عريب الرنتاوي/ في مصر، تكونت المعارضة لنظام مرسي من خليط غريب عجيب، عسكر وقوميون ويساريون وعلمانيون وليبراليون وفلول … في أوكرانياً، ليست جميع المعارضة من “صنف الملائكة”، هناك قوميون متشددون، وهناك نازيون “تكفيريون” بامتياز.
عجزت المعارضة الأوكرانية عن حشد تظاهرة مليونية واحدة ضد حكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش … كل الأرقام التي تم تداولها زمن تظاهرات المعارضة واعتصاماتها، تحدثت عن عشرات ألوف المحتجين، بعض أكثر الترجيحات صديقة تحدثت عن خمسين ألف متظاهر … ومع ذلك، لم يتردد الغرب في اعتبار ما جرى “ثورة شعبية”، شرعية ومشروعة، وسارع للاعتراف بالحكم الجديد، وبدأ بوصف الرئيس المنتخب بالرئيس السابق، وتتالت التحذيرات لروسيا من مغبة التدخل وعرقلة مسار الانتقال الديمقراطي في دولة يربو عدد سكانها عن الخمسة والأربعين مليون نسمة.
حدث شيء أكثر جدية في مصر، ملايين المصريين خرجت للشوارع في الثلاثين من يونيو 2013، البعض قال 20 مليوناً والبعض رفع العدد إلى ثلاثين، والبعض هبط به إلى 15 مليوناً، لكن المؤكد أنها كانت ثورة مليونية بكل ما للكمة والمعنى، وإذا إخذنا الفارق في تعداد سكان مصر وأوكرانيا (الأولى ضعف الثانية)، فإن من خرجوا في الثلاثين من يونيو، هم أضعاف مضاعفة لمن تظاهر في ساحات كييف … ومع ذلك، نظر الغرب إلى ما جرى في مصر بوصفه انقلاباً على الشرعية، وبدأ باتخاذ عقوبات ضد العهد الجديد، وما زالت العلاقات بين مصر وكل من أوروبا والولايات المتحدة، تشكو ذيول تلك الحقبة.
في أوكرانيا، نزل الرئيس المنتخب، مرغماً أو طائعاً، لشروط الوساطة الأوروبية، وقّع اتفاقاً مع المعارضة على تعطيل الدستور والعمل بدستور 2004، وتنظيم انتخابات مبكرة بعد بضعة أشهر، قبلت روسيا الصفقة على مضض، ولكنها قبلت بها، خرقتها المعارضة صبيحة اليوم التالي عندما اقتحمت مقرات الرئاسة والحكومة والدوائر الحكومية … نسي الغرب الاتفاق الذي لم يكن حبره قد جفّ بعد، تنكّر لوساطته، وانضم سريعاً إلى قافلة المرحبين بالثورة البرتقالية الجديدة، بل ومستنفراً اقتصاداته المريضة وحلف الأطلسي للدفاع عن الديمقراطية الناشئة.
في مصر، لم يحصل شيئاً من هذا القبيل، الرئيس محمد مرسي، ظل حتى الرمق الأخير، مستمسكاً بـ”قنديله” ودستوره وحكومته، ساعياً في فرض سيطرة “جماعته” على الدولة والحكم والمؤسسات، لم يحرك الغرب ساكناً للضغط على مرسي لتسريع الانتقال الديمقراطي، ولم يبدأ الوساطة إلا بعد أن حدث ما حدث، وجاء من يعظ ويبشر بالحاجة لبناء توافق وطني عريض، وعدم إقصاء فريق أو استئصاله … بينما غابت لغة “التوافق” و”نبذ الاستئصال” عن خطاب الغرب حيال أوكرانيا، منذ أن لاحت في الأفق بوادر سقوط النظام القديم وحلول نظام جديد محله.
يانكوفيتش، مثل مرسي، كلاهما رئيسان منتخبان، ادارا بلديهما بطريقة سيئة للغاية، واستعديا على عهديهما كثير من قوى المعارضة … لكن الغرب لم يتعامل مع التجربتين على سوية واحدة، عاد للكيل بمكيالين، ومارس نفاقاً يزكم الأنوف.
في مصر، تكونت المعارضة لنظام مرسي من خليط غريب عجيب، عسكر وقوميون ويساريون وعلمانيون وليبراليون وفلول … في أوكرانياً، ليست جميع المعارضة من “صنف الملائكة”، هناك قوميون متشددون، وهناك نازيون “تكفيريون” بامتياز … في مصر حافظت المعارضة لنظام مرسي على سلميتها، رغم ردات الفعل العنيفة التي أوقعت قتلى وجرحى أكثر مما وقع في ساحات كييف… في أوكرانيا، كان من بين المعارضين، نازيون وعصابات مسلحة وقوميون متطرفون عنيفون … الغرب أغمض العين عن كل ما يعتمل في أوساط المعارضة الأوكرانية، تماماً مثلما فعل لأكثر من عامين مع المعارضة السورية التي كانت تتحول إلى “داعش” و”النصرة” … أما في مصر، فقد جرى تجاهل المعارضة بمجملها، ولم يلتفت الغرب إلا لتدخل “الجيش والعسكر” … أليس هذا ضرباً آخر من ضروب النفاق والمعايير المزدوجة.
في مصر يجري التأكيد اليوم غربياً، على وجوب احترام خريطة الطريق للمستقبل التي وضعها الجنرال السيسي، وهذا أمر محمود على أية حال … ولكن ماذا عن خريطة الطريق لمستقبل أوكرانيا، وهل ينسجم ذلك مع حملة المطاردة التي يشنها الغرب ضد فريق من الأوكرانيين من حلفاء روسيا، بل ووضعهم على قوائم الإرهاب وتجميد الأرصدة ومنع السفر … هل صدر أي موقف غربي، يطالب بتنفيذ الاتفاق المبرم عشية سقوط نظام يانوكوفيتش، والذي كان يُعد خريطة طريق للمستقبل الأوكراني؟ … لا أحد يهتم.
في مصر كان سقوط نظام مرسي بمثابة ضربة لتفاهمات بدا أنها عميقة، بين الحكم الجديد والغرب (الولايات المتحدة بخاصة)، تشمل من ضمن ما تشمل احتواء حماس وضبط إيقاع المقاومة وحفظ الاتفاقيات المبرمة مع إسرائيل، والحفاظ على أمنها وحدودها … في أوكرانيا بدا أن تدعيم العهد الجديد من شأنه إضعاف بوتين في “عقر الكرملين”، وإرباك لموسكو ولدورها الدولي المتصاعد … هنا في مصر يصبح التغيير انقلاباً عسكرياً مُداناً …. أما هناك فيصبح ثورة شعبية ملوّنة، لا بأس من إسباغ كل صفات الحرية والديمقراطية والكرامة عليها… مرة أخرى، يبلغ النفاق وازدواج المعايير حداً يوصل إلى ضيق التنفس وارتفاع ضغط الدم.
بالمناسبة، ما ينطبق على الموقف الأمريكي / الغربي، ينطبق بدرجة أكثر طيشاً ورعونة على الموقف التركي من الحدثين المصري والأوكراني … في مصر ينبري أردوغان للدفاع عن القيم والأخلاق والمعايير، فيقف منافحاً عن حكم الإخوان ومندداً بانقلاب العسكر، وبصورة تتخطى كل الأعراف والتقاليد الدبلوماسية … أما في أوكرانيا، فتركيا كانت الدولة الوحيدة المتهمة بتزويد المتشددين من قوميين ونازيين أوكرانيين بالمال والسلاح والرجال (التتار) كما قالت زعيمة المعارضة الخارجة للتو من سجنها يوليا تيموشينكو… عاشت القيم، عاشت الأخلاق.