بقلم. مصطفى يوسف اللداوي
لم يكن محمد تركمان هو أول المقاومين المنتسبين إلى سلك الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وبالتأكيد لن يكون آخر من يقوم بعمليةٍ عسكريةٍ ضد العدو الإسرائيلي ومصالحه، فقد سبقه الكثير وسيتلوه أكثر، ما بقي الاحتلال وارتفعت أسوار المقاومة، وما تعددت جرائم العدو وتنافس الفلسطينيون في الانتقام منه، ولن يمنعهم من المقاومة انتسابٌ إلى الأجهزة الأمنية، ولا تنسيقٌ أمني تقوم به قيادتهم مع المخابرات الإسرائيلية، ولن توقفهم البزةُ الرسمية ولا الأسلحة الميرية، ولن تتمكن التعليمات الصارمة، والتوجيهات الواضحة، والعقوبات الصارخة، والتعبئة اليومية المقصودة، وعمليات المراقبة وتقارير الشك والريبة والاشتباه، من أن تمنعهم من الانتماء إلى شعبهم، والإحساس بمعاناته، والغضب لأجله، والقيام بعملياتٍ عسكرية ضد العدو انتقاماً وانتصاراً له، مهما حاول العدو ومن تعاون معه على عزلهم عن محيطهم وفصلهم عن شعبهم، ووصفهم بغير حقيقتهم.
أغضب محمد تركمان وغيره كثيرٌ ممن هم مثله ويخفى على قيادتهم أمرهم، ويستعصي عليهم كشف حقيقتهم، ما تقوم به قيادته، وما تسكت عنه سلطته، وما يرتكبه العدو بحق شعبه، وما يمارسه من جرائم ضدهم، واعتداءاتٍ مستمرة على أرضهم وحقوقهم ومقدساتهم، فأنهى ورديته في الحراسة، وبدلاً من أن يعود إلى بيته في بلدة قباطية، انطلق نحو مستوطنةِ بيت إيل، وهي واحدةٌ من أكبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وحدد هدفه عند أقرب حاجزٍ عسكري، فطهر سلاحه بهم، وأطلق رصاصه على جنودهم، وعلا صوته فرحاً بالاشتباك معهم، قبل أن يسقط على الأرض شهيداً برصاصهم.
لعل ما صرح به نائب وزير الحرب الإسرائيلي الحاخام إيلي بن دهان، الذي وصف منفذ العملية بأنهم “مخربون بزي الشرطة”، أنه “لم يستغرب من أن منفذ العملية العسكرية في بيت إيل هو شرطي فلسطيني”، لهو خير دليلٍ على أصالة شعبنا وعمق انتمائه، وأصالة وطنيته، وإن ظنوا فيه سوءاً، أو شكوا فيه حيناً، أو بدا لهم أنه غير عقيدته، وبدل قناعاته وما تربى ونشأ عليه.
إنه وإن كان عدواً لنا، إلا أنه يعرف أن هذا الشعب لا يخرج من وطنه، ولا يتخلى عن صدقه، ولا يبدل من أجله جلده، وهذا ليس غريباً عليه ولا مستنكراً منه، ذلك أن روح المقاومة تبقى ساكنة في قلوب شعبنا الفلسطيني بكل انتماءاته وفئاته في الوطن أو في الشتات، أياً كانت صفاتهم وألقابهم، ومناصبهم ومواقعهم، فإن فلسطين تبقى في قلوبهم هي الحلم والأمل والرجاء، وأن محاولات غسيل دماغهم، ونزع الروح الوطنية من قلوبهم، وتغيير أفكارهم التي تربوا ونشأوا عليها، تذهب كلها دوماً هباءً، ولا تجدي من يأمل بها نفعاً.
المخابرات الإسرائيلية هي أكثر من يعرف خطورة هذه التصريحات على الأمن والاستقرار في المناطق، فهي قد تؤثر سلباً على التعاون القائم بينها وبين الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ولهذا فهي حريصة على نفي المسؤولية عن السلطة الفلسطينية، وفي محاولة محمومة منها إثر هذه التصريحات لحماية التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي، من قرارٍ سياسي متعسفٍ وعجولٍ، قد يبادر إليه وزير الحرب أفيغودور ليبرمان، أو رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فقد أكدت مصادر أمنية إسرائيلية أن العملية التي قام بها محمد تركمان عمليةٌ فردية، ولا علم للأمن الفلسطيني بها، الذي لم يتأخر إثرها في التعاون مع نظرائهم الإسرائيليين لمعرفة تفاصيل العملية، وما إذا كان منفذها على ارتباطٍ بمجموعاتٍ أخرى، ساعدته في تنفيذها، وحددت له مكانها، أو أنه نفذها بنفسه دون أي توجيه أو مساعدة من أي جهاتٍ أخرى.
مخجلٌ ومخزي ما قامت به الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي أسرعت إلى مداهمة بيت الشهيد محمد تركمان في قباطية، بحجة البحث عن سلاحه الرسمي ومقتنياته الشخصية، في محاولةٍ منها لمعرفة ملابسات ما قام به، وفهم الأسباب التي دفعته للقيام بهذه العملية رغم الإجراءات الأمنية المشددة، والاحتياطات الشديدة التي تتخذها قيادة الأجهزة الأمنية تجاه عناصرها والعاملين في صفوفها.
تأتي العملية التي نفذها الشهيد محمد تركمان التي لم تكن الأولى ولا الوحيدة التي ينفذها مقاومون ينتسبون إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية الرسمية، التي تخضع لشروطٍ واتفاقياتٍ قاسيةٍ ومذلةٍ، تكبلها وتجعل منها عيوناً للعدو، وحراساً له، وأداةً طيعةً في يديه، وعصاً غليظةً يستخدمها وقتما شاء ضرباً أو اعتقالاً، وتأديباً أو تعنيفاً، وفق التعليمات وحسب الظروف والمعطيات، إلا أن هذه العمليات التي تتكرر وتزداد، تثبت بطلان نظرياتهم، ووهم تعليماتهم، وسراب آمالهم، إذ سرعان ما يهب الفلسطيني واقفاً، ينفض عن روحه تراب الذلة، ويكسر من حول معصمية قيود التبعية، ويحرر بالضغط على زناد بندقيته يديه المقيدتين ببنود الاتفاقيات وشروط المعاهدات، ويعبر عن حقيقة الفلسطيني الثائر في سبيل حقه.
إنها الحقيقة التي يجب أن يعرفها العدو ويدركها من نأى بنفسه عن شعبه، وتعاون مع عدوه وتهاون في حق أهله، أن حركة فتحٍ لن تعدم رجالاً كسلفهم، وأبطالاً كمن سبقهم، يجددون مجد حركتهم، ويلحقون بأعظم شهدائهم، وينفذون عمليات يتحدث عنها من بعدهم، ويفخر بها أبناء شعبهم، ويحار في تفسيرها عدوهم، وتتخبط بسببها قيادتهم، ذلك لأنهم بكل بساطةٍ فلسطينيون وكفى، ينتمون إلى هذا الشعب العظيم، ويعيشون على هذه الأرض المباركة، ويدركون أن عدوهم اللئيم يحاربهم في وجودهم، ويريد أن يطردهم من أرضهم.
تأبى جنين إلا أن تكون في المقاومة سباقة، وفي الثبات والصمود مثالاً، وفي التضحية والفداء رائدةً، فلا تتأخر عن الواجب، ولا تتردد عن العطاء، مدينةً ومخيماً وقرىً وبلداتٍ، وهي التي ضرب مخيمها العتيد قديماً في الصمود مثالاً، وفي الثبات درساً، أوهى شارون ولم يهن، وكسر أنفه ولم يلن، ومرغ في التراب آلته العسكرية ولم يخضع.
ولكنها هذه المرة كانت على موعدٍ مع قباطية، ليخرج منها أحد أبنائها الذين ظن المطبعون أنه فسد، واعتقد المنسقون أنه التزم، وخاله المسؤولون عنه أنه نسي الوطن والأهل، وأنه لم يعد يغضب أو يغار، أو يثور وينتفض، فقد هذبته الدروس الأمنية، وغيرت من طباعه حلقات التوجيه ودروس التوعية، ولكن فألهم قد خاب، وسهمهم قد طاش، ومن قبل عقلهم قد فسد وخرب، إذ أثبت تركمان أنه وشعبه في سبيل وطنه ثائرٌ أبداً كما البركان.