د. نــوفل حمداني/ تعود بنا الأذهان في هذه الأيــام إلى الحرب التي قادتها القوات الروسية على أوسيتيا الجنــوبية عام 2008. نعــم هـــو السيناريو ذاته يعــود هذه المرة إلى منطقــة تعتبر روسيا العضمى نفسها وصيا عليها و على رعاياها – هي شبه جزيرة القرم. القرم هي المنطــقة التي أصدر مجلس السوفييت الأعلى عام 1946 قرارا بإلغاء هذه الجمهورية ذات الاستقلال الذاتي، حيث اتهم ستالين حينها سكانها من التتار بالخيانة العظمى و مد يد العون للألمــان ، ليعــود نفس المجلس إلى إلغــاء هذا القرار سنة 1967م. و حتى بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي و استقلال أوكرانيا، ظلت هذه المنطقـــة محل نزاع دائم، نظرا لموقعها الجغرافي الإستراتيجي و تكوينها السكاني، حيث يقطنهــا قرابة 60% من الروس و 25% من الأكران، و 13% من التتار (و هم مسلمو القرم) ، و 2% من الأقليات(أرمن و يهود و غيرهم).
شبه جزيرة القرم تضم ميناء سباستوبول الواقع على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة، وهو مقر اسطول البحر الأسود الروسي. عام 2009 أثار الرئيس الأوكراني الموالي للغرب يوشنكو مخاوف موسكــو حين أعلن عن إخلاء قاعدتها البحرية في سيفاستوبول بحلول سنة 2017، إلا أن الرئيس يانوكوفيتش بعد تسلمه زمام الحكــم قرر بعد انتخابه عام 2010 تمديد مدة بقاء الاسطول الروسي في الميناء لغاية عام 2042م.
و بعد الإطـاحة بيانوكوفتش و الإنقلاب على الحكم، عادت روسيا إلى الواجهــة، لكن هذه المرة بثقل أكبر، فخسارة حليف كأكرانيا بالنسبة للروس هو بمثابة فتح للنيران بــوجه هذه القوة العضمـى، لاسيمـا و أن جل مناطق الشرق و الجنـوب هي مــوالية بشكل أو بآخــر لمــوسكــو.
الحكومة الأكرانية الحالية و الموالية للغرب، و منذ تسلمها زمام الأمـور في البلاد جعلت نصب أعينها مشروع الإنجذاب نحو القطب الغربي الاورو-أمريكي، نابذة كــل أشكال التقرب من موسكــو، و لعل أكثر ما جعل الأزمة بين البلدين تتطـور بسرعة هــو إلغاء قانون اللغات، و الذي ضمن اللغة الروسية للأقاليم الشرقية و الجنوبية كحق لسكانها.
نعــم ! أخطأت السلطـة في كييف بسنهــا مجموعة من القرارت و القوانين، و التي اعتبرتها روسيا خرقا لأعراف هي أكثر من أن تكون بين بلدين جارين فقط يجمعهما ومنذ الأزل الدين الواحد و الهوية و العرق …
و بعد رفض إدارة القرم للإنقلاب – أو كما يسمى بالثورة- بدأت روسيا بدورها الدفاعي عن مـا أسمته حقوق الأقليات الناطقة بالروسية ، فنشرت وحداتها و حركت أساطيلها و جائت بقرار من مجلس الدوما يحلل لها ذلك …روسيا لم تبعث طائراتها من موسكـو و لا دبابتها من دالنيفاستوك و لا جنودها من فارونيج و إنما هي لاعب قوي على الأرض و منذ القدم. في بضع ساعات فقط كانت شبه الجزيرة خاضعة نسبيا لقرارات العم فلاديمير … في حين تقوم الإدارة الحاكمة في كييف و داعميها من الأوروبيين و الأمريكان بقلب العالم رأسا على عقب تخــوفا و تحسبا من مستقبل مجهــول يرفضــونه أساسا.
و لعل ما فعلته رئيسة الحزب المعارض سابقا و الحاكم حاليا- باتكيفشينا- يوليا تيموشكنا بدعوتها الإتحاد الأوروبي بتوقيع بروتوكول شراكة مع أكرانيا في غضون الأيام المقبلة ، و دعوة وزير خارجية أوكرانيا حلف النيتو لمساعدة البلاد في هذه الأزمة أكبر دليل على عدم جاهزية أكرانيا لمواجهة هذا الخصم العنيد والقوي…
العم فالوديا كان مشغــولا بألألعاب الشتوية، و لم يكن خلال مرحلة التغيير السياسي بأكرانيا عنصرا فاعلا فيها، بل بالعكس تماما، لعب هو و ئيس حكومته ديمتري مدفيديف دور المراقبين المترقبين لما سيحدث بالجارة كييف . و بكل تأكيد فإن كـل ما جائت به الرياح الشتوية لم يرق لهمـا، خاصة بعد ظهور القطـاع اليميني في الواجهـة ، و حل قوات البيركوت و ارتفاع أصوات الآلاف من أوكرانيي الشرق و الجنوب ، هيج غضب الدب الأبيض الروسي، و جعله يبدأ تحركا لم تدرس عاقبته إدارة كييف …هي إذن من أهم أسباب بداية أزمــة الخاسر الأكبر فيها هو هو المواطن الأكراني البسيط، و الذي يتطلع و منذ التسعينات بحياة أكثر استقرارا و رخاءا.
هي إذن أزمــة جديدة بطلاها روسيا من جهة و أمريكا و أوروبا ممثلين لمصالحهما في أكرانيا من جهة أخــرى… أكرانيا هي كعكـة لا أجزم أبد أن أمريكا سيكون لها نصيب فيها. السيناريوهات القادمة ستبين لنا ذلك.. لكني أقـــول لا حرب في أكرانيا ! لن تكون هناك أية حرب مع روسيا ! و سترون …روسيا تدافع عن وجود أسطــولها البحري في القرم، و تسترجع ما كادت أن تفقده … هي تعرف أن السلطة الحاكمة الأكرانية ستسعى جاهدة لإلغاء معاهدة-خاركوف- حول الاسطــول البحري الروسي المرابط في سيفاستوبول- ستدعم القرم و سلطته ماديا كما فعلت في أوسيتيا – و ستهدي كل من والاها جنسيتها و جــواز سفرها، و سترفع أيدي الغرب عن هذه المنطقة ديبلوماسيا، و ستقوي الإدارة القرمية لتكون على أكمل استعداد و جاهزية لإتخاذ قرارات حاسمــة من بينها الابقاء على هذا الاسطــول بمياهه الإقليمية !!!! سترينا الأيام أن بـــوتن أذكى بكثير من أن يقع في فخ الأمريكان !!!!!
رئيس المركز العربي في محافظة زابروجيا/ شرق أكرانيا