“يارا جويا” للأستاذ عادل البطوسي
مشلين بطرس: أديبة وناقدة سورية
من خضم مسرح حياة البشرية المبوء بكل أمراض الوحشية والتوحش، الذي سيؤدي إلى انقراض الإنسان من على وجه هذه الأرض.
يأتي الأستاذ عادل البطوسي على خشبة مسرح الفن- تلك الخشبة التي مازالت صامدة رغم كل محاولات التحطيم والإلغاء التي حاربتها منذ النشأة الأولىلها حتى يومنا هذا، وكأن إنساننا وخاصة في الوطن العربي لايستحق أن يرتقي إلى إنسانيته الحقة –واضعاً أول مونودراما شعرية مزدوجة بعنوان “يارا جويا” لتفتح الفضاءات المسرحية والشعرية والموسيقية على أسئلة كونية تدخلنا إلى عوالم لا يسبر لها أغوار، تحيلنا إلى الغوص العميق في محيطات الماورائيات الصوفية اللامحدودة.
فمن لوحة هذا الكتاب للفنانة التشكيلة اللبنانية شنتال منعم، نجد التماهي في الوجه المزدوج للمؤنث والمذكر والذي هو “يارا جوايا ” متماهياً مع لوحة دافينشي الشهيرة آلا وهي ” الموناليزا ” وكأن هذه المونودراما تشير إلى ما أشارت إليه الفلسفة الطاوية قبلاً وهو “أن الأنوثة الغامضة التي لاتموت، رغم أنها تصبح الكون بأسره، إن نقاءها غير المدنس لا يغيب أبداً، رغم أنها تتلبس أشكالاً لاتحصى. فإن جوهرها الحقيقي يبقى بكراً”.
تبدأ المونودراما بشخصية “يارا” التي ترافقها في بداية العرض المرآة، وما المرآة إلا بعداً من أبعاد شخصيتنا البشرية، لتروي لنا مأساتها مع ذلك النحات الذي كان هو السبب في مصائبها على حد قول شخصية يارا.
فالنحات، وما أدرانا من هو ذاك النحات؟؟ ربما يكون هو ذاته بغماليون الذي انبهر بما صنعت يداه من تمثال لإمرأة عشقها وتمنى فيها نفح الحياة، وقد أنجبت له تلك المرأة طفلة أسمتها بافوس، وهو اسم تلك الجزيرة التي عاش فيها بغماليون في ذاك الزمن.
ومنه نرى أن ” يارا جويا ” مونودراما شعرية جاءت ببنية فنية حداثية، ورؤى فكرية مكثفة تحمل في دلالاتها أكثر من مجرد مغزى وحيد يرافقه صور من الواقع البحت بكل تعقيداته وتناقضاته، بلغة شعرية إنسابية، بسيطة رغم عمقها، واضحة رغم غموضها، تتبعها أنغام تتموسق مع سياق العرض ومع رقصات تحلق بنا إلى فضاءات ليس لها حدود، وذلك برفقة تماثيل تقوم الشخصية على المسرح باستنطاقها من خلال تغير النبرة في صوت الممثل ليلاءم منطوق الدور الذي يدل عليه كل تمثال على حسبة المسرح، مما يكشف لنا مفهوم المسرح لدى البطوسي، بأنه حياة حقيقية تدمر الواقع في الحياة خارج المسرح لتعيد بناءها من جديد على خشبة المسرح.
وكما قال دافنشي: “من يستطيع الوصول إلى النبع لا يشرب من القِدر”، ليتركنا المؤلف في حيرة من أمرنا في من نصدق من شخصيتي المسرحية، ونتعاطف مع يارا في البداية وننحاز لها، لنجد في النهاية أن جويا أيضاً يعاني من مأساة كبيرة في حياته، ” فما أفظع أن تأكل أمك لحمك، أن يأكل ابنك لحمك/ العالم ياقوم يتاجر بمجاعات المسكونة”.
“ولأن تيجان القهر الكبرى، لم تقدر ان تخرس جيفارا، مانديلا.
لم تقدر أن تخرس لوركا ، نيرودا.
لم تقدر أن تخرس راسل ، روسو.
بيكاسو ، ديلاكروا”.
ولأن الرقص فقط الرقص هو الذي أوقف الألم مثلما قال زوربا، يرقص جويا رقصة اليوناني، فكلا النور والظل هما رقصة الحب – يقول الرومي – مصفقاً،”ويُخرج الإنسان من البيضة نصف الجذع، ويجاهد كي يخرج للمجهول من العدم…
الرأس كقمر مخسوف
يبزغ بدماء تهطل من رحم البيضة….”
“ولأن مايبحث عنه الرجل المتقدم هو داخل نفسه” كما قال كونفوشيوس، يتأخذ جويا النحات قراره بأنه لن يحيا أبداً كالدمية في هذا الزمن الدمياتي…! يردد ذلك بصوت قوي إلى أن يتلاشى …..
ويُسدل الستار.