%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7 %D8%A7%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7 أوكرانيا

كتابات على جدار الثنائية القطبية.. العائدة

محمود بري /كاتب وصحافي لبناني

يبدو وكأن الأحادية القطبية تلفظ أنفاسها الأخيرة. هذا على الأقل، ما يشي به الحراك الأميركي – الروسي روسيا امريكا أوكرانياهذه الأيام حيال المسألة السورية. وإذا صح أن الرحلة العكسية للأحادية قد انطلقت بالفعل، فهي ما تزال في بداياتها المبكرة… إنما الواعدة ايضاً، باعتبار أن كل ما يبتدئ، يكون صائراً بالضرورة إلى نهايته.

نهاية الأحادية القطبية، في حال حصوله، لا يعني ما يمكن الاختلاف على معناه وأبعاده، وهو أفول شمس القوة الأميركية المتصرّفة بمفردها بالعالم اليوم، لتصبح موسكو ــ من جديد ــ شريك واشنطن المضارب في تقاسم الكوكب.

وحتى الآن على الأقل يبدو أن الـ”قيصر الروسي” بوتين يواصل صعوده الصاروخي الواثق، مقابل تذبذب الندّ الأميركي أوباما الذي يبدو كمن يقف على لوح ثلج آخذ بالذوبان. وتأتي مبالغة رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو في وضع العصيّ في دواليب المركبة الأميركية الروسية، لتزيد من تعرية الدور الإسرائيلي التخريبي أمام الرأي العام الأميركي والعالمي، وتسرّع وتيرة ذوبان لوح الثلج الذي يمنح أوباما الواقف عليه، طولاً إضافياً كاذباً لقامته.

لكن، ولأنه لا يصح بيع جلد الدب قبل صيده، فمن الخطأ الذهاب مباشرة إلى المآلات النهائية لما يفترض أنه “وقائع الأمور”، بل ينبغي انتظار تكامل صيرورتها ونضوج مواسمها ليصح الحديث عن القطاف. فالرصيد الكبير الذي سدده الإتصال الهاتفي الرئاسي الأميركي في حساب الشيخ الرئيس الإيراني، أعاد نبض الحياة إلى علاقات كانت في حالة وفاة منذ عقود، وقد بُنيت على رفاتها مصالح ومخططات وعروش كانت شعوب العالم، وفي طليعتها شعوبنا، ساحتها المستباحة. والملاحظ أن تعزيز الرصيد الإيراني الذي لم يفاجئ الروس والأميركيين أنفسهم، شكّل مفاجأة صاعقة نزلت على رؤوس كثيرة في المنطقة العربية ما بين غزّة والرياض، ما اضطر “الخائفين” إلى إخراج إحدى أفاعيهم من أكمامهم، فكشفوا عن الود القائم بين “يهود الداخل ويهود  الخارج” ظنّا من أطراف حلف الخائفين هذا، أن الأمر يقوّيهم، في حين أن الإعلان عنه لا يفعل إلا تأكيد ما دأب أصحابه على نكران وجوده، وإضعاف الحلف الذي كان معظم قوته في تعميته، وبالتالي إحداث ثقوب جديدة في مركب النظام الخليجي المترنح في بحار موعودة بالعواصف والأنواء.

 ولعله من المنطقي في هذا السياق اعتبار مسارعة رئيس الحكومة الإسرائيلية لزيارة واشنطن فور مغادرة الشيخ حسن روحاني إلى طهران، لعبة مكشوفة أول أهدافها كان نزع البذرة الحيّة التي أعاد الرئيس الإيراني إيقاظها من سُباتها وإنعاشها داخل العقل الأميركي، الإداري والسياسي والصحافي والشعبي، ثم تكرار “النشيد” الإسرائيلي الممجوج بتصوير إيران على أنها العدوة للغرب التي تهدد مصالحه في المنطقة وتمنع الاستقرار في الشرق الاوسط.

ولقد جاءت نافرة “الرخاوة” التي أظهرها أوباما أمام نتنياهو من جهة، وإشهاره من الجهة الأخرى التشدد الأميركي التقليدي وشبه الفولكلوري تجاه طهران، ما بدا أنه محاولة بائسة لتمسيد أوهام ضيفه الإسرائيلي وتنشيطها (على الرغم من انتهاء مدة صلاحيتها). وإذا كان ذلك أرضى عنجهية نتنياهو، إلا إنه لم يغيّر واقع “العصر الجديد” الذي فتحته زيارة الرئيس الإيراني الأميركية. فإعادة الروح إلى العلاقات بين البلدين والتي رأت فيها صحيفة “هآرتز” نفسها “انفراجاً في العلاقات وبدء ذوبان الجليد المتراكم بين واشنطن وطهران”، هي بالمعنى التام للكلمة بداية جديدة لأمر محكوم بالتنامي والتطوّر، في حين أن مسلك اسرائيل التي أكّدت بلسان رئيس وزرائها البقاء على معارضتها بل عدائها المطلق تجاه ايران، جعلها تبدو مرمية خارج سوق جديدة ناشئة لن يمكنها أن تشتري منها شيئاً بعملتها الباطلة.

وهذا يشرح إصرار اللوبي الصهيوني على إنعاش الحرب الباردة في اليقين الأميركي مع استبدال سوفيات الأمس بمحور الشرّ الشرق أوسطي، حيث تعمل إسرائيل و”شركاؤها في المصير” داخل المنطقة العربية على “إقناع” واشنطن وبالتالي الشعب الأميركي بما تسمّيه “عداوة إيران وخطورتها الكبيرة، ليس على إسرائيل وحدها بل على واشنطن نفسها”، كما قال نتنياهو للصحافة الأميركية. وهذا يقتضي حسب منطق الأمور أن تسير الإدارة الأميركية على خُطى الرياض والدوحة (!)… وتلك نكتة سمجة تسير عكس البديهة الأولية وتعبّر عن مدى تهافت السياسة الإسرائيلية التي أضاعت توازنها على إيقاع الانفتاح الأميركي- الإيراني. وفي حين يجتهد نتنياهو بتكثيف حضوره في  مانشيتات الصحافة الأميركية، محاولاً الظهور بمظهر المنطقي البعيد عن الإنفعال والبريء من أيّ تعصّب عنصري، باستخدامه بوصلة حديثة لتحديد الإتجاهات، لكن الظاهر أن بوصلته السليمة أساساً، باتت تشير إلى الجهات الخطأ بعد أن تعمّد تبديل الكتابة داخل مينائها.

وهذا كله يعزز تنامي الأزمة اليقينية المتفاقمة في إسرائيل، ما يضطر قياداتها العُليا (ولا سيما رئيسها شيمون بيريز ورئيس الحكومة نتنياهو) إلى “الإستقتال” في الحملة ضدّ إيران انطلاقاً من واشنطن ولندن، ضمن خطة عمل ديبلوماسي وإعلامي مسعورة لـلتأكيد على “شيطنة” إيران وصنع رأي عام شديد العداء لها.

أما النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الأزمة اليقينية فلا بد أن تظهر على خطوط الدم  والخراب السورية، حيث لا بد سيعمل “تحالف القلقين” بين تل أبيب وبعض عواصم الخليج على رفع منسوب الدم ما أمكنهم في حربهم التكفيرية المفتوحة هناك، والمضي قدماً في تحريك “الساحة اللبنانية” المهترئة أساساً مع رئيسين إثنين لحكومة غير قائمة، يعطل الأول دوره بلهاثه المُخجل خلف طائفته التي فضّلت سواه، بينما يغرق الثاني في شبر ماء شعار رقمي أرعن ليس من أبناء الحياة ولا من أبناء هذا العصر.

يبقى القول إن الحل الذي نتوقع بعد عرض هذه البانوراما الشاملة، ربما يكون في تعزيز القيصر الروسي طموحاته بالعودة القوية إلى المياه الدافئة، ونجاحه في تثبيت أقدامه كقوة عالمية جديرة بتحقيق طموحاتها. وأول ذلك حجز بطاقة مضمونة إلى موقع موسكو الخاص في الثنائية القطبية العائدة. وهذا كلّه يرتهن إلى حدّ كبير بمآلات المعركة المشتعلة  في سورية.

صحيح أن هذه الثنائية، بعد تثبيتها، لن تحمل حلولاً مثالية لكل مشاكل الكوكب، ومن ضمنها مشاكلنا، إلا أنها ستجعلنا، على الأقل، في موقع أفضل ضمن عالم تحرقه جمرة ينفرد اللوبي الصهيوني بالنفخ فيها.

أما روسيا الاتحادية فقد حجزت مقعدها إلى قمة العالم في وقت ترتفع أسهمها بقوة، بينما تتافت أسهم واشنطن التي باتت تحتاج إلى سمعتها السابقة لتمرر هذه المرحلة. 

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …