قصَّة الغرام الروسي السوري
9 أبريل, 2012
مقالات, ملفات خاصة
محمد عبدالله محمد/ في هذا المقال الخاص بسورية، نحاول أن نقرأ، كيف لعِبَت الجغرافيا دورها، في أن يحظى هذا البلد باهتمام العالم، وبالتحديد روسيا التي كانت الداعم الأساسي لدمشق، في مجلس الأمن، باستخدامها مرتيْن، حق النقض (فيتو)، ضد قراريْن أمميَّيْن، كانا سيصدران بشأن الأزمة السورية.
في الحقيقة، فإن الموقف الروسي بات مُستغرَبًا بالنسبة للكثير من المراقبين، لكنه سيبدو طبيعيًا جدًا، عندما يُرَى من الزاوية الجغرافية، رغم عدم نفي بقيَّة المصالح، التي هي أساسًا تكوَّنت، وصِيغَت على بناء تلك الجغرافيا، من قبيل المصالح الاقتصادية والعسكرية، والمتمثلة في الدائرة الصناعية والتجارية، وكذلك، أوضاع العسكرتاريا بين البلديْن، ومستوى ذلك الوضع، وبالتحديد، في مجال نوعية السلاح المتبادل، والذي يلعب دورًا في عملية التوازن.
روسيا، وهي من الدول المقسومة قاريًا، حيث تقع في الشمال الأوروآسيوي، كانت لديها مشكلة استراتيجية، تتعلق بأزمتها مع المياه الدافئة. فروسيا تاريخيًا، كانت تطِلّ على البحر، فقط من جهة المحيط المتجمِّد الشمالي. وهي بحار، لا تصلح لخطوط الاتصال البحرية النشطة، ولا تمنحها فرصة الولوج إلى المسارات التجارية والعسكرية الفاعلة. كما أنها مياه لا تقربها من البؤر الجغرافية المهمَّة في العالم، والمرتبطة بالممرات المائية، القريبة (أو المؤدية) للمحيطات.
ويمكن ربط هذه المشكلة الاستراتيجية الروسية بحقبة تاريخية مهمَّة من التاريخ الروسي، وهي الفترة التي حَكَمَت فيها الإمبراطورة كاترين الكبرى (1762 – 1796)، وظهور النفَس الامبريالي لهذه الدولة. لذا، فقد كان التوجه الروسي في تلك الفترة، هو القضاء على هذه المشكلة الجغرافية، والوصول إلى مياه بحرية أكثر ديناميكية ونفعًا، وهو ما دفعها لأن تخوضَ حربًا ضروسًا مع الدولة العثمانية، في الفترة من 1787 ولغاية العام 1792. وعلى رغم أن روسيا كانت قد خاضت سبعة حروب سابقة مع العثمانيين، قبل تلك الحرب، فإن هذه السنوات الخمس من الصراع، كانت حاسِمة، لأن تقضي الامبراطورية الروسية على أزمتها في البحار.
لقد كانت أهم نتائج ذلك الصراع، هو هزيمة الجيش العثماني، والوصول إلى بحر أزوف، وهو البحر المطل اليوم على شواطئ أوكرانيا من جهة الشمال، وعلى الأراضي الروسية من الجهة الشرقية، ومن جهة الغرب على شبه جزيرة القرم. عندما وصل الجيش الروسي إلى تخوم هذا البحر، أصبح قادرًا ومن خلال مضيق كيرتش، على الولوج باتجاه البحر الأسوَد. بالتأكيد، فإن الإنجاز الروسي، لم يكن في قدرته الوصول للبحر الأسوَد، كبحر داخلي بين الجزء الجنوبي الشرقي لأوروبا وآسيا الصغرى، وإنما في قدرته على السير باتجاه مضيق البسفور نحو بحر مرمرة، ثم عبور مضيق الدردنيل، وصولاً إلى بحر إيجه، الذي أوصله تاليًا إلى البحر الأبيض المتوسط، الذي يعتبر الوعاء البحري الاستراتيجي والتاريخي، الذي تطل عليه أراضي الشمال الإفريقي والجنوب الأوروبي.
لقد كان لوصول الروس إلى هذه المياه الدافئة، انتصار تاريخي هائل، مَوضَعَهم على مفاصل الصراع والمصالح الدولية. كما أنهم باتوا قادرين، على عبور مضيق جبل طارق في الغرب، للاتصال بمياه المحيط الأطلسي، ومن ثم الوصول إلى أوروبا الغربية وشواطئ الولايات المتحدة، فضلاً عن الالتحاق بخط الاتصال البحري المهم وهو رأس الرجاء الصالح. هذا التحوُّل الجيوسياسي الروسي، منذ نهايات القرن الثامن عشر، كان حَكَمًا على أصول، ومديات السياسة الخارجية الروسية، وفي كيفية التعامل مع دول الوسط – الغرب الأوروبي.
هنا، تظهر تجليات الموقف الروسي من الأزمة السورية. فسورية، التي تطل على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتمتلك قناة الاتصال الاستراتيجية ما بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، باتت في قوس الاهتمام الروسي، الذي لم يكن ليكتمل إنجازه في التمدد نحو المتوسط، إلاَّ بوجود مرسى بحري، يستطيع من خلاله إدارة عملياته البحرية، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم. لذا، فقد جاءت التسهيلات السورية للبحرية الروسية، عبر منحها حق استخدام ميناء طرطوس بالغ الأهمية، مُكمِّلة للإنجاز الروسي التمددي في البحار الدافئة.
ولكل مَنْ قرأ تاريخ منطقة الشام، سيجد أن هذه البقعة من العالَم (طرطوس)، كانت ومنذ الحقبة البيزنطية، محطة مهمة للقوى العظمى حينها، في تقوية نفوذها، والدفاع عن مصالحها في البحار. كما استخدمتها الجيوش الصليبية، في حروبها على الشرق، ما بين القرنين الحادي عشر ونهايات القرن الثالث عشر الميلادي، بشكل رئيسي. فضلاً عن أهميتها التجارية، باتجاه الداخل السوري، وخصوصًا أنها (طرطوس) ترتبط ارتباطًا رئيسيًا بشبكة الاتصال البري السورية نحو حمص، وحلب (الوعاء التجاري) والعاصمة السورية دمشق.
لذا، فإن الروس، عادة ما يستحضرون القيمة الاستراتيجية لهذه المنطقة، ويصوغون مواقفهم الدولية عليها. ورغم أن التعاون الروسي السوري، قد بدأ عمليًا منذ العام 1945، أي في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، فإن ذلك التعاون، استمرّ بشكل فاعل، وازداد أكثر، بعد طرد الرئيس السادات للخبراء الروس من الأراضي المصرية، وكان جزءًا من نفوذ القوة الروسية في هذه المنطقة من العالم. في المقابل، استفاد السوريون من ذلك النفوذ، بحصولهم على تسهيلات مهمة لتدعيم بنيتهم التحتية، كبناء سدودهم المائية، ومنظومتهم الصناعية، وخطوط سكك الحديد، فضلاً عن العتاد العسكري للجيش والأمن.
في كل الأحوال، فإن الموقف الروسي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا المتغيِّر الاستراتيجي، إلاَّ أنه أيضًا يخشى العديد من المشكلات الأخرى، كفقدانه الامتيازات الاقتصادية، ووصول مد إسلامي سياسي بالقرب من مصالحه الحيوية، وهو يرى النفوذ الإسلامي في تونس وليبيا ومصر يتعاظم، وهو أمر تخشاه موسكو، التي لاتزال تدير معركة كسر عظم في الأراضي الشيشانية. وهنا، يظهر مدى قدرة الغرب، على تقديم ما يُساعد في تغيير الموقف الروسي. فالسياسة الروسية ليست مؤدلجة بالشيوعية مثلما كان في السابق، وبالتالي فهي تتمتع بالبراغماتية، التي تتحكم فيها المصالح، ومنسوبها.