غزة التي في خاطري..!
9 أكتوبر, 2016
مقالات, ملفات خاصة
أكرم عطا الله/ لا تبدو الكتابة المتكررة عن غزة تمييزاً لها عن باقي مدن الوطن باعتباري أحد سكانها الذين حكم عليهم القدر بالحياة الشاقة كما كل المواطنين هنا والذين ألقت بهم مصادفات التاريخ ولحظات جنونه في هذه المدينة الساحلية.. مدن السواحل عادة ما تكون الأكثر رقيا وحضارة وهي بالعادة مدن ساحلية .. لكن غزة المغضوب عليها أصبحت الاستثناء الخاطئ لعلم الاجتماع بسبب ما فعله الاحتلال وما فعله بها أبناؤها الذين مزقوها وهم يخوضون الصراع على السلطة.
غزة المهملة والتي يكسو الغبار وجهها منذ أن أغلقت وألقيت في أسوأ مخازن التاريخ وقعت ضحية الكراهية الزائدة والحب الزائد .. الجميع يركلها بقدمه بلا شفقة، السلطة الفلسطينية وإسرائيل ومصر التي تغلق هذا المعبر الذي تحول إلى الكابوس وإلى الحلم الوحيد بعد فترة الاعتقال التي طالت أكثر مما يجب، أما حماس فقد قتلتها من شدة الحب .. عانقتها بقوة حتى فقدت أنفاسها وتوقف قلبها عن الخفقان لتموت بصمت بلا رحمة.
غزة توقفت فيها الحياة من كافة النواحي .. لم يعد هناك مشترون في سوق العقارات فالعروض الهائلة لم تعد تثير أحد .. أو بسبب الفقر وقلة المال الجميع يريد أن يبيع .. محلات تجارية فارغة من روادها لا تجد سوى أصحاب المحلات وحدهم والذين فقدوا شهية العمل، فلا حركة تسلي يومهم الطويل.. أصبحت المحلات تفتح بعد الساعة الحادية عشرة وبعضها بعد ذلك، فلا جدوى من الأفاقة مبكرا يوم كنا نراها في كامل حيويتها قبل الساعة الثامنة وكأن أصحاب المحلات يغسلون رصيف بوابات محلاتهم.
شوارع غزة أصبحت مزدحمة بالسيارات معظمها تاكسيات أجرة، حيث المهنة الوحيدة في القطاع، اِذ يمضي السائق يومه باحثا عن ركاب وسط هذا التنافس المحموم في سوق أصبحت فيه السيارات أكثر كثيراً من ركابها، فالناس هنا لا تتحرك كثيرا سواء بسبب الفقر أو انعدام السبب للخروج، فليس من الغرابة أن تجد عشر تاكسيات تغلق أمامك الشارع لأن هناك مواطنا اعتقد جميع السائقون أنه قاصد مكان ما.
في غزة تتأخر الطالبة عن محاضرتها الجامعية وعندما يلومها المحاضر تبكي وهي تشرح له أنها من المنطقة الوسطى وهي تضطر للسير لمدة ساعة ونصف على الأقدام لأن أهلها لا يملكون أجرة المواصلات، في غزة يهرب الآباء من عيون أطفالهم لأنهم لا يملكون مصروفهم اليومي القليل.. أول من أمس ذهبت لزيارة أحد الأصدقاء الذي قدم لي ابنه الذي يقترب من الثلاثين عاما ليعرفني أنه أنهى دراسته الجامعية في القانون قبل ست سنوات وها هو بلا عمل ولا زواج ولا مستقبل ولا أي شيء يقوم به.
هو عينة من مئات الآلاف هنا من الشباب في غزة والذين طحنتهم عبثية السياسة وروادها الذين يديرونها بمنطق سنة أولى علوم سياسية، وكأن الناس لم تعد تعنيهم أو كأنهم ليسوا مسؤولين عن هذا الشعب .. هم مسؤولون بالامتيازات فقط ولكن بالحقوق والواجبات ليسوا كذلك .. هذا منطق لا يليق بحكم الشعوب وبشعب يدفع فواتير الدم منذ سبعة عقود بسبب الاحتلال .. أما الآن يدفع فواتير الفقر والألم والمعاناة بسبب هواة السياسة فهذا لا يجوز.
في غزة مجتمع طبيعي ككل المجتمعات .. أجيال جديدة تحل محل أجيال قديمة .. الجدد لا يجدون لهم مكانا ولا سكنا ولا عملا ولا يستطيعون الزواج لانعدام ممكنات الحياة .. فقد أصبح الشاب عبئا على عائلته، وكذلك الفتاة التي تدفع ثمنا أكبر لأن لها صلاحية عمرية للزواج، لقد رأيت الخوف في عيونهن في لقاء جمعني ببعضهن ذات مرة للحديث عن أزمات المجتمع لأكتشف الاضطراب والقلق الذي يعشنه كل يوم ويكبر مع سنوات عمرهن.
في غزة أصبح حديث الشباب فقط عن الهجرة ولم تعد فلسطين هي الحلم، يتحدثون كثيرا عن النرويج وبلجيكا والسويد كأوطان يمكن أن تحتضنهم وتحقق أحلامهم بعدما نهش عظامهم جوع السلطة وأكل لحمهم نيئا بلا رحمة .. عشر سنوات على هذا العقاب وليس هناك من يقول كفى مع استمرار نزيف الألم والمعاناة رفيقة كل الغزيين .. لقد تقطعت السبل بسكان هذه المنطقة واحترق المبنى وسحب سلم النجاة ولا خيار سوى اثنين، إما الفقر والانتحار أو انتظار النار.
عشر سنوات في غزة كانت كافية ليموت الناس ألف مرة .. عشر سنوات من التوق للحياة كافية لنرى كيف دمر مستقبل أبنائنا بلا شفقة .. عشر سنوات كما قال محمود درويش كانت كافية لأن تتحول الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفاثة .. عشر سنوات كانت كافية لنشرب من بحر غزة أو ليبتلعنا هذا البحر ولكنه لم يفعل .. عشر سنوات ونحن نراقب هواة السياسة كيف يتعلمون على جلودنا الدامية بلا رحمة.
ماذا لو بقي الوضع لعشر سنوات أخرى ؟ هل فكر أحدكم بالإجابة ؟ وهذا وارد جدا في ظل ثنائية الكراهية والحب الزائد حتى الموت، هل سيبقى المعبر مغلقا.. فحماس لن تغير ولن تتغير.. أليس هناك من يبحث عن حل وسط ينقذ ما تبقى من البشر .. القاهرة تكره حماس هذا مفهوم ولكن ما ذنب الضحايا؟ إنه السؤال الذي يؤرقنا جميعا ويهددنا بامتصاص وحدات عمرنا .. يبدو أن عشر سنوات لم تكن كافية لتفهم حماس أن هذا الوضع يشكل خطراً على المجتمع أو تفهم مصر أن لا ذنب لنا في هذا الصراع ..!