخاص بمشروع العمل “إلى الأمام أيتها السوداء”
forwardblack.com