قراءة في الموقف الروسي من الثورة السورية ..
4 سبتمبر, 2013
ملفات خاصة
أحمد العالم / يبدو الموقف الروسي من الثورة السورية غريباً، وحتى مفاجئاً لجهة الدعم اللامحدود للنظام والإصرار على دعمه سياسياً وعسكرياً والقتال إلى جانبه حتى آخر مواطن سوري، رغم التصريحات المختلفة أحياناً والتي تشير إلى اقتناع موسكو بتراجع النظام يوماً بعد يوم، كما قال ذات مرة رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف وضرورة عدم استبعاد احتمال انتصار المعارضة وفق التصريح الشهير لنائب وزير الخارجية.غير أن قراءة أعمق للموقف الروسي تظهر أنه يتساوق في الجوهر مع المواقف التي تبنتها موسكو تجاه يوغسلافيا وبدرجة أكبر تجاه كوسوفو، ودعم صربيا ونظامها الإجرامي حتى النهاية مع تحديثات تتعلق بالربيع العربي وميدان التحرير المتنقل من دولة إلى أخرى وانتشار حركات الإسلام الجهادي في بعض الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى الدائرة في فلك روسيا ونظامها البوتيني.اندلعت حرب يوغسلافيا منتصف التسعينات من القرن الماضي، ولم تكن روسيا قد تعافت بعد من تداعيات وآثار سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن هذا لم يمنعها من الدفاع عن موقف بلغراد وتقديم كل أشكال الدعم السياسي والعسكري لها – تماماً كما هو حاصل الآن مع النظام الروسي – مع تغطية لكل المجازر التي ترتكبها الميليشيات الصربية، خاصة في البوسنة وبدرجة أقل في كرواتيا غير أن بشاعة الجرائم المرتكبة على الأرض وشغف موسكو السياسي والاقتصادي، واستنزافها في معارك داخلية متعددة ذات علاقة بترتيب الييت الداخلي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي دفعت المجتمع الدولي للتدخل وفرض حل سياسي على المتقاتلين أدى في النهاية إلى تقسيم يوغسلافيا وحلفائها، وكسر حدود أو ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية – الرجاء التنبه جيداً لهذه العبارة – مع تشكيل المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة لمحاكمة المجرمين الصرب على ما ارتكبوه من فظائع ومآسي، وهو الأمر الذي تقبلته موسكو على مضض وإكراه.بدا الموقف الروسي أكثر وضوحاً أو بالأحرى أكثر بشاعة في قضية كوسوفو، خاصة مع التعافي النسبي من أثار انهيار الاتحاد السوفياتي وتأسيس نظام مركزي قوى ومستقر نسبياً، وبدا موقف موسكو أكثر تشابهاً مع الموقف الحالي تجاه الثورة السورية لجهة دعم صربيا سياسياً، ومنع محاسبتها في مجلس الأمن مع الاستمرار في تقديم كل أنواع الأسلحة إليها وثرثرة ما حول الحل السياسي وضرورة التفاوض مع رفض تام لفكرة استقلال كوسوفو بحجة أنه ينال من الترتيبات التي تم وضعها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية، والتي ضمنت لموسكو حق الفيتو مع دور دولي إلى جانب أمريكا في مواجهة أو حل المشكلات المنتشرة على امتداد العالم، هذا الأمر حمى النظام الصربي في مجلس الأمن، إلا أنه لم يمنع المجتمع الدولي من التدخل لفرض استقلال كوسوفو وحماية شعبها من بطش الآلة الحربية الصربية المدعومة سياسياً وعسكرياً من النظام البوتيني.في ليبيا بدت المقاربة الروسية وكأنها تختلف ولو في الشكل عن المقاربات السابقة لجهة النزوع إلى التوافق مع المجتمع الدولي، ومن داخل مجلس الأمن ودائماً على قاعدة ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية إياها التي كرست موسكو كقوة عالمية إلى جانب الولايات المتحدة، ولكن مع تحفظ تجاه إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان أو حقوق الشعوب، ورفض التدخل لتغيير أي نظام قائم حتى مع ارتكابه جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، كما كان الحال في يوغسلافيا وكوسوفو، مع تحديثات تتعلق بالغباء اللامحدود – أكثر فظاظة وفجور من غباء النظام السوري – الذي تعاطى به نظام العقيد القذافي مع الثورة الليبية، معتقداً أن عقارب الزمن يمكن أن تعود إلى الوراء، وأن باستطاعته – كما قال ذات مرة -أن يفعل في بنغازي ما فعلته الدبابات الروسية ضد البرلمان أوائل التسعينات من القرن الماضي؛ والقوات الأمريكية في الفالوجا العراقية أوائل العقد الحالي دون التنبه إلى أن موسكو نفسها لا تستطيع أن تكرر فعلتها، وحتماً لا تستطيع واشنطن أن تفعل الشيء نفسه لا في العراق ولا أفغانستان أو أي مكان آخر، وهكذا اضطرت روسيا إلى الموافقة على قرار حماية المدنيين الليبيين الذي قدمته الجامعة العربية -ولبنان تحديداً – مع فهم ضمني بأن الأمر لن يؤدي إلى إسقاط النظام، وإنما إلى رعاية حل سياسي يكفل دور موسكو السياسي والاقتصادي وحماية مصالحها في ليبيا، ويستند أساساً إلى حوار أو تفاوض ما بين النظام والمعارضة، ومن يراجع تصريحات وزير الخارجية لافروف آنذاك يفاجأ من أنها تتشابه تماماً مع تصريحاته الحالية تجاه الثورة السورية، خاصة لجهة التوصل إلى حل وسط يكفل انتقال أمن للسلطة دون إعطاء أي اعتبار للفظائع والجرائم التي ارتكبها نظام القذافي بحق الثوار والشعب الليبي بشكل عام، وهو ما لم يتحقق بالطبع وفهمته روسيا في سياق الخديعة والغدر والتنكر لمصالحها ووزنها الدولي.كل المعطيات السالفة حضرت في الموقف الروسي المتطرف والعنيد من الثورة السورية، مع تحديثات تتعلق بالقراءة المعادية للربيع العربي، كما الخوف والقلق من انتقال الإسلاميين للقتال في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى ضد الأنظمة الحليفة والتابعة لموسكو والتي تتشابه تماماً في بنيتها التنظيمية والسياسية مع الأنظمة العربية الساقطة، أو تلك التي في طريقها للسقوط، خاصة مع حضور فكرة التوريث السياسي، ولكن الأنثوي هذه المرة في اثنتين على الأقل – طاجكستان وأوزبكستان – من تلك الجمهوريات.وبناء عليه تمعن روسيا في دعم النظام السوري سياسياً وعسكرياً، بالتوازي مع تغطية واسعة في مجلس الأمن والإصرار على العودة إلى ترتيبات ما بعد الحرب العالمية، وعدم إسقاط نظام قائم بغض النظر عن الجرائم الوحشية التي يرتكبها؛ وهذا لا يأتي بغرض الحفاظ على القاعدة البحرية في طرطوس فقط، وإنما لتلطيخ وجه الميدان وشيطنته وقطع الطريق على وصوله إلى الفناء الخلفي لموسكو، كما لاستنزاف الحركات الإسلامية الجهادية وإبقائها في سورية وعدم انتقالها للقتال ضد النظام الروسي وحلفائه في آسيا الوسطى.أما الحديث عن رغبة موسكو في العودة إلى المنطقة والدفاع عن مصالحها فيها، فهذا غير صحيح بدليل العقيدة الاستراتيجية الروسية الجديدة، التي أقرها الرئيس بوتين شهر شباط/فبرايرالماضي، بعدما طلب تعديلها أكثر من مرة بغرض إضفاء أكبر قدر ممكن من التطرف والعناد عليها، والتي تتواجد المنطقة في البند الثالث والثمانين منها، وضمن عبارات عامة ومختصرة؛ بينما يتم إيلاء الأولوية للمحيط الجيوبوليتيكي الروسي المباشر في الفضاء السوفياتي السابق، مع تكريس روسيا كقوة أممية لا يجب ولا ينبغي تجاهلها وفق الترتيبات إياها، التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية أي أن القتال إلى جانب النظام في سورية لا يندرج ضمن الحفاظ على المصالح الروسية في المنطقة بمعناها الضيق، إنما ضمن الدفاع عن دور روسيا الدولي ومنع الاقتراب من الأنظمة الحليفة لها في آسيا الوسطى والقوقاز، التي تحتل الأولوية في الوثيقة الاستراتيجية الجديدة.في النهاية وباختصار، ورغم الحذلقات والفذلكات اللغوية للافروف وجوقته ستنتصر الثورة وسيسقط النظام، ولن ينسى الشعب السوري أبداً أن موسكو كانت شريكة للنظام في إحراق البلد، ليس من أجل بقاء الأسد في السلطة – فهو فعلاً لا يعنيها في شيء، كما أقر بوتين نفسه – ولكن من أجل استعادة دورها العالمي المفقود، حتى لو كان ذلك على أنقاض سورية بلداً تاريخاً ثقافة وحضارة.