%D9%85%D8%A7%D8%AC%D8%AF %D8%B9%D8%B2%D8%A7%D9%85 أوكرانيا

قراءة استراتيجية في الواقع الفلسطيني الراهن

ماجد عزام / وصل الوضع في فلسطين إلى حال غير مسبوق من قبل ولم يكن المشروع الوطني مأزوماً في أي يوم. كما هو الآن، ومن ماجد عزامغزة حيث الحصار الفقر البطالة والبنى التحتية المنهارة، وأزمات الكهرباء والمياه التي أعادتها عقود للوراء إلى القدس، واستفراد الاحتلال بها وبأهلها، وبلوغ الوقاحة أو الاستهتار ربما حدّ العمل، وليس التفكير فقط على إجراء التقسيم الزماني والمكاني في الحرم القدسي الشريف، مروراً بتخبّط القيادة الفلسطينية واستلابها للمسار الذي سارت فيه منذ عقود. وباتت عاجزة لا تملك القدرة وحتى الإرادة للخروج منه إلى مخيم  اليرموك وبقية مخيمات الشتات التي تكاد تفرغ من أهلها، ولاجئيها. وما يؤسف ويحزن في كل ما سبق أننا وصلنا إلى هذا الوضع رغم التضحيات الهائلة والبطولية التي قدّمها الشعب الفلسطيني على مرّ العقود ومزاجه العنيد كما رأينا في غزة نفسها، وكما نرى في القدس هذه الأيام.

بعيداً عن النقاشات في التفاصيل على أهميتها طبعاً حول من يقف خلف الأزمات السابقة منفردة أو مجتمعة ثمة أسباب ومعطيات منهجية واستراتيجية أوصلت الوضع إلى ما وصل إليه، وهي تمتد أو تعود بجذورها عقود طويلة للوراء إلى زمن النكبة الأولى في العام 1948 الذي تزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية ومرحلة الاستقلال في معظم مدننا وحواضرنا العربية، خصوصاً الثالوث التاريخي والكبير القاهرة، ودمشق وبغداد.

أول  تلك الأسباب يتعلق بالنظام الرسمي العربي بشقيّه المدني الديموقراطي والعسكري الاستبدادي الذي صادر في الحالتين حق الفلسطينيين في مقاومة ومواجهة الاحتلال، وكانت النتيجة نكبة بل نكبتين في الحقيقة.

في المرة الأولى كان ثمة مدنيات ديموقراطية في العالم العربي ونظم حرة مستقلة أو شبه مستقلة في معظم دوله، وهي أبلغت الفلسسطينين أنها  ستحمل عبء المواجهة بل أرسلت جيوشها إلى فلسطين، كما كان الأمر مع العراق ومصر والأردن، ورغم إرادة القتال العالية لدى الجنود العرب إلا أن الجيوش نفسها لم تكن مهيأة لمواجهة العصابات الصهيونية الأفضل تدريباً، والأكثر استعداداً تسليحاً وخبرة. وكانت النتيجة النكبة الأولى في أيار 48 والتي أدت إلى احتلال 80 بالمائة من أرض فلسطين، وتشريد نصف مواطنيها تقريباً ومثّلت الجذر الأساس لما عانيناه وما زلنا نعانيه حتى الآن.

أدّت النكبة الأولى إلى موجة من الانقلابات العسكرية في العالم العربي، بدأت مع انقلاب 1952 في القاهرة الذي تم استنساخه في معظم الدول العربية، وادعى النظام الرسمي العسكري الاستبدادي أنه جاء إلى السلطة أساساً بغرض إزالة أثار النكبة الأولى، وقال للفلسطينيين أيضاً أنه سيتولى عبء المواجهة وإعادتهم إلى مدنهم وقراهم التي شرّدوا منها، وطبعاً بعد إلقاء المحتلين في البحر، وبعد أقلّ من عقدين تسبب هذا النظام بالنكبة الثانية، التي أسماها نكسة، كي لا يدفع الثمن، ولا يفقد السلطة التي أزاح منها الأنظمة السابقة له.

النكبة الثانية أدّت إلى تغيير استراتيجي كبير ومستمر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وبدلاً من أن يتغير الحكام تم تغيير القضية نفسها في تناقض مع المقولة الرائعة لغسان كنفاني، وتم الاعتراف بقرار الأمم المتحدة رقم 242 الذي كرّس الاعتراف بشرعية اغتصاب فلسطين، واعتبر أنها مقتصرة على الضفة الغربية وغزة فقط. ومن هناك انطلقت قصة حلّ الدولتين وعملية التسوية التي عشنا فصولها جميعاً في العقود الست الماضية.

أما ثاني الأسباب التي أوصلتنا إلى الواقع الحالي، فيرتبط مباشرة باستنساخ  منظومة الاستبداد العربية على المستوى الفلسطيني، فيما يتعلق بمنظمة التحرير وعندما أقول المنظمة فالمقصود طبعاً اللجنة التنفيذية التي كانت بمثابة النظام الحاكم في المنظمة، كوطن معنوي لنا جميعاً وبنظرة إلى الوراء يمكن القول أن المنظمة في سنواتها الخمس الأولى  كانت أقل استبداد ومركزية، و تشبه أكثر الأنظمة المدنية الديموقراطية التعددية والمنفتحة. وبعد سيطرة الفصائل العسكرية عليها باتت تشبه أكثر أنظمة الاستبداد العسكرية الانقلابية والأحادية، وبصراحة وببساطة لم يكن لدينا يوماً ديموقراطية سكر زيادة، وإنما استبداد لايت أو مخفف مراعاة للخصوصية الفلسطينية، ورغبة الشهيد ياسر عرفات رحمه الله في حكم أو قيادة الشعب الفلسطيني بكل فئاته ومكوناته السياسية والحزبية.

السبب الثالث للمأزق أو الواقع البائس الحالي يتمثل  باتفاق أوسلو الكارثي الذي ما كان ليمر في منظومة ديموقراطية منفتحة شفافة ونزيهة، وهو قسّم الشعب سياسياً وجغرافياً وخلق حاجز بينه وبين الاحتلال، وأوجد وهم السلطة أو الحكومة والاستقلال، وفي أرضه وبيئته نمت جذور أخرى للفساد والاستبداد، وهو لا يقل كارثية في الحقيقة عن النكبتين السابقتين، ويمكن بالتأكيد اعتباره بمثابة النكبة الثالثة التي حلت بالشعب الفلسطيني.

أما السبب الرابع فيكمن في السلطة الفلسطينية التي كانت أكثر شبهاً بأنظمة الاستبداد والفساد في العالم العربي ومعها لم يعد الاستبداد لايت أو مخفف، وإنما فظّ فجّ صريح ومباشر، والسلطة التي اختصرت أو تضمنت كل المعطيات السابقة باتت بمثابة الحاجز بين الشعب والاحتلال، وجوهرها الأمني لا يقتصر على التنسيق مع الاحتلال، وإنما يتعداه إلى قمع ومصادرة الحريات العامة، وهي أوجدت شبكة من المصالح  الشخصية الضيقة لأصحاب النفوذ، يحيث بات الحفاظ عليها بمثابة العمود الفقري للسياسات الداخلية، كما لقوى الوضع الراهن المحلية الإقليمية والدولية أيضاً.

خامس الأسباب الاستراتيجة والتي ساهمت أيضاً في تشكيل الواقع الراهن يتمثل بعسكرة المقاومة، وتكوين جيش لها بصواريخ وأسلحة ثقيلة وإدارة الصراع أو الحروب بشكل تقليدي أو شبه تقليدي مع إسرائيل. وهذه الذهنية أدت إلى تدمير لبنان مرتين فى عامى  1982 و2006 وغزة ثلاث مرّات في خمس سنوات فقط، وكرّست استلاب فصائل المقاومة للخارج وأسلحته أمواله وابتزازه، وأعادت إنتاج غابة البنادق الشهيرة، ولكن بدون الديموقراطية سكّر الزيادة، وجعلت الاقتتال أو الحرب الأهلية مسألة وقت فقط والتهدئة هي القاعدة للعلاقة مع الاحتلال، والاشتباك هو الاستثناء بل وجعلها أي التهدئة مصلحة ضرورية للشعب الخاضع للاحتلال والتصعيد مصلحة لهذا الأخير بما يتناقض مع  كل التجارب والنماذج التاريخية المشابهة، ناهيك عن خلق الوضع الراهن الذي لم تكن تحلم به إسرائيل في أي يوم من الأيام، وأدى ضمن ما أدى إليه لغرق غزة، ولو بالمعنى المجازي واستلاب الضفة للتنسيق الأمني والسلام الاقتصادي، وجعل الهجرة الخيار الأمثل للفلسطينيين في مخيمات الشتات.

سادس الأسباب وآخرها والذي كان في الحقيقة محصلة مباشرة لكل االحيثيات والمعطيات السابقة يتعلق بالانقسام السياسي والجغرافي غير المسبوق والمتعمّق يوماً بعد يوم، والذي جعل سلطة أوسلو الخاضعة للاحتلال بتجلياته المختلفة بمثابة حل الأمر الواقع والوسيلة المثلى لتصفية القضية وإزاحتها عن جدول الأعمال الاقليمي والدولي وخلق وضع راهن بإمكان الجميع التعايش معه، بل والاستفادة منه كل على طريقته وحسب مصالحه الخاصة.

للخروج من المأزق الراهن لا يجب الاكتفاء بالعمل على التفاصيل على أهميتها فيما يخص حل أزمة الكهرباء، وبقية أزمات غزة أو دعم المرابطين في الأقصى والمنتفضين بوجه الاحتلال والاستيطان في بلعين نعلين والنبي صالح، وإنما يجب العمل الاستراتيجي في السياق الفلسطيني على إعادة بناء منظمة التحرير وفق أسس ديموقراطية شفافة ونزيهة كي تقودها حكومة أو لجنة تنفيذية شابة ومنتخبة تعبر عن المزاج السياسي الحالي للشارع الفلسطيني وتضع الاستراتيجيات المناسبة لإدارة الصراع مع الاحتلال بشكل حكيم، ولكن عنيد ومصمم وطبعاً بوترة هادئة ونموذج أقرب إلى نموذج الانتفاضة الأولى، أما عربياً فيجب وبكل قوة وتصميم أيضاً مساندة الثورات العربية، وإفشال الثورات المضادة لها والإيمان القاطع والعميق بأن تأسيس الدولة أو الدول العربية المدنية الديموقراطية لكل مواطنيها، سيؤدي على المدى الزمني الطويل إلى تشكيل ضغط جدي وكبير على المستعمرة العبرية، وصولاً إلى تفكيكها كون الدول والأنظمة والشعوب الحرّة قادرة وحدها على توفير أو المساعدة في توفير الحرية لفلسطين.

  • كاتب فلسطيني

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …