علاء الغطريفي /تنشغل دائماً بالثورة حتى لو ارتحلت بعيداً عن الوطن، وإذا كانت الوجهة إلى وسط أوروبا أو شرقها فإنك مأخوذ رغما عن أنفك بالمقارنة بين تجربتنا فى التحول وتجربتهم، خاصة أن القاسم المشترك ثورة أسقطت نظاما قائما مع وضع اقتصادى سيئ. فى ظل هذه المشاعر جاءت رحلتى إلى أوكرانيا حيث المؤتمر الدولى للصحفيين الاستقصائيين حول العالم، ومن ثم اتجهت أولا إلى ميدان تحريرهم المسمى بـ«ساحة الاستقلال» فوجدتها منقسمة مثل شارعنا السياسى، خيام للمعارضة التى قامت بالثورة وأخرى فى مواجهتها لأنصار الرئيس الذى يسعى إلى تقويض إرادة التغيير التى حلت على أوكرانيا قبل سنوات، لكن لم يتحقق لها التمكين حتى هذه اللحظة، فالصندوق الانتخابى جاء ببعض ملامح النظام القديم دون أن يقضى على الثورة تماما، فبإمكانك القول بأنها كانت نصف ثورة أو أقل قليلا.
المعسكر الليبرالى الذى قاد الثورة البرتقالية تقبع قائدته «يوليا تيموشينكو» رئيسة الوزراء الأوكرانية السابقة فى أحد السجون الحكومية بعد حكم تاريخى بسجنها سبع سنوات لأنها تعدت اختصاصاتها باستيراد الغاز من روسيا بسعر غال.
والموالون لها يملأون شارع «خريشتيك» قلب العاصمة «كييف» بلافتات تسخر من خصمها السياسى الرئيس الحالى «يانكوفيتش»، فمن وضع صورته على نموذج «تواليت» إلى تقبيله يد «بوتين»، قصة احتجاج ساخنة لا تهدأ رغم برودة شوارع كييف المجنونة بنسائها.
الشعب الأوكرانى منقسم بين معسكر الرئيس وحزب «تيموشينكو»، ومن خلفه الليبراليون، وفى القلب جدل لا ينتهى عن الثورة وهل هى نجحت أم فشلت؟
النموذج الملهم بلونه البرتقالى يترنح باختيارات شعب يعانى من غلاء الأسعار ويستعجل الرخاء وينظر بحسد إلى أوروبا الغربية، ولديه بطالة وجريمة منظمة ونشالون ومتسولون وفساد.. شعرت بالخوف أنه بعد عشرين عاما ننتظر ثورة أخرى لتكتمل ثورتنا التى تسعى «فضلات المخلوع» إلى تعطيلها، ومعها بالطبع أحلام الانتهازيين وطموحات المتأخرين المتخلفين ورؤية العجائز المتسلطين، لينتهى بنا الحال إلى شعب بلا ثورة أو ثورة بلا شعب، وتعود عقارب الساعة إلى الوراء رغم الدماء الذكية ومساعى النبلاء.
الثورة فى أوكرانيا انحرفت عن مسارها بفعل شعب، عندما اختار جاء بـ«سكير» إلى منصب عمدة كييف لأنه رشا الناس بطعام محلى لينتخبوه، وانتهى به الحال إلى الاختفاء بعدما خلع ملابسه ورقص عاريا فى اجتماع حكومى، وكان يتحدث دائما فى أحاديثه التليفزيونية عن أصدقائه فى المريخ الذين يعرف منهم كل شىء ويستشيرهم فى قراراته!!
التجربة البرتقالية تعانى لكن الانتخابات دائما تقلب أصحاب المناصب عن كراسيهم سريعا، فلعبة الكراسى الموسيقية سمة السياسة الأوكرانية وإحدى نقاط الاستقطاب فى السياسة الأوروبية.
الخيام هناك تملأ وسط المدينة والحياة نابضة فى قلب العاصمة وملامح الثورة لم تنته، والسخونة لم تنقطع عن ساحة الاستقلال، والشرطة تحرس المحتجين، والأغانى وأهازيج الاحتفاء بالأفكار تحلق فوق آهات الاحتجاج، إنها صورة عن ثورة وفلول وأجندات خارجية وشعب متعجل مثلنا تماما، مازال فى مفترق طرق رغم الرعاية الأوروبية.. الحياة لا تأتى إلى الشعوب متزينة بين يوم وليلة، فيلزمها دفع الضريبة، وقبلها لابد أن نغمسها فى مرار الصبر وحلاوة الإخلاص ونبل المقاصد وإيثار الانتماء.
كلمة أخيرة:
هناك مصرى يتولى سفارتنا فى أوكرانيا عرفت عند لقائه أن مدرسة الدبلوماسية المصرية العريقة مازالت فصولها مشرعة الأبواب.. تحية تقدير للمثقف الوطنى الواعى «ياسر عبدالقادر عاطف» سفيرنا فى كييف.
[email protected]