رحل الشاعر الدبلوماسي، الحنون المجنون، الثائر الحائر، أمير النساء، والدمشقي حتى النخاع نزار قباني في يوم كهذا ومنذ أربعة عشر عاما.
منذ رحيله تيتمت قلوب المحبين و انطفأ بريق عيونهم، فاختفى رسول الحب مخلفا كلماته الحية. ومن الصعب البحث عن كلمات تنساب برقة نزار قباني، و من المستحيل ذكره اليوم دون شجون وأسى، فلندعه يروي حكايته بقوله:
أنا الدمشقي ..لو شرحتم جسدي لسال منه عناقيد. . . وتفاح
ولو فتحتم شراييني بمديتكم سمعتم في دمي أصوات من راحوا
ولد نزار في أحضان عائلة دمشقية عريقة في 21 آذار عام 1923 وكان جده أبو خليل القباني المسرحي التاريخي الذي يحمل مسرح في دمشق اسمه حتى الآن وبعد أن تخرج من كلية الحقوق في دمشق عام 1945 انخرط في السلك الدبلوماسي، حيث عمل متنقلا بين عواصم عديدة كالقاهرة، أنقرة، لندن، ومدريد، ثم بيروت ليعود الى لندن وهكذا حتى استقال عام 1966، واختار أن يعيش آخر خمسة عشر عام في حياته في لندن حيث وافته المنية في 30 نيسان عام 1998 لينقل جسده الى مثواه الأخير في دمشق ولتجر له جنازة في شوارع دمشق والتي سمي أحدها باسمه وتمثلت بوجود حكومي وفني وثقافي كبير.
أحب نزار الجمال ووجد الفن طريقا للتعبير عن حساسيته المرهفة فاهتم بالرسم وأتقن عزف العود، ليصل إلى “الرسم بالكلمات” في أشعار رافقت نزار منذ نعومة أظفاره، فأصدر ديوانه الشعري الأول وهو في عامه الحادي والعشرين تحت عنوان ” قالت لي السمراء” والذي لاقى الكثير من الانتقادات لأنه كسر حاجز المحظور والخطوط الحمراء في العالم العربي، تلاه 35 ديوان شعري شكلت ارثا ثقافيا يستقي منه من لحقه من كتاب الشعر الحديث.
تزوج نزار مرتين، كانت زوجته الأولى زهراء أم أطفاله توفيق وهدباء لكن زواجه لم يدم طويلا، فنزار لا يستطيع الاستمرار دون شغف الحب ولا يتصنعه أبدا و نعرفه محايدا يوما في أشعاره فإما أن يكون العاشق المتعبد لمحبوبته أو الخائن الذي يبلغ الذروة بنذالته. لامس نزار الخاص في الحياة وأفصح عن خباياه بصراحة أكست حتى وجنات الشباب من قرائه بالاحمرار.
حمل الحرية إلى عوالم المرأة العربية، فعلمها الحب و ذوقها طعم الحرية في أشعاره التي بررت قصصه الغرامية المتوالية حتى وجد قلبه مأواه في أحضان زوجته الحبيبة بلقيس العراقية، لكن حبهم كان مصيره تراجيديا بعد أن خطف الموت بلقيس وهي في ريعان شبابها بتفجيرات السفارة الأمريكية في بيروت عام 1982،تتالت المآسي عليه موت ابنه الوحيد توفيق وهو في عامه السابع عشر اثر نوبة قلبية فرثاه الأب في قصيدة “الأمير الخرافي توفيق قباني”.ومنها :
أشيلك، يا ولدي ، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة دمشقية .. وبقايا قمر
كشفت النكسة العربية عن الوجه الوطني المتحمس لنزار الوطني فتوجه إلى العروبة في قصائده واصطبغ حبه بألوان اليأس ليكتب في “هوامش على دفتر النكسة” التي شكلت إعصارا في أدب المعاصرين ومنعت في عدد من الدول العربية:
يا وطني الحزين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين
غنت أيقونات موسيقى العالم العربي أشعاره أمثال أم كلثوم في “أصبح الآن عندي بندقية “أما “قارئة الفنجان” فحولها عبد الحليم حافظ لإرث فني مصري إضافة لأغاني فيروز. كما أن النجوم المعاصرين تغنوا بأشعاره التي أصبحت وصفة سحرية لنجاحهم أمثال كاظم الساهر وماجدة الرومي.