نصف جمال عبد الناصر .. الآخر
28 سبتمبر, 2016
مقالات, ملفات خاصة
تصادف اليوم الذكرى السادسة والأربعون لرحيل جمال عبدالناصر. وعلى رغم مرور ما يقرب من نصف قرن على رحيل الرجل، فإن ذكراه لا تزال عطرة في قلوب الكثيرين وعقولهم. ومع ذلك ففي تقديري أن الجيل المعاصر من الشباب العربي، والذي ربما يكون قد قرأ شيئاً عن التجربة الناصرية، لكنه لم يعشها ولم يتفاعل معها في شكل مباشر، لا تزال لديه تساؤلات حائرة عما حدث لعالم عربي بدا فتياً أيام عبدالناصر، حتى في أحلك لحظات الانكسار، لكنه أصبح اليوم مجرد حبات رمال تذروها الرياح. للتجربة الناصرية وجهان، كثيراً ما يتم الخلط بينهما على نحو متعمد. الأول يعكس جانبها المشرق، ويعبر عنه المشروع السياسي لـ «ثورة يوليو»، والثاني يعكس جانبها المعتم، ويعبر عنه النظام السياسي الذي تولى وضع هذا المشروع موضع التطبيق. نقصد هنا بمصطلح «المشروع السياسي لثورة يوليو» مجمل السياسات والأفكار المعبرة عن رؤية عبدالناصر ومواقفه من مجمل قضايا العمل الوطني، كقضايا الاستقلال والتنمية والوحدة وعدم الانحياز وكيفية التعامل مع المشروع الصهيوني في المنطقة…إلخ. أما مصطلح «النظام السياسي»، فنقصد به مجمل المؤسسات والأجهزة التي تولت وضع هذا المشروع موضع التطبيق. توحي السيرة الذاتية لجمال عبدالناصر بأنه لم يسعَ إلى الالتحاق بالكلية الحربية بحثاً عن نجوم يضعها لتتلألأ فوق بزة عسكرية يختال بها، أو شوقاً إلى بطولات يحلُم بتحقيقها في ميادين قتال. فالواقع أن وعيه السياسي تفتَّح في مرحلة مبكرة من حياته، بدليل مشاركته في تظاهرات طلابية وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة. واقترب من صفوف أحزاب وجماعات سياسية غير تقليدية كحزب «مصر الفتاة» وجماعة «الإخوان المسلمين» وبعض الحركات اليسارية، وأقبل على القراءة بنهم في شتى فروع المعرفة. وحين فشلت محاولته الأولى لدخول الكلية الحربية، اختار الدراسة في كلية الحقوق ومكث فيها ستة شهور قبل أن تنجح محاولته الثانية للالتحاق بالكلية الحربية.
ويُستشَف من هذه المسيرة أن رؤية سياسية شبه ناضجة كانت قد تشكلت في ذهن الفتى جمال عبدالناصر حتى قبل أن يلتحق بالكلية الحربية. وربما يكون قد وصل في تلك المرحلة المبكرة إلى قناعة مفادها أن الأحزاب السياسية القائمة في ذلك الوقت عاجزة عن تحقيق الطموحات الوطنية وأن الجيش ربما يكون هو الأداة البديلة لإحداث التغيير المنشود. وقد يستشف من قائمة قراءاته في العلوم الاستراتيجية وفي السير الذاتية لكبار القادة والزعماء التاريخيين إبان فترة دراسته في الكلية الحربية أنه ربما يكون قد بدأ يفكر في إعداد نفسه لدور تاريخي ينتظره، وهو ما يفسر انخراطه النشط في خلايا سرية كانت تموج بها القطاعات المختلفة، بما فيها الجيش، ثم انتخابه في دورتين متتاليتين رئيساً لما أصبح يعرف بعد ذلك باسم «اللجنة التنفيذية لمجموعة الضباط الأحرار» التي فجَّرت «ثورة يوليو» في العام 1952.
يلفت النظر هنا أمران على جانب كبير من الأهمية، الأول أن قيادة عبدالناصر لتنظيم «الضباط الأحرار» لم تكن موضع منازعة أو تشكيك من جانب أي من زملائه، قبل نجاح الثورة وبعده، ما يؤكد أنه تمتع بشخصية توافرت لها السمات القيادية التي أهلتها في ما بعد لتصبح واحدة من أهم الشخصيات الكاريزمية في تاريخ المنطقة. والثاني أن تشكيل «الضباط الأحرار» عكَسَ مجمل ألوان الطيف الفكرية والسياسية الرئيسة للحركة الوطنية المصرية على اختلاف روافدها، وهو الأمر الذي عبَّرت عنه مجمل سياسات ومواقف «ثورة يوليو» في ما بعد، وأهلها لتصبح امتداداً طبيعياً – على الصعيدين السياسي والفكري – للحركة الوطنية المصرية المرتبطة عضوياً بالتيار العروبي في الوقت نفسه. لقد نجح عبدالناصر في تغيير وجه الحياة، لا في مصر وحدها وإنما في المنطقة ككل، بل وأسهم بقسط وافر في تغيير النظام الدولي. وعلى رغم ارتكابه أخطاءً فادحة عدة، تسبب بعضها بكوارث كبرى كانهيار الوحدة بين مصر وسورية في العام 1962 وتمكُن إسرائيل من احتلال سيناء والجولان وما تبقى من فلسطين عقب هزيمة العام 1967، فإن أحداً لم يشكك قط لا في نبل الدوافع الوطنية والقومية للرجل ولا في نزاهته الشخصية غير القابلة للفساد والإفساد، وهو ما يفسر التفاف الشعب المصري والشعوب العربية حوله حتى في لحظات الانكسار والهزيمة. مشاهد كثيرة جسَّدت شعبية عبدالناصر الطاغية في أوقات مختلفة: حين حملت الجماهير السورية سيارته على الأعناق إبان زيارته الأولى لدمشق عقب إتمام الوحدة مع مصر في العام 1958، وحين خرجت الملايين يومي 9 و10 حزيران (يونيو) 1967 تطالبه بالعدول عن قراره بالتنحي، وحين خرج الشعب السوداني لاستقباله إبان زيارته لحضور مؤتمر القمة في الخرطوم، وأثناء المشهد الجنائزي المهيب في وداع جثمانه إلى مثواه الأخير. هذا التعلق الجماهيري بشخص عبدالناصر إلى حد الهوس، عكَسَ تأييداً شعبياً واضحاً للمشروع السياسي لـ «ثورة يوليو»، ومن خلاله برز وجه عبدالناصر المضيء.
غير أن للتجربة الناصرية وجهاً آخر معتماً عكَسَه نظام حكم اتسم بتركيز شديد للسلطات وحزب واحد يروج لسياسات الزعيم. فلم يكن بمقدور نظام كهذا أن يدرك معنى وضرورة وجود تعددية فكرية وحزبية، وأهمية وجود مجتمع مدني قوي، والحاجة الماسة إلى استقلال القضاء والفصل بين السلطات…الخ. لذا كان من الطبيعي أن يتضاءل دور الحزب في صنع السياسة، وأن تتضخم أدوار الأجهزة الأمنية التي سمح لها بارتكاب تجاوزات كثيرة، وأن تسود أجواء تسمح بظهور صيغة لعلاقة غريبة بين القيادة السياسية ممثَّلة في شخص جمال عبدالناصر والقيادة العسكرية ممثَّلة في شخص المشير عبدالحكيم عامر، أصبح من الصعب وضع حد لآثارها الكارثية إلا بانتحار المشير (أو اغتياله وفق بعض الروايات) وبعد فوات الأوان بوقوع الهزيمة. صحيح أن وجود عبدالناصر على رأس النظام شكَّلَ ضمانةً كافيةً لاستمرار مشروع الثورة، على رغم كل الأخطاء، إلا أن رحيله المفاجئ أدى إلى انكشاف النظام السياسي ومهَّد الطريق لتصفية هذا المشروع تماماً وبعد فترة وجيزة. لذا يمكن القول إن النظام السياسي أسقط المشروع السياسي بعد أن سمح بتفكيكه والانقضاض على منجزاته تدريجياً. ومن المفارقات أن النظام السياسي الذي أفرز نمط «الرئيس الزعيم»، ممثلاً في شخص عبدالناصر الذي ودَّعه الشعب عند وفاته الطبيعية المفاجئة محاطاً بمشاعر الحب والإجلال على رغم هزيمة 1967، هو النظام نفسه الذي أفرزَ نمط «الرئيس المقامر» ممثلاً في شخص الرئيس الراحل أنور السادات الذي اغتيل في ذكرى «نصر أكتوبر». وهو النظام الذي أفرز نمط «الرئيس الموظف» ممثلاً في شخص حسني مبارك الذي أطاحته ثورة شعبية كبرى وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات. على رغم كل الحب الذي حظي به عبدالناصر في حياته وعند مماته، فإن تقويم دوره التاريخي ما زال محل جدال. فبينما يُعلي بعضهم قدر عبدالناصر ويرفعه إلى مرتبة القديسين، يصر آخرون على الحط منه ويحمّلونه المسؤولية كاملة عن حال التردي التي وصلت إليها الأوضاع العربية اعتقاداً منهم بأن بذورها غُرِسَت في عهده. ومع ذلك فبوسع كل متابع مدقق لتفاصيل هذا الجدال أن يستنتج بسهولة أن معظم المدافعين اليوم عن عبدالناصر يتخذون من دفاعهم هذا ذريعةً لتبرير عودة المؤسسة العسكرية للهيمنة على الحياة السياسية من جديد، معتبرين أن الجيش أصبح الضامن الوحيد للمحافظة على سلامة الدولة في منطقة مضطربة ومستهدفة، وأن معظم المهاجمين له يتخذون من هجومهم عليه ذريعةً لتبرير الطموحات السياسية لجماعات الإسلام السياسي، التي باتت الأكثر تعبيراً عن إرادة الشعوب كما تعكسها صناديق الاقتراع. وحين يتخذ الجدل الدائر حول عبدالناصر ودوره في التاريخ مثل هذا المنحى، تبدو شعوب المنطقة وكأنها باتت محشورةً بين مطرقة جيوش تسعى إلى فرض هيمنتها باسم الدولة، على أساس أنها الأقدر على حمايتها في مواجهة مؤامرات تستهدف تفكيكها، وسِندان جماعات تسعى إلى فرض هيمنتها باسم الدين، معتبرةً أنها الأقدر على حفظه وعلى تطبيق شريعته. وفي تقديري أن هذا التعميم والخلط الشديد للأوراق قد يفضي إلى طمس الحقائق التاريخية وتشويه الأدوار الحقيقية للقادة والزعماء الكبار. إذا كان هناك من درسٍ صحيح يمكن استخلاصه من تجربة عبدالناصر في ذكرى رحيله، فهو أن نظام الحكم الديموقراطي هو وحده القادر على حماية أي مشروع وطني وصيانة المكاسب الجماهيرية التي يمكن أن تتحقق من ورائه على المدى الطويل. وهذا هو الدرس الذي يتعين على القيادة السياسية الحالية في مصر أن تعيه جيداً.