كفاح محمود كريم / نتذكر سبعينات القرن الماضي وبداية تحويل البلاد العراقية إلى حقل لتجارب البعث القومية، وتقزيم العراق بتحويله إلى قطر وشعبه إلى جزء من امة مفترضة لم يثبت التاريخ المعاصر حقيقة كينونتها الفعلية كأمة خارج الدين الإسلامي، واستيراده على تلك الخلفية ملايين المصريين والمغاربة، وغيرهم من سكان تلك البلاد التي افترضها تشكل دولة موحدة ذات يوم، ليؤسس منها نواة ذلك الكيان الذي كان يخدر به الأهالي، وهو كيان الوحدة والحرية والاشتراكية الذي انهار قبل سقوطه أبان الاحتلال الأمريكي، حيث سقط في ضمائر الناس ولم يتحول طيلة ما يقرب من نصف قرن في البلدين السوري والعراقي إلى فكر أو ثقافة اجتماعية، ولم تنصهر تلك الارتباطات بالوطن الأم على حساب الوطن المفترض في دولة الوحدة، بل على العكس هبط إلى مكونات اصغر من القومية ( العشيرة ) و ( قرية ) اكبر من الوطن!؟
فحينما فتحت أبواب البلاد مشرعة أمام من هب ودب وبتسهيلات لا مثيل لها في كل بلدان العالم، دون الأخذ بنظر الاعتبار لمصالح البلاد العليا والآمنين الاجتماعي والأخلاقي المتعلق بالعادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية، دخلت البلاد أفواجا كثيرة من الباحثين عن العمل والغنى في بلاد نفطية، تسرب معها أيضا أعدادا كبيرة من الفاشلين والمجرمين وأصحاب السوابق والسراق والمزورين وأنماط كثيرة من المنحرفين في مختلف مناحي القيم والعادات والتقاليد، إلى مجتمع كان ما يزال خاما ومحافظا بالمقارنة مع من أتوا إليه، وهو منهمك في حرب ضروس مع دولة جارة سحبت كل الرجال من الثامنة عشر عاما وحتى الثلاثين، إضافة إلى تجنيد ما فوق هذه الأعمار في قواطع ميليشيا ما كان يسمى بالجيش الشعبي، مما أتاح دخول هذه الفئات
إلى كل مفاصل الحركة الحياتية في الدولة والمجتمع وبملايين الرجال من المصريين والمغاربة والسودانيين واليمنيين وغيرهم من البلدان العربية، الذين اندفعوا أفواجا في معظمهم من الفلاحين غير المؤهلين والعمال غير الفنيين وقلة نادرة من الاختصاصات العلمية والأكاديمية، إضافة إلى أعداد كبيرة من خريجي السجون والمشبوهين وحتى المحكومين الهاربين.
ولكي نكون منصفين فان مجتمعاتنا كانت الأنظف حتى دخول تلك الأفواج، حيث نُقلت إليها أنواع رهيبة من فايروسات الانحراف بكل أشكاله و(الفهلوية) التي تجاوزت كل أنواع (الكلاوات) العراقية البسيطة قياسا بما استورد لها القائد الضرورة، واليوم وبعد عشر سنوات من سقوط تلك التجربة الفاشلة، وأكثر من عقدين من الزمان على هجرة تلك الملايين الفاسدة، التي تركت ورائها مخلفات رهيبة من السلوكيات المنحرفة، يعود البعض إلى ذات الثقافة الفاشلة ليفتح الأبواب أمام هجرات وزحف أنماط بشرية غريبة تحت أغطية مذهبية أو قومية بائسة، كما يحصل مع تدفق ( مقاتلين ) من كل مكان إلى ما يسمى بدولة العراق الإسلامية وتوغلهم في البنية الاجتماعية والعقائدية بذرائع الجهاد، هذه المجموعات وما ماثلها، لا هم لها إلا الارتزاق ونخر الوطن أو ذبحه ومسخ هويته وتشويه عاداته وتقاليده دون أي وازع يمنعها، فهي لا تنتمي إطلاقا إلا لمصالحها الذاتية، ولا يمكن سلخها من انتمائها الأصلي مهما كانت تلك الأطروحات التي يطرحها منظرو القومية الشوفينية والتعصبية الدينية أو المذهبية، حيث فشلت كل هذه المحاولات في العراق واليمن وسوريا وليبيا وقبلها في أفغانستان وغيرها من البلدان التي اجتاحتها حمى القومية المفرطة أو التعصب الديني والمذهبي.