%D8%B7%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%A7 أوكرانيا

طبريا السمرا .. ذاكرة وحياة (قصة قصيرة)

مها صفدي سعدي / يأت يوم الأحد، اليوم الذي تخرج فيه العائلة إلى النزهة؛ وبمجرد سماعها “إلى طبريا أوكرانياطبريا” كفرحة الطّفل بلعبته الجديدة تطير، يزداد بريق عينيها لمعانًا، يتماوج خضارهما كتماوج العشب الربيعي مع كل نسمة آذارية.

كل الأرض تحملها أمي بكفّة وتحمل طبريا بالكفّة الأخرى، ولو أمعنت النظر داخل قلبها ستجد فيه لطبريا جلّ مساحته.

نصراوية الأصل- الأب والأم والجذور؛ طبراوية المولد.

والقصّة تبدأ في اتباع جدّي لأمي المثل القائل “مطرح ما بترزق إلزق!”، وكغيره من الرّجال كان عليه أن يصطحب عروسه معه ليسكنا المكان الذي وجد رزقه فيه؛ استقرّ في طبريا حيث عمل بالتجارة.

عاش الزوجان حياة هانئة، وقد أنجبا خمسة من أولادهما الثمانية هناك، كانت أمي ثالثتهم.

بعد ستة عقود ونيّف على نزوحها من طبريا، لا زالت أمي تذكر الثماني سنوات التي عاشتها هناك (منذ الولادة وحتّى يوم التهجير). تُحدّثنا بأدق التفاصيل التّي عاشتها العائلة؛ كيف كانوا ينامون فوق الأسطح في أيام الصّيف القائظ، وكيف كانوا عصر كل يوم يذهبون للتّنزه عند شاطئ البحيرة في مكان عرف “بالبونط” وآخر سمي “بالليدو”.. وتنّور أيوب (وهو نبع ماء، يُقال أن سيدنا أيوب عليه السلام حين استحمّ بماءه شفي من المرض الذي لازمه سنين طوال).

اليوم هو يوم الأحد. تحبّ أمي السفر إلى عكّا، المشي عند شاطئها بمحاذاة أسوارها؛ تحبّ حيفا هدارها وكرملها؛ نابلس جبل النار وسماءها؛ رام الله وأهلها؛ القدس وأقداسها؛ يافا وبحرها.. لكّن لطبريا نكهة خاصّة، تبقى ذكراها شوكة مغروسة في القلب توجع، حجارتها كالهيموجلوبين في الشريان الرئيسي تجري معلّقة في الروح.

بعد عدّة اقتراحات كان الفوز حليف أمي، ركبنا السّيارة وعلى بركة الله سرنا متجهين إلى طبريا، وكلّما اقتربنا من الوصول شعرنا بثقل في الآذان، والسّبب معروف فنحن نقترب من بقعة شديدة الانخفاض عن مستوى سطح البحر.

بضع دقائق ندخل المدينة السمراء (نسبة إلى حجارتها السوداء البركانية)، والسّيارة تمشي ببركة من الله… ها قد وصلنا.

مرحبا طبريا السمراء، مرحبا بالجمال بالتاريخ بالأصالة والعنفوان. لن يمحى عنفوانك؛ حجارتك السوداء تشهد على تاريخك الأبي، وصدى حطّين يجلل في أغوارك، بقايا سراي ظاهر العمر والجامع الكبير بحجارته السوداء، ينابيعك الحارة، عمائرك القديمة، دُكّان جدّي القابع منذ إذ وحتى يومنا هذا.

كلّما حل الأحد نمر من أمام الدّكان، نمر مرّ الكرام، عيناها تبقيان مسمرتان هناك ولسانها يردد “سقا الله هذيك الأيام”، نمضي قدمًا لنبدأ المرور الثّاني فيلتمع خضار عينيها وعلى الفم تبسم لا أدري إن كان تبسم فرح أم انكسار.

أنه البيت بحجارته السوداء، بنوافذه وشرفاته، درجه العامودي.. وبكل تفاصيله. تقترب أمي ونقترب معها، تمشي لصيقة البيت تتحسس بيديها حيطانه، حديد بوابته، وتغرق في لجة من الذكريات؛ وفي وسط تلك اللجة يرتفع صوت أحد الباعة من أصحاب الدكاكين القريبة من البيت “تفضلي يا حجة، سمق طازة” (أي سمك طازة؛ يقولها بلهجة أهل طبريا)، وهو بقايا ما يسمون “يهود أبناء عرب” (يطلق هذا المصطلح على أولئك الأشخاص من اليهود الذين عاشوا بين العرب ما قبل الثماني والأربعين سواء هنا في الدّاخل أو من قدموا من الدّول العربية فيما بعد). تتنبه أمي من لذة حلمها على صوته، تفطن إلى الواقع، تنظر نحو البيت نظرة كسيرة، نظرة من لا حول له ولا قوة، تبعد يدها عن الحائط، ترفع نظرها تجاه المنادي قائلة “شُكرا، مش إسا بعدين…”.

تستمر في سيرها ونستمر معها.

إنّها البحيرة أمامنا بمداها البعيد، وزرقة مائها وتلاطم أمواجها؛ وكلما تلاطمت الأمواج على شاطئها، قذفت في المخيلة ألف حكاية وحكاية تشبه بروعتها حكايا ألف ليلة وليلة، تسردها أمي ويمتزج صوتها بهدير أمواج البحيرة، لتصل في النهاية إلى أسماعنا كأنها من نسج الحوريات.

تحدثنا عن ذلك الشيخ ذي الصيت الذائع بقدرته على شفاء الآخرين؛ والذي كان يمضي يومه قبالة الشاطئ مستمتعا باللهو مع أصدقاءه. وفي يوم من الأيام في ساعات العصر، كان شيخنا يجلس جلسته المعتادة وأصدقاءه في البونط، يتسامرون ويشربون العرق،  عندما جاء بعضهم من مكان بعيد من خارج طبريا يطلبون الاستشفاء، لعل بركة الشيخ تحل بهم ويسمع الله دعاءه فتحمل كنّتهم؛ وبمجرّد اقترابهم كان قد خبّأ الشيّخ قدح العرق، والشيخ حاضر يمسك بورقة ما ويملؤها بالخربشات، يطويها ويوصي الجماعة بضرورة حفظ هذه الورقة في مكان طاهر.

يمضي يوم ويأت آخر والشيخ يجلس نفس جلسته المعهودة، والأشخاص هم ذاتهم يأتونه والبشائر تكلل وجوههم “حبلت كنتنا يا شيخ، بركاتك يا شيخنا!”، ينظر الشيّخ نحو أصدقاءه وضحكة مغلفة بالاستنكار تظهر على محيّاه، يباركهم بالأدعية ويبارك لهم.. بعد ذهاب الجماعة يسأله أحد الأصدقاء “ماذا كتبت في الورقة؟!”؛ يرد ساخرًا وصوت ضحكته يجلجل المكان – كتبت، إن حبلت ولّا لطيـ..ي ما حبلت!

صيف طبريا حار قائظ، طوال أيام الصّيف دأب سكانها الذهاب عصر كل يوم إلى شواطئ البحيرة طلبا لبعض المتعة والانتعاش، والطريف أن الشواطئ حينها كانت مقسمة بعضها للنساء والأطفال، والبعض الآخر للرجال؛ فلم يكن أي صبي فوق الثانية عشرة من العمر يجرؤ على الاقتراب من شاطئ النساء. أما ابن الثالثة عشرة وقتها فكان يعد من الرجال الذين ما كان من الممكن أن تنكشف أية امرأة أمامهم حتى لو كانت أمه. الأطرف من هذا كله كان براعة النساء في خوض البحيرة والسباحة فيها رغم ما عرف حول خطورة البحيرة وكثر دوامات الماء فيها، حيث شهدت عبر السنين الكثير من حالات الغرق (ولا زالت حتى يومنا هذا).

لم تكن فقط نزهات البحيرة من مضفيات المتعة على حياة سكان طبريا، بل زيارة حمّاماتها الطبيعية ذات الينابيع حارة المياه التي كانت بمثابة دواء للكثير من أنواع الداء. وفد إلى تلك الحمامات أناس كثر من داخل طبريا وخارجها. طالبو الاستشفاء من أهالي الناصرة، كان العديد منهم ينزلون ضيوفا على بيت جدي؛ بمجرد كون الشخص نصراويا كانت تفتح أمامه أبواب البيت، سواء كان هذا الزائر قريب أو نسيب أو جار للعائلة الكبيرة أو ربما مجرد صديق او قريبا لصديق.. على مبدأ “بيت الضيق بيساع ألف صديق”. بعد متعة الاستشفاء بحمّامات طبريا كانت تأت السهرات الحالمة والعشوات الشهية ذات الموائد الغنية بالأسماك، وقد كانت جدّتي (رحمها الله) طباخة ماهرة لا يشق لها غبار في عالم الطبخ؛ فكما برعت في إعداد المأكولات النصراوية، برعت كذلك بإعداد أكلات خاصة بالمطبخ البحري مثل “الصيادية” و “طاجن السمك” و “الحريمة”، ومن لم يذق “كبّة السمك” من تحت يديها فقد فاته الكثير.

كان حديث السهرات والعشوات يجمع كل أنواع الطرائف والنوادر، وربّما يمر المتحدثون أثناء أحاديثهم بالمستجدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. هكذا حتى يتعب السّمار ويحن النوم لمداعبة الجفون، بعد أن داعب كأس العرق الشفاه واصلا إلى العقول؛ يأوي كل إلى فراشه حيث النّوم المستطاب.

تتلاطم أمواج البحيرة لترمي بقصة لطيفة أخرى تروى على لسان أمي- ما أجمل قصص الطفولة الممزوجة بالبراءة والعفوية، والأجمل منها النّظر إلى وجهها، إلى عينيها وقراءة انفعالاتها.

اعتادت الجدة صنع الحلويات التقليدية التي صنعتها جميع النساء في تلك الفترة مثل “حلاوة السميد” أو “الأرز بالحليب” و “التّفاح بالسّكر”.

تسللت أمي ابنة السادسة إلى المطبخ، أخذت طبقا نحاسيا، وضعت فوقه عددا من حبات التفاح المغطاة بالسّكر، ومشت متسللة بهدوء حتى وصلت أسفل الدرج العامودي، جلست عند مدخل البيت محاولة بيع التّفاح، مقلدة بذلك بعض صغار الحي من اللذين كانت أوضاع أسرهم صعبة ماديا وكانوا يضطرون لفعل ذلك؛ لم تمض بضع دقائق حتى وصل جدي الى البيت، رآها فجن جنونه وانتهرها العدول عن ذلك طالبا منها حمل الطبق والعودة أدراجها إلى البيت؛ جدّي وهو ابن إحدى العائلات العريقة في النّاصرة، لم يتقبّل ولو أنها كانت مجرّد طفلة، لم يتقبّل رؤيتها تبيع التّفاح من ذات مبدأ ابنة العائلة العريقة؛ وخاب أمل أمي ببيع التفاح وخوض تلك التجربة، وبكت بحرقة آنذاك، وملأتها الغيرة من أبناء الحي اللذين تمكّنوا من بيع تفّاحهم المحلّى حتى حلول المغرب.

تروي لنا ذلك وتتذكر شكلها حينها، وكم حزنت لأنها لم تستطع تقليد أطفال الحي، وتضحك…

سكان الحي، جيران بيت جدي، كانوا من طوائف وقوميات مختلفة؛ عرب مسلمون نصارى وبعض اليهود، جمعهم شارع واحد وحيطان بيوت متلاصقة، لغة واحدة وعادات متقاربة جدا؛ حتى أن أي غريب لم يكن ليعرف من هو العربي من اليهودي. الناس كانوا وقتئذ بسطاء، كل واحد منهم يسعى إلى لقمة عيشه. أقام الجيران علاقات اجتماعية جيدة فيما بينهم؛ والسياسية وقتها كانت قريبة وبعيدة في آن واحد. بعيدة، لم يدركها المنشغلون في أمور عيالهم ورزق يومهم، فارتفع منسوب الإنسانية، وتعاطى الكل بمودة بادية.

وعلى حين غرة تصبح السياسة قريبة، أقرب من أي شيء؛ حينما تشتم رائحة مخططات بعضها خفي وبعضها الآخر في العلن. وما هو في العلن كان يتجلى في ازدياد القادمين الجدد من اليهود إلى البلاد منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى عام الثماني والأربعين، وإقامة عدة تجمعات لهم. في هذه الفترة ظهرت العديد من المؤسسات كـ “الكيرن كييمت” والوكالة اليهودية- تلك المؤسسات التي اهتمت بشراء الأراضي وبدعم القادمين الجدد، فأصبحت هنا لهم في البلاد نواة دولة.

اعتاد زيدي بائع الحليب ترديد عبارة “بدنا نصير حكومة” (بلهجة أقرب إلى اللهجة المصرية والتي ميّزت أهل البلد). وزيدي هذا يهودي ابن عرب من سكان طبريا، كان كلما نطق بهذه العبارة سخر منه رجال الحي وأولهم جدي، على الرغم من كل الدلالات حينها التي لم تكن بحاجة لمقولته!

وعد بلفور، إقامة المستوطنات، بناء المؤسسات.. وكل العلامات الواضحة، كيف تمّ تجاهلها حينها؟!! لا أدري..

من الممكن أنها لم تكن خطيئة البسطاء، الذين أُدخلت في أذهانهم مقولة “لا تقول فول ليصير بالمكيول”.

مع اقتراب العام ثماني وأربعين، بدأت عصابات من الهجاناة وأفراد من البلماخيم تتصادم مع السكان الفلسطينيين في أهم المدن مثل حيفا/عكا/طبريا.. وصولا إلى قرى المثلث؛ وكان الجيش الإنكليزي يساند تلك العصابات في عدوانها على السكان العرب، الذين من جهتهم شكّلوا فصائل مقاومة؛ كذلك فعل سكان طبريا من العرب وجيرانهم من القرى القريبة، حيث تشكلت هناك مجموعات للدفاع عن المدينة، من الشباب بمساعدة من الفصائل المقاومة في عموم فلسطين. لا زالت مشاهد الاشتاباكات بين المعادين والمقاومين راسخة في مخيلة تلك الطفلة التي كانت آن ذاك، وبالرغم من ثقل السبعين الراسخات فوق كاهلها اليوم، لا زالت تصف المشهد وكيف عمد والدها (أي جدي) إلى إقامة حواجز من أكياس الإسمنت أمام الشبابيك كي لا يخترق الرصاص النوافد عابرًا إلى داخل البيت. وكيف دبّ الرعب بين الأهالي حين وصلتهم أنباء عن اقتحام عصابات الصهاينة لقرية ناصر الدين القريبة من طبريا، وقتل العديد من أهلها وحرق بيوتها..

عندما اشتدت الأحداث خطورة، قام جدي بالعودة والعائلة إلى الناصرة، تاركا طبريا وراءه، حيث استقر في بيت العائلة الكبيرة. في طبريا ترك البيت بكل محتوياته والدكان ورأس المال، ظنًا منه أن الحالة ستهدأ وأنه سيعود ليستأنف حياته على النحو المعهود.

في الخامس عشر من أيار من العام ثمانية وأربعين، قام الجيش الإنكليزي بإحضار حافلات لنقل السكان فيها، بعد أن قامموا بترويعهم مرددين عبارة “أخرجوا قبل أن يصل اليهود ويذبحونكم!”؛ والروح غالية والعيال أغلى من الروح، والخوف سرى في الأنفس على نحو هستيري. حمل أرباب العائلات عوائلهم راكبين حافلات الإنكليز طالبين النجاة لهم ولأبنائهم، بادئين أولى خطوات التهجير متجرعين أول رشفة من كأس المرار، حاصلين بذلك على لقب لاجئين.

مثل هذا اللقب أو تلك الوصمة، لم تلصق بأمي وعائلتها لأن لجوئهم كان داخليا إلى حيث العائلة الموسعة، هنا في الناصرة بلدها الأصلي.

في قادم السنين عندما ذهبت السكرة وحلت مكانها الفكرة، فهم جدّي الذي استهزأ حينذاك بزيدي جاره اليهودي بائع الحليب، لماذا كان الآخر يردد جملته المعهودة “بدنا نصير حكومة!”.. مدّ جدي النظر بعيدًا وتفكّر طويلًا، وقد أوصله طول التفكير وغيره إلى أن الكثير من مقومات بناء الدول كانت موجودة قبل الاحتلال، أوجدها اليهود على شكل مؤسسات ضخمة، فكانت مرافق مهمة ودوائر حساسة- مستوطنات، شراء اراضي، مستشفيات وإلخ..

باختصار شديد قد تنبه الجميع من بينهم جدّي بعد فوات الأوان بكثير، إلى أن هنالك دولة عبرية كانت قائمة داخل دولة الانتداب، لم يكن ينقصها سوى اللمسات الأخيرة، التي وُضعت عام ثماني وأربعين- عام النكبة، واتضحت معالمها وتطورت فيما بعد.

رُغم غصة الذكرى، تبقى طبريا تلتمع في خُضر عينيها، ويبقى الحنين إليها يموج في صدرها كموج البحيرة، الذي يقذف الكثير من الأسرار، ويخبأ أكثر مما يجود به.

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …