%D9%85%D8%B4%D9%84%D9%8A%D9%86 أوكرانيا

ضرورة الأدب وحتمية النقد

 مشلين بطرس / عندما ولد الأدب، لم يكن وحيداً في الكون، إنما لديه توأم يشبهه كثيراً، لكنه يختلف عنه بثيمات وخصائص تقر بضرورة مشلينوجوده وحتمية ولادته كموضوع قائم بحد ذاته ألا وهو النقد.

فالنقد هو دراسة للأدب الذي هو مصدر معلومات عنالإنسان وطرائق اتصاله، ومن الأدب تتاح لنا معرفة الإنسان، كما قال دويستوفسكي.

لكن في عصر النهضة اتخذت دراسة الأدب أشكالاً عديدة، ففقهاء اللغة انصب اهتمامهم على ما في وسع الأدب أن يكشف لهم من طبيعة اللغة، وكذلك علماء البلاغة، فقد درسوا الأدب لما يوضحه من فنون الفصاحة والإقناع، كما درسه الباحثون الذين اهتموا بوضع نصوص دقيقة عن ظروف الكتّاب وحيواتهم، فكان النقد فهماً وتذوقاً للنصوص الأدبية، لكن نظرة الريبة والشك كانت ظلاً له وذلك لعدم وضوح أهدافه، ولكونه وسيلة يسعى الناقد من خلالها إلى مجرد تبرير خياراته وتحاملاته.

على الرغم من وجود أوائل النقاد مثل أفلاطون وأرسطووهوراس، لم هذا كافياً لإبعاد نظرة الريبة والشك عن النقد، فهوميروس عندما كان يستدعي ربة الإلهام أو إلهة الغناء لتساعدانه في كتابة الأوديسة أو الإلياذة، فإنه بذلك يقدم ضمنياً تقريراً نقدياً حول الشعر الذي ينظمه وحول جوهره وقيمته، وبذلك فإن هوميروس، وبتواضع، يقلل من قيمة دوره كمؤلف، فيكون نوعاً من وسيط تحفظ حكايات الأبطال القدامى شعراً بواسطته.

وهذا يقدم لنا نتيجة بأن الأداءات الشفهية غير قابلة للتناص، لأن الشفوية تفرض استخداماً ملائماً لسياقها، فيما تنتج الكتابة معرفة تبعد عن سياقها، وإن ابتعدت الكتابة عن سياقها فإن القراءة تعيد بالضرورة المكتوب إلى سياقه، وعليه فإن النص الأدبي يكون صالحاً للقراءة حين يستثمر معناه الدلالي بمعنى نفعي بصفته منطوقاً يلتمس نطقاً حيث يبني علاقات ما تتحد في المجال الاجتماعي والتاريخي بين الناسخ والقارئ فالأدب بمعناه التاريخي يعني تحديد نصوص لا تتطلب أن تقرأ فحسب بل نصوصاً تضع القارئ فيها فاعل التعبير، وليس أداة مشافهة، لأن الكتابة تعتبر فعلاً أولاً، لا يتبين هدفه إلا بالفعل الثاني الذي يتضمنه وهو فعل القراءة.

فالكتابة هي تقشير دائم للوجود، وكما قال ابن عربي “الكتابة خلق”. إذاً فالكتابة هي الحل الوحيد لإعادة التوازن إلى العالم.

فيأتي النقد محاولاً فهم الأدب، وكل محاولة لفهم الأدب تحمل في جعبتها قيمة ومعيايير، وفي ضوء الدراسات البنيوية والأسلوبية والتفكيكية المعاصرة لم يعد النقد مجرد ملحق سطحي للأدب، بل غدا على حد تعبير تودروف قرينه الضروري “ينشأ الخطاب حول الأدب مع نشوء الأدب نفسه” وبذلك يكون النقد إنشاءً لغوياً عن إنشاءٍ لغوي آخر وهو الأدب.

ومن واجبات النقد تجاه أخيه التوأم أن يتكلم مع النص، وليس أن يتكلم عنه، لأن وظيفة النقد لم تعد مقتصرة على التحليل والتفسير والحكم على العمل الأدبي، وإبراز إيجابياته وسلبياته كما كان شائعاً عندما كان النقد يترعرع في أحضان العصر الكلاسيكي.

لقد أصبح الآن لوجود النقد شروط تحققه، وهي ضرورة الوعي الفلسفي بالعصر والأدب وأجناسه، ويستبطن مابين السطور، ومعرفة دلالاتها، فالتكلم مع النص يعني استنطاق شيفراته الظاهرة والمتوارية.

وفي حديثنا عن النقد العربي الحديث، فهو يحاكي في بعض اتجاهاته المناهج والنظريات النقدية العربية من واقعية جديدة وتفكيكية وبنيوية، لكنه لم ينتقل إلى مرحلة المثاقفة والحوار معه.

فالنقد الغربي كما نعلم لم يأت نتيجة محاولات فردية، كما في النقد عندنا، بل جاء نتاج تجمعات ونشاطات تعنى بالأدب والابداع والنقد، وتحترف العمل بهما ومن هنا كانت تسمية “مدرسة براغ” وغيرها الكثير الكثير مثل السريالية والبنيوية.

لذلك على النقاد العرب أن يستنبطوا من النص العربي معايير تحدد قيمة أدبية لإنتاج كتابنا، لا أن يستوردوا ما أنتجه الأخرون، مع ضرورة الأخذ به والحوار معه.

فمن النقد تولد مشكلة التداخل بين القيمة الفنية والحكم الأخلاقي، أو العكس، ففنياً علينا أن نقارن هذا لانص بما سبقه من نصوص تنتمي إلى جنسه، فأهمية النصوص في ما تضيفه على ما سبق منها، لأن التعلم هو الخطوة الأولى نحو التطور، والتقليد خطوة نهائية وحتمية نحو الموت. لكن للمعيار الأخلاقي في النقد حضوراً قوياً أيضاً، فلابدّ من التريث قبل اصدار أي حكم قد يعني الموت وخصوصاً على النصوص الوليدة، وكتابها المبتدئين، وبالرغم من وجود كفتي ميزان للنقد، فعلى الناقد آلا يتساهل فيعلي الأخلاقي على الفني، وكما وعليه أن يبتعد عن الأحكام المسبقة أو المتسرعة، فهي تفسد الذائقة وتساعد على الرداءة والاستسهال في الكتابة.

وأخيراً لا كتابة ما لم يكتب الإنسان نفسه، فعليه آلا يدع الآخرين يكتبونه، فأن تكتب يعني أن تخلق، يعني أن تدخل في مناطق جديدة لتكتشفها، وبهذا يتحول الأدب عند يوسا إلى نشاط دائم يشغل وجود الكاتب، فهو لايكتب ليعيش بل يعيش ليكتب.

والزمن هو الناقد الوحيد الذي لا طموح له، كما قال جون ستايبنك.

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …