مُطيع وتقـّي وكفاءة
11 أبريل, 2012
مقالات, ملفات خاصة
سامح سمير/ ربما يكون هذا موجز لقصة سنقرأوها أو فيلم أو مسلسل سنشاهده ، وربما واقع سنعيشه بل وسنشارك في صنعه أيضا.
وهي قصة رجل أعمال ثري جدا لديه تاريخ طويل من الحضارة والبناء والعرق والكفاح والعمل والابداع الذي تبلور بوجود مجموعة إستثمارية ضخمة تحتوي على شركات ومشروعات عديدة صناعية وزراعية وتجارية وسياحية وخدمية وإعلامية ويعمل فيها عدد كبير جدا من الموظفين من الجنسين .
وكان له ثلاثة من الأبناء شابّان وفتاة هم، مطيع وتقي وكفاءة ، أخلص في تربيتهم وتعليمهم
حيث انهوا جميعهم دراستهم العليا في مختلف التخصصات .
مطيع كان قد تخرج في احدى الكليات العسكرية وبعد فترة من العمل في الجيش إستقال وتفرغ للعمل مع والده في المجموعة ، أما تقي فتخرج في كلية أصول الدين حيث كانت دراسته دينية.
أما اختهم كفاءة فقد تخصصت في مجال الحاسب الألي ثم واصلت دراستها وحصلت على درجة الدكتوراة في ادارة الاعمال من أعرق الجامعات .
وكانوا جميعا يعملون مع والدهم تحت قيادته وتوجيهاته بالاضافة الى أنشطتهم وهواياتهم الخاصة فمطيع كان يهتم برحلات الصيد والسياحة ومسابقات الرماية ، وتقي بحضور الدروس الدينية في المساجد ومتابعة اخبار المشايخ من مختلف التوجهات ، وكفاءة بحضور الندوات والمؤتمرات العلمية والأمسيات الثقافية والبحث عن كل ماهو جديد ومفيد .
وفيما يخص علاقتهم بوالدهم كان مطيع دائم الطاعة لوالده أي طاعة عمياء لا يناقشه ولا يجادله .
لم يكن الامر كذلك دائما بالنسبة لتقي وكفاءة فكانوا ايضا يحترمون ويطيعون والدهم ولكن ليست طاعة عمياء فكانوا أحيانا يجالدونه ويعارضوه طبقا لوجهة نظرهم ومرجعيتهم ، فتقي كان يرجع دائما الى اراء المشايخ والفقهاء ويغرق بين اختلاف المذاهب حتى لو كان في امر يتعلق بالعمل، وكفاءة كانت ترجع الى العلم والمنطق والضمير ومصلحة العمل بما يتماشى مع المتغيرات والظروف وكانت تنظر الى الامور بنظرة حيادية ونزيهة تخضع لحساب الارباح والخسائر والصح والخطأ .
وذات يوم اشتد المرض على الأب حيث أنه كان مسنا لدرجة أن الأطباء نصحوه بالبقاء في المنزل وملازمة الفراش حيث أن صحته لم تعد تتحمل ضغوط العمل وتسيير أمور هذه المجموعة الضخمة .
فوجد الأب نفسه لم يعد أمامه الا أن يفوّض أحد أبنائه ليترأس مجلس ادارة المجموعة
ففكر طويلا ثم وقع إختياره على مطيع ليس لأنه الأكبر ولكن نظرا لتوفر فيه الشرط الذي رآه مناسبا طبقا للمعيار الذي هداه اليه تفكيره في هذه الوقت وهو معيار الطاعة والولاء .
فتسلّم مطيع منصب رئيس مجلس الادارة حيث اكتسب شرعيته من خلال طاعته وولاءه المطلق لوالده ، وبدأ يمارس العمل من خلال هذه الرؤية حيث أنه هو بدوره أخذ في تعيين المدراء ورؤساء الاقسام الموالون له والمطيعون له واهتم بمجده الشخصي ووجاهته وحفلاته وسهراته ومسابقاته ورحلاته والظهور في وسائل الاعلام أكثر من وجود عمل وتقدم حقيقي .
واصبح كل رئيس قسم او مدير شركة يتصرف كأنها ملكه ويديرها لحسابه حيث يستمد ثقته من ثقته في ثقة من وثق فيه وهكذا فعّم الفساد وكثرت المحسوبيات ولم يعد هناك انتاج حقيقي وهبطت اسعار أسهم المجموعة في البورصة وكثرت شكاوى العمال من تاخر وضعف المرتبات والحوافز بالمقارنة بساعات العمل وبما يحصل عليه الرؤساء والمدراء والمشرفين وهددوا اكثر من مرة بالاضراب عن العمل .
فنظرا لتردي الأوضاع إستدعى الأب أبناؤه وبعد مشاورات ومداولات قرر عزل مطيع من منصبه ، ولكن واجهته نفس المشكلة مرة أخرى وهي من سيختار هذه المرة ففكر طويلا ثم وقع إختياره على تقي متجاهلا للمرة الثانية ابنته كفاءة ، ربما لانها بنت أو ربما لان المعيار الذي يتم الاختيار على اساسه كل مرة لا ينطبق عليها .
حيث أنه قرر هذه المرة أن يختار طبقا لمعيار التقوى والهوية الدينية فرجحت طبعا كفة تقي حيث كان من أصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة .
فتسلم تقي دفة السلطة فكان أول قرار إتخذه منع الإختلاط في العمل وفصل الذكور عن الإناث فصرف جزء كبير من ميزانية المجموعة من اجل انشاء وشراء مكاتب مستقلة هنا وهناك ، وكل موظفه تريد أن تتحدث اليه يكون من وراء حجاب .
وأغلق مصنع للملابس الداخلية النسائية واخر لادوات التجميل وشركة لانتاج الفني بحجة المساهمة في الفسق والفجور.
وأيضا شرع في تعيين من هم على شاكلته ، متجاهلا المشاكل الاساسية التي تمر بها المجموعة من مشاكل وتحديات اقتصادية واستراتيجية وتكنولوجية وفنية ونقص كفاءة وخبرات ووعي العاملين .
وفرض برامج وملابس وديكورات ومأكولات ومشروبات معينة على الشركات والمنتجعات السياحية فقل عدد السائحين وضعفت الايرادات .
فهبطت أسعار أسهم المجموعة مرة اخرى هبوطا حادا وترك العمل عدد كبير من الموظفين وأغلقت عدد كبير من الشركات والمصانع.
فثارت الاخت الصغرى كفاءة في وجه أخيها تقّي كما ثارت سابقا في وجه مطيع ناصحة له ومؤنبة له على سطحيته وقصر نظره ومحاولة لانقاذ ما يمكن انقاذه حيث طلبت منه أن يتنحى عن منصبه ويعطيعها الفرصة لتضع كفاءتها وخبرتها في خدمة تاريخ والدهم وحفاظا على ثروتهم قبل أن تغرق المركب ومن عليها ، ولكن محاولاتها باءت بالفشل حيث نهرها أخوها كما فعل مطيع من قبل وطلب منها أن لا تتدخل في شئون الرجال ولا تقف في طريق إرادة الله.
وظهر على السطح مرة أخرى مُطيع حينما رأي تدهور الاوضاع محاولا أن يدلو بدلوه مجددا فلم يسمح له أخوه تقي بحجة أنه اخذ دوره من قبل وفشل ،ولكن مطيع لم ينسحب بل انشق هو وبعض انصاره بجزء من المجموعة وهكذا كثرت الصراعات والانشاقاقات والبحث عن المصالح الشخصية داخل المجموعة فإزداد الوضع سوء على سوء.
وصلت الاخبار الى مسامع الرجل المريض فلم يتحمل وأصيب بالشلل التام بعد أن اعتصره الالم والحزن على تاريخه وأمجاده وانجازاته وعلى ضياع الصرح العظيم الذي بناه والمعبر عن حضارة وعرق وكفاح .
اخذت الصراعات والانشقاقات تتعاظم واتخذت شكل الحرب بين مطيع وانصاره من جهة وبين تقي وانصاره من جهة كل يحاول فرض وجهة نظره وطريقته ومرجعيته في الادارة على امل اصلاح ما فسد وبناء ما تهدم، حاولت أختهم كفاءة أن تكون كحمامة سلام بينهم ودعتهم مرارا وتكرارا أن يسمعوا صوت المنطق والضمير وطلبت منهم ان يعطوها الفرصة لتتولى هي قيادة الامور ويعودوا هم الى صفوف العاملين بعدما ثبت فشلهم في الادارة وأن يغلبّوا الصالح العام على الصالح الخاص ولكن كل مجهوداتها ذهبت هباءا .
وماذا بعد الشلل سوى الموت حيث توفى الاب على اثر ما عناه من حسرة وندم .
وتفتتت المجموعة الى ورش ومحلات لا معنى ولا قيمة ولا وزن لها متناثرة هنا وهناك.
وشعرت كفاءة بالغربة في وطنها والجرح والحزن العميق على ضياع ثروتها وثروة وتاريخ والدها وعلى مصير أخويها حيث مصيرهم الفناء وماذا بعد التفتت الا الفناء فهذا لم تنفعه طاعته العمياء وتفكيره في مصالحه الخاصة القصيرة المدى ونزواته فقط وهذا لم تنفعه سطحيته والاهتمام بالمظهر دون الجوهر وتشدده بغير معنى ولا هدف .
فهامت على وجهها مثل الطير الجريح تتنقل من بلد الى آخر إلى أين والى ماذا والى متى ….
ربما هذا ماسنقرأه أو سنراه أو سنعيشه قريبا …،
هذا اذا كان هناك علاقة بين هذه القصة وبين ما حدث ويحدث وسيحدث في عالمنا العربي الجريح بعد ما حدث من ثورات في وجه من تولّوا القيادة طبقا لمعيار الطاعة والان مع زحف معيار التقوى ولا نقول المتاجرة بالدين واستغلال الهوية الدينية فالله اعلم بالقلوب والنوايا، لا ندري ماذا سيحث ولكن الاكيد الاكيد أننا لو ابتعدنا عن معيار الكفاءة لن نسير في الطريق الصحيح ولن تكون هناك نتائج محمودة.
كييف- اوكرانيا
11-4-2012