نبيل عودة / تنقلت أمنياته بين الأحلام واليقظة مرات عدة، لفترات تطول او تقصر بلا ضوابط او رقيب. يسعد وينتشي في الحلم ، يتسامى ، يهنأ ويغيب بذهنه بعيدا.في اليقظة تتملكه الكآبة والسوادوية، تعصف به الوحدة، يغوص بالام نفسه، حزينا ، يائسا، ساخطا، غاضبا، لا يميز بين ليله ونهاره، بين فجره وعصره، بين بصره وبصيرته، بين اذنه ولسانه، بين يده اليمنى ويده اليسرى.
حين يرى نفسه بأحلامه محمولا على أكف مريديه عاليا فوق اكتافهم يتمنى الا يؤول الحلم الى انتهاء، أن لا تتوقف الأمنيات، اللهم لا تضيع رغباتنا، لا تفشل احلامنا، اجعل وهمنا حقيقة ولا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا الى هدفنا وجعلتنا قاب قوسين او أدنى من كرسي رئاسة البلدية.
في صحوته يتمنى ان يستمر الحلم، ان لا تتوقف الأمنيات، حتى لو كان في باطنه يشعر بتزايد بعدها عن حلمه، الحلم يخفف الكآبة، يطمئن النفس حتى بالوهم، يعيش خيالاته لدرجة يظن انه سيفتح عينيه وإذ هو في المنصب المنشود، صوره الضخمة سبق با كل المرشحين، دفاتر الوعود من الأول حتى الخمسين فيه وعود تزيد عن ميزانية وزارة الدفاع الاسرائيلية، الناس حوله تصفق وتهنئه بالنصر. كتب معا نحو النصر القادم… هل كان له نصر سابق؟ خوفه من صدمة الفشل التي تساوي في حسابه ضربة كهربائية بقوة عشرة الاف واط ، قد يستغرقه الأمر شهرا قمريا كاملا حتى يصحو منها الى عالم الواقع. بعض المرشحين يقولون انهم رأس الحكمة وان قائمتهم ترفع الرأس. لم يقولوا ترفع رأس من، وأي رأس ترفع؟ الأفعى أيضا ترفع راسها!!
اذا كان لا بد فليتوقف الزمن ، يتجمد المكان، تكف الأرض عن الدوران، حسب الكذبة الصهيونية.. استطلاعات الانترنت اعطته تفوقا، انتشى، الأمر لم يكلفه اكثر من النقر على الخانة الملاصقة لأسمه، وكذا فعل أصحابه، بل تفاخر بغضهم بانه كرر النقر كل دقيقة، لعل الرئيس القادم يضاعف ما وعده به.
هل من مرشد؟ هل من مالك للأحلام يحققها له؟ كان يعرف ان رحلة الأحلام سوف تنتهي، كما انتهت رحلات سابقة.هل ستكون رحلات أخرى لاحقة؟ كيف يحافظ على الحلم حيا متوهجا؟ كان يعلم ان تلاشي الحلم، بدون انجازه، يعني تآكل النفس وانفضاض المصفقين والطامعين بمناصب ، والراغبين بشطب الديون وأصحاب الطلبات الخاصة وابناء العائلة ومطالبي أجرة التصفيق .. والقائمة طويلة توجع الرأس .. كان يوزع الوعود شمالا يمينا، لم يقل تمهلوا لنر الوضع بعد الوصول للمراد، لا وصول للمراد بدون وعود، سيعود حتما لليقظة، ما أصعب اليقظة وقصر ذات اليد في تلبية ما التزم به. الرغبة في المنصب مجنونة. ترى كيف ستكون أيامه الأولى بعد الترحيب ومهرجان الانتصار؟ يبحث عن جواب، يجزع ويغرق بذاته.
حساباته تشير ان الفرحة قد حانت، الامكانيات موجودة، صوره الضخمة لن تذهب سدى. ها هي حسابات السرايا على الورق تفرح القلب ولكن الخوف من حسابات القرايا في الصناديق.الإمكانيات موجودة، الرضا ممن هم فوق قائما، الدعم جاهز. حتى قميص عثمان فصل خصيصا ويؤدي دوره الممتاز. ربما لن تكون فرصة أنسب. إذا راحت عليه الآن راحت عليه على طول. القبضة قدر الهدف، غير ان الواقع يبدو زئبقيا.يبحث عن سبب عما هو فيه، ينقب عما ينقصه لينقض الانقضاض المضمون والأخير. أعصابه لا تحتمل التأجيل. كل الحسابات أحكمت.لا تزال سوى خطوة، ولكنها تبدو إمام حاجز مستحيل.. خطوة غير قابلة للتنفيذ. يراجع تاريخه القريب والبعيد، يتأمل ما مر عليه ويأمر بمزيد من الصور!!
أحدهم اكتشف انه زعيم، كما اكتشف كولومبوس أمريكا، كانوا يتظاهرون وكانت مشاعره معهم، لذا خط في منشور له انه صاحب مواقف وطنية. وكتب رسالة قرأها احدم بتنحيف القاف .
حين اشتغلت هراوات الشرطة فوق رؤوس أهل بلده ، في موقفهم الشهير يوم الأرض ومواقفهم استنكارا لمذابح صبرا وشاتيلا، الخليل ومفرق الورود، لم يؤيد هراوات الشرطة. هذه حقيقة يجب ان تقال. لم يتظاهر حرصا على سلامة رأسه. هذا مكسب للجماهير ، إذ صان نافوخه سليما معافى ليملأ الوظيفة رفيعة المستوى التي يعد نفسه لها،على الأقل يبقى رأسا واحدا سليما.. وهي كلها حسابات لمصلحة الجماهير!!
كان دائما يرى نفسه رئيسا لبلدية، رأى المهمة ملائمة لقدراته وقد أشغلته طويلا. كثيرا ما ارتعش لها قلبه واحتلت مكانا مرموقا بأحلامه، الأمر الذي مده بلحظات رائعة من التجلي.
رأى نفسه رئيسا لبلدية، الموظفين من حوله، أصحاب القضايا يدخلون ويخرجون، الكل ينتظر ما تنفرج عنه شفتاه. سجل يومه مليء بالمقابلات والتشريفات، جلسة مع مدير وزارة، فطور عمل مع حاكم لواء، لقاء مع صحفيين، مقابلة مع مدراء مدارس، دقائق مخطوفة للقاء الجمهور،غذاء مع سفير، يوقع أوراقا ذات دلالات مهمة وهو في عجلة من أمره، سكرتيره يلحقه حتى باب السيارة الفاخرة ليعلمه عن آخر برنامج في يومه الطويل، يكتشف أن له عشاء عمل مع وزير ما، ينظر في ساعته حائرا من أمره، يعطي أوامره للسائق لكي ينطلق بسرعة لئلا يتأخر عن موعد الوزير…
هكذا يتخيل أيامه التي لا بد أن تأتي.. ولكن للأسف يصحو من حلمه الجميل على واقع كئيب حيث يتجمع من حوله بعض المؤيدين الذين لا يهمهم من دنياهم إلا التسبيح بحمد الله باحثين عن أحسن الطرق لضمان الآخرة ووظيفة لابن العائلة حين يصبح زعيمهم رئيسا لبلدية في هذه المعمورة وإلغاء الديون المتراكمة من أثمان المياه والضرائب البلدية..
يريدهم جندا ليحقق ما تصبو إليه نفسه، الثمن المطلوب غير مهم، لن يدفع من جيبه.هكذا كان في السابق وهذا هو منطق الحياة. سيصل لما يريد ولن ينساهم حين يحتضنه المقعد . الوعود لا تضر أحدا. حتى رئيس الوزراء والوزراء يوزعون وعودا لا ينفذونها ، تظل حية لا تموت، فلماذا لا يحتذي بمن هم ارفع في سلم القيادة؟
لا بد ان يصبح عظيما. يرى ذلك في أحلامه. يراه بقناعته الذاتية بنفسه، يراه بقدرته على نثر الوعود وكسب تعاطف الموعودون.
أحيانا يقول لنفسه ان الطريق الأمثل هي الذهاب لمكتب العمل والتسجيل كرئيس بلدية عاطل عن العمل يبحث عن وظيفة رئيس بلدية فقط لا غير… لعل وعسى يأتي الفرج من هناك.
أحيانا يرى نفسه يبحر في بحار شاسعة لا نهاية لها، تائها لا يعرف اتجاها لكي يوجه دفة سفينته إليه، يحط في جزيرة نائية غير مسكونة. روبنسون كروزو جديد، طبعة جديدة لعصر مختلف، لكنه يخاف البحار، يخاف الوقوع في بحار متجمدة، ثم ما الضمانة لوجود جزر خالية من رئيس بلدية؟ وما الضمان الأهم ان يجد سكانا في جزيرته الموعودة، لكي يصبح رئيسا لبلديتها ؟ وهل ينفع رئيس بلدية على ارض بلا سكان؟
بدأت عصبيته تشتد، راح يطلق التهم على عواهنها. مرة يتهم منافسيه بقصور في رؤيتهم، إذ أن عجزهم واضح مبين في معرفة ما يسوون أمام طلعته البهية، تألقه المرتقب، إلمامه بالحضارة العربية العريقة، ولا ضرورة لكلام زائد يكشف انه لا يحفظ إلا العناوين.
أحيانا يرى ان المتهم هو أسلوب التعليم المتخلف والمتستر وراء صياغات التقدم، حيث يتم حشو عقول الطلاب بما هب ودب من معلومات تجعلهم وقحين وبعيدين عن رؤية استحقاقه لرئاسة البلدية.
الويل لهم.. يحشون عقول الطلاب بما يسمى البيولوجيا وبدعة استعمارية تسمى الكيمياء، واستفزاز كافر يسمى الفيزياء، وانحطاط خلقي يسمى علم الأزياء بدل ان يعلموا الطالبات الطبخ وأصول تنظيف الملابس وغسل قدمي الزوج. وفسق آخر يعلم اسمه السياحة، .. ربنا هبنا الحماية من هذا الفسق، احمنا مكر الشيطان الكيميائي الرجيم، ربنا لا تزغ قلوبنا وراء الفيزياء والأزياء،اللهم وفر لنا الحماية من هذا الباطل،ابعد عنا كفر المجلس البلدي القائم ورئيسه، انزل عليهم من لدنك نارا ودمارا، أنقذ عقول شبابنا وبناتنا وردهم للسبيل القويم.
بعض مريديه المتألمين مما هو به، نصحوه ان ينشر إعلانات للبحث عن وظيفة رئيس بلدية بالصحافة المحلية والأجنبية، لعل إحدى البلديات في المعمورة تبحث عن رئيس دون علمه، فيلتئم شمله على ما ترغب به نفسه. فكر بالاقتراح لبرهة، ثم هز رأسه رافضا الفكرة حتى لا يقال عنه رئيس بلدية عاطل عن العمل.. أو رئيس بلدية مع وقف التنفيذ.
قالوا له هذه حال الدنيا في أيامنا، البطالة منتشرة حتى في صفوف الوزراء، انظر الحكومة فقد خفضت وزرائها من 35 إلى 22 ،ودمجت مجالس بلدية ومحلية لتختصر عدد الرؤساء، بل وهناك اختصار في رؤساء الحكومات، يعيدون نفس رئيس الحكومة مرة وراء أخرى ، رغم رفضهم لكل سياساته ولكن الهدف الأكبر أن لا يصبح عدد رؤساء الحكومات السابقين كبيرا مما يثقل على ميزانية الدولة وجيب الجمهور.
قال بعد تفكير عميق انه لم يجرب بعد كل الطرق، أنصتوا إليه متسائلين عن الطرق التي لم تجرب بعد؟ ابتسم ابتسامة تليق برئيس بلدية، غير عاطل عن العمل وقال: “النبوت”!!
تلاقت الأعين الورعة وتساءل بعضهم: “وهل بالنبوت تضمن الجنة أيضا؟”
فطمأنهم بان المهم النيات، فحمدوا ربهم واطمأنت هواجسهم ونفوسهم على آخرتهم، وقاموا إلى عشائهم قبل أن يبرد!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: كل تشابه بين ابطال هذه القصة وبين اي مرشح لبلدية في بلادنا او في اسبانيا ، هي بمحض الصدفة فقط . ليس شرطا ان الطامح بكرسي رئاسة بلدية رجلا، الصياغة لا تعني استبعاد المرأة .. لأنني اؤمن بالمساواة الكاملة غير المنقوصة في الطموح لرئاسة بلدية للنساء ايضا ولو في قطر!!