الحرب الأوكرانية تودع السنة الثانية وتدخل في السنة الثالثة، مما يدل على أنها حرب طويلة وباتت حرب استنزاف لا يمكن إنهاؤها باعتبارها حربا ذات طابع جيوسياسي تعكس آمال وطموح المنخرطين (الروس والأوروبيين والأميركان) حيث تدور تصفية الحسابات على الأراضي الأوكرانية التي باتت وقودها اليومي. ويمكن القول إن الحرب ضروس بين الطرفين بحسب ما قاله قائد القوات البرية الأوكرانية ألكسندر بافليوك، فإن القوات المسلحة الأوكرانية تستعد لصد أكبر عدوان روسي واسع النطاق منذ خمسة أشهر، حيث كتبت صحيفة نيورك تايمز الأميركية بتاريخ 19من شباط/فبراير: أن روسيا تهاجم على 5 جبهات دفعة واحدة (أفديفسكي، مارينسكي، كريمنسكي روبوتينسكي، باخموتسكي)”، حيث تحاول القوات الروسية استعادة الأراضي التي تم تحريرها من قبل القوات الأوكرانية عام 2022-2023. إذن روسيا لن تعتبر الانتصار في أفيدييفكا انتصارا كبيرا لقواتها بعد انتصارها في باخموت عام 2023.لم يعد أحد يهتم لما يحدث على الجبهة من مواجهات بين الجيشين وعن محاولة الطرفين تغيير طبيعة الخطوط المفروضة على الجبهة من أجل تحسين ظروف كل طرف. بالطبع قد يهلل الإعلام للسيطرة الروسية على مدينة أفيدييفكا الأوكرانية حيث أعلنت روسيا بأنها سيطرت عليها في 16 من شباط/ فبراير بعد صراع دام أكثر من ستة أشهر في محاولة روسية لتحسين ظروفها الأمامية والحصول على انتصارات وهمية تقنع الشعب الروسي قبل الانتخابات الرئاسية القادمة.بالرغم من إعلان الناطق الرسمي للكونغرس (جون كيربي) بأن خسارة أفدييفكا هو نتيجة تقاعس أميركا والغرب عن إمداد أوكرانيا بالسلاح والعتاد بالرغم من محاولة أوكرانيا القول على لسان رئيسها فولوديمير زيلنيسكي في كلمته في مؤتمر الأمن والسلام في ميوينخ: “بأن الانسحاب من المدينة هو للحفاظ على أرواح الجنود المدافعين عنها ومنع وقوعهم في الأسر من قبل القوات الروسية المهاجمة لأن حياة الجنود أهم من أي خطوط أمامية قد نستعيدها لاحقا”. ففي المؤتمر الدولي الستين للأمن والسلامة في ستول بافاريا في ألمانيا، تم إرسال 180 مندوبًا دبلوماسيًا كبيرًا، في ما يقرب من 50 رئيسًا وممثلًا. الموضوعات الرئيسية للمؤتمرات هي الصراع في أوكرانيا وكيفية مساندتها ومنع هزيمتها من قبل روسيا لأن الهزيمة ستعني الهزيمة الفعلية لأوروبا والرضوخ لشروط موسكو.طبعا في مؤتمر الأمن والسلام باتت أوكرانيا العنوان الأول في أجندة المحاور التي يترتب عليها تغيير في الجيوسياسية العالمية لطبيعة النظام الذي سيفرض على العالم بعد الحرب الروسية الأوكرانية. وأين موقع أوروبا القادم لأن أوكرانيا باتت جزءا لا يتجزأ من القارة الأوروبية والقيم الديمقراطية والحرية التي تحتفظ بهما القارة. بالرغم من أن أوكرانيا تحاول تنفيذ طلبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في محاربة الرشوة والفساد إلى جانب الصمود المذهل لقواتها غير المتكافئة مع الروس على الجبهة، وإفشال الطموحات الروسية باحتلال أوكرانيا وتغيير نظامها خلال أسبوعين لكنها تلقت ضربات موجعة من جيش لا يعد تعداده على القائمة الدولية لترتيب الجيوش في العالم. وقد فشلت في احتلال العاصمة كييف وانسحبت بعد شهر من محاولتها الشرسة بسبب صمود كييف وجيشها الذي أجبر العالم كله على المساعدة والاحترام.بالرغم من عدم التوازي في القدرات اللوجستية والبشرية استطاعت أوكرانيا تغيير قواعد الاشتباك والصمود بوجه روسيا وجحافلها وأن تشن هجمات معاكسة تحرر أربعين في المئة من الأراضي التي احتلتها روسيا في بداية غزوة شباط /فبراير 2022، ومع استعدادها لشن هجومها في الصيف الماضي، لكنها فشلت في تحقيق إنجازات في الهجوم المعاكس الذي كلفها أثمانا عالية جدا بسبب تقاعس الغرب عن تأمين الدعم اللوجستي والمعدات المطلوبة. لكن القدرات الأوكرانية استطاعت إخراج الأسطول الروسي من البحر الأسود العمل وأعطبت قدراته ومنعته من البلطجة والسطو على البحر الأسود. لقد أرضخت أوكرانيا الخارج وبدلت قيادتها العسكرية وأقالت الجنرال فاليري زالوجني الذي بات مطلب أميركيا وتمكنت من تغيير القادة العسكريين في هيئة الأركان بالرغم من أن زالوجني يعتبر صانع انتصارات الجيش وكل فريق الأركان يعتبره القائد الظل، لكن زالوجني خرج دون الدخول في صراع مع فريق الرئاسة وعدم السماح لدخول الخلاف إلى داخل الجبهة. في المقابل استطاعت أوروبا أن تؤمن للدولة الأوكرانية صندوقاً مالياً يصرف لها 50 مليون يورو وقد استطاعت الإدارة الأميركية تأمين التصويت في الكونغرس على إعطاء أوكرانيا 60 مليون دولار.لكن المشكلة ما تزال بتأمين التصنيع الحربي والتسريع في إنتاج الذخائر والسلاح المطلوب للدولة الأوكرانية. كما فعلت دولة الدنمارك التي أعلنت بتاريخ 18 من شباط /فبراير الحالي على لسان رئيس وزرائها ماتي فريدريكس: “أوكرانيا طلبت منا الذخيرة والمدفعية، وبرلمانها وافق على نقل مدفعيتها وصواريخها ومخزون الاحتياط التي تملكه وأنظمة الدفاع الجوي إلى أوكرانيا”. وهذا ما أعلنته أيضا برلين أن شركة Rheinmetall الألمانية افتتحت مصنعا لإنتاج ذخيرة المدفعية في أوكرانيا وصرفت 15 مليار يورو من أجل مصانع الذخيرة الحربية التي ستباشر عملها في أوكرانيا لإنتاج ستة أنواع من قذائف المدفعية. وفي المقابل أعلن رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي أنه سيتم تزويد أوكرانيا بما لا يقل عن 24 مقاتلة متعددة الأغراض من طراز ”F16” وفي المقابل أعلنت فرنسا أنها تعمل على تأمين ذخيرة ومعدات لإرسالها لأوكرانيا.فهل فهمت الدول الأوروبية بأن الأمر بات خطيرا جدا نتيجة الصراع القائم بين أوكرانيا وروسيا؟ ولم يعد التساهل بعد الآن مجديًا بهذا الشكل لجهة عدم تأمين الدعم المطلوب لأوكرانيا؟، والذي سينعكس على أوروبا تلقائيا بحال التقاعس، لأن المواجهة الأوروبية المباشرة ستكون مع روسيا والتي قد تؤدي بدورها إلى خوض حرب ميدانية معها أو الموافقة على شروطها ومنحها انتصارا.وبدوره صرح الرئيس بايدن بأن أوكرانيا قد تخسر مدناً أخرى بعد سقوط أفدييفكا إذا لم يوافق الكونغرس على التسليح السريع وتخصيص مساعدات إضافية إلى أوكرانيا.من هنا تأتي أهمية زيارة الرئيس الأوكراني إلى الدول الأوروبية، لتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع الدول الكبرى التي ستكون الضامن الفعلي لأوكرانيا وعدم تركها لقمة سائغة في فم الطموحات الروسية. لقد ابتدأ زيلينسكي زيارته إلى فرنسا وألمانيا وبولونيا وبريطانيا وإيطاليا وهذه الاتفاقيات ستدفع بالدول الأوروبية لاتخاذ قرارات أكثر فاعلية ومسؤولية في تحمل كلفة الصراع مع روسيا وتدافع عنهم بوجه روسيا الطامحة لتجميد الصراع مع أوكرانيا والترتيب لخوض الانتخابات الرئاسية التي تمنح بوتين تفويضا بقيادة الدولة والتي ستكون الانتخابات هي استفتاء شعبي على متابعة مغامراته الحربية التي لن تنتهي بأوكرانيا والسيطرة عليها بل توجهات بوتين هي السيطرة على أوروبا لأن البحث في التاريخ سيعيدنا لاستخدام النظرية السابقة التي تقول إن من يسيطر على أوكرانيا يسيطر على أوروبا وهذا طموح بوتين.لذلك خاطب زيلينسكي المجتمعين في ميونخ بالجملة التي تعبر عن غضبه وغضب الشعب الأوكراني بالقول: “من فضلكم ألا تسألوا أوكرانيا متى ستنتهي الحرب، اسألوا أنفسكم لماذا بوتين ما يزال قادراً على الاستمرار فيها”.