صعود الإسلاميين وتداعياته على مستقبل الأنظمة والدولة المدنية والأقليات
10 أكتوبر, 2012
مقالات, ملفات خاصة
مأمون شحادة / في الوقت الذي اخذت عبارات الارتياح والطمأنينة تجتاح جسد الشارع العربي بوصول الاحزاب الاسلامية الى سدة الحكم، اصبح ينظر الى معضلات الانظمة السياسية العربية والدولة المدنية ومستقبل الاقليات، وكأنها معضلات بسيطة يمكن حلها بسرعة، غير مدركين ان المجتمع العربي يعاني من اشكاليات ومعضلات لازمت التاريخ العربي، الامر الذي يلزمه عملية تشريح فكري سلوكي بين الماضي والحاضر لقراءة المستقبل.
صناديق الاقتراع والوجه الحقيقي لتفسير الحال العربية
ما ان تربع الاسلاميون على قاعدة افرزتها صناديق الاقتراع، حتى بدأت التكهنات وسط العديد من التداعيات على مستقبل الأقليات ومدى اندماجها ضمن الاطار المستقبلي للحقبة الاسلامية القادمة، وكذلك التداعيات المستقبلية لشكل الأنظمة السياسية ومستقبل الدولة المدنية.
وسط تلك التأملات والتأويلات فإن المرآة التي لا يستطاع من خلالها رؤية الوجه الحقيقي لتفسير الحال العربية، الا من خلال صناديق الاقتراع، إنما هي صورة مخيالية لقراءة الواقع لتكون حكماً عليناً، ونحن نعرف أن الحال العربية متخمة بكثير من الإشكاليات وصراع الأضداد، وتحتاج إلى قراءة واقعية وعقلانية ونقدية تاريخية، تتناسب مع وضعية المجتمع المنوي معالجته، وليس الاكتفاء بصندوق تُعَلقُ عليه الآمال، وفق تقمص ايديولوجي يصبغ القراءة بالطائفية والحزبية والقبلية، وتهميش الاضعف(عددياً او ايديولوجياً) امام الغالبية الانتخابية.
فإشكالياتنا لا يمكن معالجتها بما تفرزه تلك الصناديق وفق نظريات لا تراعي وضعيتنا العربية، فأهل مكة أدرى بشعابها، وعلينا أن نعرف أن الغرب حينما كان يعالج مشكلاته الداخلية، كان في الوقت حينه يصدرها للبلاد المنوي استعمارها. أما نحن العرب فكنا دائماً وما زلنا في موقف المدافع، ما بين الكراهية والإعجاب بالـ”آخر”.
فالمعضلة العربية ليست كالتعريفات الرياضية، والطبية، والهندسية المستوردة، وليس من الفطنة تعريفها بالانسلاخ عن الواقع والاكتفاء بـ”صندوق انتخابي يفرز احزاباً تقف منبهرة امام انهيار مفهوم الدولة والذات العربية والثقافة السياسية” بل نقدها بعيداً عن المثالية التي تعتبر الوطن العربي خال من المعضلات بوصول الاسلاميين، فالمنظور الأميركي (مثلاً) المبني على تعريفات هنتنغتون وفوكوياما تجاه العالم العربي، أخطأ مساره التاريخي بإغفاله عامل التراكم الديمقراطي للحال الاميركية، وتوهم أن مفهوم الديمقراطية عصاً سحرية يمكن تطبيقها في أي مجتمع، بعيداً عن المنظور التاريخي الخاص بالمجتمعات.
وصول الإسلاميين الى السلطة بين حيرة السؤال وثقافة المجتمع
دار بيني وبين مجموعة من أصحاب الفكر اليساري على موقع الحوار المتمدن الالكتروني حديث تتأدلج عليه “لغة الضاد وصراع الاضداد” ما بين سنديان الاجابة ومطرقة السؤال، ولسان حالهم يقول “رغم المشاركة الفعّالة للقوى اليسارية والتقدمية في الثورات الأخيرة في عدد من الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط والعالم التي هزت الرأي العام العربي، وغيرت الكثير من الرؤية النمطية لشعوب هذه البلدان، وقادت إلى تغيير الكثير من حكوماتها، إلاّ أن النتائج التي أفرزتها هذهِ الثورات إلى الآن صبّت إلى مصلحة قوى الإسلام السياسي وحركتها في الشارع العربي”.
وعلى الرغم من تلك الاجابة، الا انهم وكما رأيتهم متفائلين، لانه أصبح في مقدور القوى اليسارية والشيوعية والديمقراطية أن تمارس اليوم عملها بشكل علني وفي ظروف هي أفضل عموماً مما كانت عليه من قبل.
امام هذا الحديث، وامام هذا التفاؤل ايقنت على الفور ما يدور في مخيلة اليساريين الجالسين الذين طرحوا السؤال ولسان حالهم ثانية يقول “ربما يُحتم على هذهِ القوى موازنة حركتها وإعادة تقييمها ومواكبة التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية الجارية في الساحة وجعلها تصب في خدمة التحرر والعدالة الاجتماعية والمساواة والثقافة المدنية العصرية وبناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، وتطوير برامجها وخطابها السياسي وأساليب نضالها بما يتناسب والوضع السياسي الذي أفرزتهُ هذهِ الثورات، والاستفادة قدر الإمكان من التطور العلمي والمعرفي والطاقات الشابة والنسائية التي ساهمت بشكل مباشر في إسقاط الأنظمة العربية، ولكن! هل هذا يتلاءم وثقافة المجتمع العربي؟”.
في حقيقة الامر لا نستطيع استثناء أي دور جماهيري ضمن التحركات التي شهدتها المنطقة العربية. الا ان المدى الذي تنحصر به تلك المشاركة ينعكس على ارض الواقع حسب الثقافة التي تتجذر في أوساط المجتمع العربي، فعلى سبيل المثال تونس والمغرب ومصر وما افرزته الانتخابات بفوز الاحزاب الاسلامية، دليل على ان الثقافة عامل يؤدلج السلوك.
ما يعني، ان للمجتمع العربي خصوصية لا يستطيع أي احد من تجاوزها، فالثقافة المشتركة، والتاريخ المشترك، والمصير المشترك، وخصوصاً عنصر الدين، هي عناصر ومحددات تجتمع ضمن الاطار الثقافي للخلطة العربية.
الأنظمة السياسية ومستقبل الدولة المدنية
قبل الحديث عن الانظمة السياسية ومستقبل الدولة المدنية، يجب معرفة الماضي وقراءة معضلة الحاضر لاستشراف المستقبل، في الوقت الذي يجب فيه طرح أسئلة كثيرة تجلّت في الساحة السياسية العربية منذ القدم، لتشريح الماضي وطرحه حاضراً للوصول الى المستقبل، ابتداء من اجتماع سقيفة بني ساعدة، في ظل عدم وجود نظام سياسي يحدد طبيعة الحكم، والتدرج في جمود الفكر “السياسي” العربي، وعودة القبلية العصبية، والتناحر على السلطة، وسياسة التوريث.
الاستيلاء على السلطة معضلة قديمة
أسئلة كثيرة امام احداث مصيرية عديدة، ادت الى استمرار التأزم السياسي العربي، مروراً بموقعة الجمل وصفين وتبعاتهما، وتغيرات الحكم، التي انتهجها معاوية بتولية ابنه يزيد بالقوة، مجسداً في ذلك حكماً أموياً، يليه انتقام عباسي مسيطر على سدة الحكم، وتبع ذلك صراع سياسي ما بين البداوة العربية والبداوة الآسيوية، ادى الى انقسام الدولة العباسية، وسقوط السلطة المركزية، ثم احتضارها، الذي اوقع المجتمع العربي في الضياع وسط تعدد القوميات، والإثنيات، ما جعل من المنطقة العربية لوحة فسيفسائية سريالية عصيّة على الحل.
وسط هذا الزحام للاستيلاء على السلطة، كان الفرد العربي مغيبا عن خوض الحراك السياسي، بسبب صنمية الحكم التقليدي، والقرارات الإقصائية، وغياب التنشئة والثقافة السياسية، ليتبلور في ذلك مفهوم سياسي مبني على تداول الدولة وليس السلطة.
فترة الخلافة العربية وانتهاجها طريق التوريث
ان فترة الخلافة العربية وما شابها من ارهاصات لم تستطع ان توظف عامل القومية كعامل اتصال ما بين الحاكم والمجتمع لبلورة ثقافة سياسية، بل تم اقصاء الرابطة القومية لمصلحة الرابطة الدينية، من دون ان تمر في عملية الصهر والمزج، حتى أخذ المجتمع بالانزواء تحت راية القبيلة والعشيرة، لان فترة تلك الحقبة ركزت على الحروب والفتوحات، فكيف يتم صهر المجتمعات غير العربية في المجتمع العربي، في الوقت الذي لم يستطع فيه صهر القومية العربية (عربياً) بين الحاكم والمحكوم من اجل انشاء وصياغة رابطة الانتماء الطوعي؟.. الى ان جاءت فترة التنوير العباسية المتأثرة بالفكر اليوناني والفارسي، فلم تجد طريقاً للنجاح، لأن عملية الصهر الداخلي ما بين “القومية والرابطة الدينية” لم تتم، وكذلك هناك الكثير من الارهاصات الفكرية، والثورية، الأمر الذي أدى الى بزوغ الدويلات، وسيطرة البداوة الآسيوية لأكثر من ألف عام، الى ان بدا واضحاً مرض تلك البداوة وظهور الدولة القطرية.
لغة المشاركة السياسية
هكذا هي الساحة العربية، جمود في الفكر السياسي، وحقبة طويلة أدت الى تغييب الفرد العربي عن معترك السياسة، بدل لغة المشاركة السياسية، ما جعل من هذا الفرد يتمرد على كل السلطات الآنية، لينادي باسم القومية العربية واحيائها، لبناء دولة عربية تحمل في حناياها وحدة العرب التكوينية، وهو الشيء عينه الذي جعل من الاسلاميين (السلفيين) ينادون بارجاع الخلافة الاسلامية الى اصحابها العرب، فدخلت المنطقة العربية في صراع الضد بين الفكر القومي والفكر السلفي وسط الاتهام والاقصاء.
خطاب ديماغوجي
ومع انهيار السلطنة العثمانية وقدوم الاستعمار، تناست الحركات القومية والاسلامية “السلفية” وجوب التحرر من ثقافة الإرهاصات الماضية، فالحلول المستقبلية تستوجب علاجاً داخلياً وجوهرياً، وكما قال هشام شرابي “يجب احداث ثورة داخل الثورة”، من دون الاندفاع الى طريق مجهول لا يحمل الا المناكفة.
اندفعت تلك الحركات لتدخل معترك المجال السياسي وفق خطاب ديماغوجي، ودون الاهتمام بالمجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، لتبقى المنطقة العربية في مخاض صعب لبناء تلك المجالات، ذلك لأن من أساسيات المجال السياسي وجود مجال اجتماعي تصاحبه مسؤولية فردية مبنية على الواجب، وان تحقيق المجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي من ضمن المجال السياسي (التحرري) يتطلب اطلاق الحريات، التي تمثل “المصلحة” بين الأفراد.
*النظرية والتطبيق
يتبين ان الحركات الاصلاحية ما بين النظرية والتطبيق، لم تراعِ أن المجال الثقافي هو مجال يؤدلج المجال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، يؤثر ويتأثر بها من خلال إنتاجها الفكري (ينتجها ويمنتجها)، لأن جميع المجالات الحياتية، تتجلى في الإطار الثقافي لبيئة المجتمعات.
حاولت الدولة القطرية ان تلبس نفسها ثوب التحديث، من خلال نماذج عدة مستوردة، كالاشتراكية، والجمهورية، والرأسمالية، لكنها فشلت في استثمار تلك النماذج، لانها لم تنبع من ذاتية وخصوصية المنطقة العربية، وبذورها لا تتلاءم مع التربة العربية، فكان من الواجب تبيئة تلك النماذج لتتمازج وتتلاءم مع البيئة العربية، ولكن.. أليس هذا ناتجاً عن تراكم زمني سببه ان الفرد العربي لم يتعود فيه على نظام سياسي واضح لتداول السلطة، بل على نظام اقصائي، وفق مفهوم التداول، وليس ثبوت الدولة، غير متناسين في الوقت عينه، ان الحكم القبلي العربي أقصي عن السلطة والحكم لمدة الف عام خلال فترة حكم البداوة الاسيوية!
الحراك العربي بين تقوية الذات وترسيخ الوعي العربي
اننا، كإطار عربي، نسينا مصطلح “التغيير والتحول الاجتماعي” والثورة على البنية السياسية البطرياركية القهرية الاقصائية التي تسكن عقولنا، ولم نعرف حتى اللحظة أن التفوق على الآخر لن يكون إلا من خلال تقوية الذات وترهلاتها الاقتصادية والاجتماعية وخصوصاً الثقافية.
وكذلك نسينا مصطلح التقارب والاندماج الثقافي بين مشرق الوطن العربي ومغربه، واستبدلناه بمصطلح المخيال الثقافي، كل يتوجس من الآخر، في الوقت الذي أصبحنا نعرف ثقافة المجتمعات الأخرى بدل معرفتنا بثقافتنا نحن، والأخطر من ذلك إهمالنا مصطلح الثقافة السياسية وترسيخ الوعي العربي.
صحيح أن أمة الضاد تنتمي ضمن الإطار النظري لعناصر القومية العربية، إلا أن إطارها التطبيقي يفتقد الثقافة المشتركة ويحاول الالتفاف على التاريخ والمصير المشترك، ووأد اللغة العربية تحت مسميات جلد الذات والفئوية والطائفية والقبلية، أو كما شئتم أطلقوا عليها من المسميات.
فنحن حتى اللحظة لا نجد صياغة واضحة لتعريف الذات العربية والدولة المدنية، فإذا نقدنا، جاء النقد قياساً بالمجتمعات الأخرى، وإذا أردنا إصلاحها جاء تقليدياً وبعيداً عن التجربة الزمانية التي خاضتها المجتمعات المتقدمة عبر حقبها التاريخية.
المهم من ذلك المقدرة على إنشاء ثقافة سياسية وتعاقدية يُفَسَّرُ من خلالها أن الدولة ليست “القبيلة أو الطائفة” أو “الحزب والشخصانية”، وسقوط تلك المصطلحات لا يعني سقوط الدولة، والتداول هو للسلطة فقط، مع الابتعاد عن توظيف المصطلحات دون مراعاة حدودها الزمانية والمكانية.
الكثير منا يفسر “بخلفياته التاريخية والتحليلية والبنائية” أن الديمقراطية هي الدواء الشافي لمعضلاتنا الحياتية، غير مدركين في الوقت حينه، أن هذا المصطلح القادم من خارج الفضاء العربي، لن يكون دواء شافياً لالتئام الجراح النازفة من الديكتاتورية العربية الفردية، بل إنه سيتحول إلى دكتاتورية أخرى باسم الأغلبية، إن لم يكن هناك اتفاق شعبي لخلق واقع جديد، مع العلم أن ذلك الواقع يجب أن يمر خلال ممرات تكاملية تكسب الفرد العربي لغة المواطنة، حيث لا نستطيع الانسلاخ هكذا عن المعضلات التي صاحبت التاريخ العربي.
إن الديمقراطية مثل الجنين، تحتاج إلى حاضنة لتكتمل مراحل نموها، لكي لا تكون مشوهة وعالة على المجتمع، فهذا المصطلح يجب أن يمر خلال مراحله الفكرية لخلق موروث ديمقراطي تشترك فيه كل شرائح المجتمع.
صحيح أن سطوة الحاكم العربي سقطت من على مصطلح الخوف وأحكام الطوارئ، لكن جسم الضاد عصي على إسقاط القبلية، والشخصانية، والطائفية، والديماغوجية الحزبية من عقليته التي تترنح ما بين الماضي والاستغراب، لا سيما وأن هذا الجسم ينتقي قشور المصطلحات بعيداً عن جوهرها السلوكي.
هنا لا بد أن نتذكر مقولة أحد الحكماء “إن الثورة مثل الفتاة الجميلة، لا نعرف أخطاءها وإيجابياتها إلا بعد الزواج منها”، وكذلك نتذكر قول المفكر الفلسطيني هشام شرابي “يجب إحداث ثورة داخل الثورة”، لكي لا يفسر مفهوم الثورة في غير موضعه، فيكون مفعولاً به، بعيداً عن الفاعل، إضافة إلى ما قاله الكاتب والباحث محمود عبد الفضيل “إن العرب لا يستطيعون اتخاذ قرار عسكري أو اقتصادي حاسم إلا إذا كانت هناك قاعدة غذائية عريضة يتوفر معها فائض غذائي، يحول دون قطع صادرات الحبوب إلى المنطقة العربية”.
يتبين من ذلك ان خوض معركة الحضارة سابقة على خوض معركة السياسة، من اجل بناء قواعد الدولة، ومفهوم المواطنة، التي يجتمع عليها افراد المجتمع نحو طريق واقعي واحد، وثقافة سياسية واحدة، بعيدا عن الهيام التاريخي وتجميل الماضي، والاستغراب، والمثالية الديماغوجية، لكي يستطاع بناء قاعدة الأمن والأمان، والأمن الغذائي والقومي؟
الاقليات بين التواجد الاسلامي والدولة المدنية
ان اشكالية الاقليات في الوطن العربي تمثل نقطة مهمة يجب حلها بطريقة جوهرية ترسو على قاعدة العدالة الاجتماعية والسياسية ومفهوم المواطنة، بعيداً عن الشعارات النظرية التي تفتقد التطبيق.
المطلوب في المرحلة القادمة ارساء رابطة الانتماء الطوعي بين افراد المجتمع وخصوصاً الاقليات، الامر الذي يحتم على الاحزاب الاسلامية التي تتربع على عرش السلطة استعمال مبدأ الاحتواء وليس الاقصاء والتهميش، للمحافظة على سيادة الدولة من أي اضطرابات تستغلها اطراف خارجية، مع العلم ان مشكلة الاقليات اقدم من مجيء الاستعمار الى المنطقة العربية، الامر الذي يدعو الى عدم استعمال فزاعة الاستعمار لبناء صورة مخيالية عن الاقلية ضمن حدود الدولة، وان أي حل لمشكلة الاقليات لا يمكن ان يكون خارجياً، بل داخلياً، بعيداً عن الخطابات الحماسية الشعبوية، كمن يخض الماء ليصنع لبناً.
فالاقلية حالياً تعددت مفاهيمها واختلفت وتوسعت بقدوم الربيع العربي، اضافة الى العنصر العرقي أو القومي او الديني او اللغوي او النقص النسبي في العدد والقوة، التي عرفناها قديماً… او غيرها، بل تعدت الى اكثر من ذلك وصبغت نفسها بالايديولوجيات الحزبية، حيث اصبحت الايديولوجيا خطاً يميز بين فئة واخرى، ومن المتخوف مستقبلاً ان لم يكن أي فرد عربي ضمن اطار “الاحزاب الاسلامية وقداسة الحزب” ان تصبح النخب الفكرية اقلية غير مستحبة بين اروقة سنديان الحزب الحاكم ومطرقة الايديولوجيا، في الوقت الذي استبدلت فيه قداسة الحاكم بقداسة الحزب الإسلامي.
بعيداً عن كل الديباجات اللغوية والتنظير والتنصيص يجب ان نصارح انفسنا بحقيقة واضحة، ان الاحزاب الاسلامية تقف حائرة بين سنديان صندوق الاقتراع ومطرقة السلطة لحل مشكلة الاقليات، ذلك لان جسم الوطن العربي عصي على إسقاط القبلية، والطائفية، والديماغوجية الحزبية والشخصانية من عقليته التي تترنح ما بين الماضي والاستغراب، لا سيما وأن هذا الجسم ينتقي قشور المصطلحات الاصلاحية بعيداً عن جوهرها السلوكي.
فالمراجع والمرجعيات المسموعة منها والمكتوبة فشلت خلال المرحلة السابقة في حل مشكلة الاقليات، ذلك لانها كانت نظرية اكثر من المطلوب، وكذلك شعبوية كمثل من يطحن الهواء ليخرج دقيقاً، معللة ان الدكتاتورية الفردية التي انتهجها الحاكم العربي حالت دون تطبيق ذلك. فـهل تستطيع مفرزات “نتائج صناديق الاقتراع” تحويل الدكتاتورية الفردية الى دكتاتورية جماعية بحسب قانون نسبة الغالبية.
هذا ما يعيد ادلجة قداسة الحكم الفردي الى مرحلة القداسة الحزبية، وفق فكر وقتي يفتقد الثقافة السياسية والعدالة الاجتماعية، وكأن الثقافة الحالية هي مؤدلجة بحسب مواصفات الاغلبية الاقتراعية.
معضلة اجتماعية وسياسية قديمة ترسم ملامح المرحلة المقبلة
يتضح من ذلك ان الجسم العربي يعاني من معضلة اجتماعية وسياسية قديمة، يلزمها وصفة سياسية تسمى بـ”التنشئة والثقافة السياسية”، لتجعل منه قادراً على تبييء “نماذج الحكم” بالشكل الصحيح، وليس تبييئها بثقافة الاستبداد والخطابات الديماغوجية، فظهرت المؤسسة العربية مشوهة بطابع القبلية، والشخصانية، والحزبية الديماغوجية والارتباط العائلي، ما يعني ان حال الماضي مشابه لحال اليوم. فالرابطة الاقصائية ما زالت مسيطرة على رابطة الانتماء الطوعي، التي يُفَسَّرُ من خلالها ان الدولة هي القبيلة او الحزب، وسقوطهما يعني سقوط الدولة.
امام هذه الحقائق، اليس الحري بنا وخصوصاً الاحزاب الاسلامية الاقتناع بأن الحال العربية تفتقد عنصر الدولة ومقوماتها البنيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك يتحتم علينا معرفة ان الاغلبية الحزبية توظف عامل الثقافة في غير موضعه، وكأن ذلك العامل اصبح ايديولوجيا يلعب على مدارات الطائفية والقبلية والحزبية والشخصانية، في الوقت الذي يتناسى فيه الكثيرون ان الخطابات التي تحمل شعارات رنانة لبناء الدولة ستكون كالماضي القريب، فالشعارات الديماغوجية لاصلاح المجالات الحياتية هي شعارات حزبية شخصانية وليست شعارات وطنية.
ليتضح وكما قال المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” أن تلك الإشكاليات برزت بعودة الثالوث الفكري (القبيلة، الغنيمة، والعقيدة)، ليجعل حاضرنا مشابهاً لماضينا، ويجعل عصرنا الأيديولوجي النهضوي والقومي وكأنه فترة استثنائية، فأصبحت “القبيلة” محركاً علنياً للسياسة، وأصبح الاقتصاد ريعياً أو شبه ريعي مطبوعاً بطابع “الغنيمة”، وأصبح الفكر والأيديولوجيا “عقيدة” طائفية أو شبه طائفية والذي يحتم على نقد هذا الثالوث (الماضي في الحاضر) بتحويل القبيلة في مجتمعنا لتنظيم مدني سياسي اجتماعي حديث، وتحويل الغنيمة إلى ضريبة، والاقتصاد الاستهلاكي إلى اقتصاد انتاجي، وتحويل “العقيدة” إلى رأي بدلا من الفكر المذهبي الطائفي والمتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة.
النتائج والتوصيات:
1. على الاحزاب الاسلامية ان تبتعد عن الخطاب العربي الشعبوي السابق وتتعامل بإصلاح المجالات الحياتية (السياسية والاقتصادية والثقافية) بطريقة التوافق الاجتماعي.
2. نتائج صناديق الاقتراع لن تكون دواء شافياً لالتئام الجراح النازفة من الديكتاتورية العربية الفردية، ويجب تجنب تحويلها إلى دكتاتورية أخرى باسم الأغلبية. ذلك لان المجتمع العربي يفتقد الثقافة السياسية.
3. من خلال تشريح الماضي والحاضر للوصول الى المستقبل، فان الانظمة العربية ان كانت اسلامية او غيرها، هي انظمة شكلية وتتصف بالقبيلة والطائفية والحزبية الديماغوجية والشخصانية.
4. قاعدة “العدالة الاجتماعية والسياسية” وقاعدة “نقد الذات والواقع والتاريخ” مفقودتان بين كل شرائح المجتمع العربي.
5. من اجل بناء الدولة المدنية، يجب على الاحزاب الاسلامية معرفة ان من أساسيات المجال السياسي وجود مجال اجتماعي تصاحبه مسؤولية فردية مبنية على الواجب، وان تحقيق المجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي من ضمن المجال السياسي (التحرري) يتطلب اطلاق الحريات .
6. المستقبل العربي غامض وآيل لتجزئة المجزأ وتفتيت المفتت، لأن “القبيلة، والغنيمة، والعقيدة الإيديولوجية” تتحكم بمستقبل الوعي العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورقة بحثية قُدمت للمؤتمر الثاني لوحدة البحوث والدراسات الاستراتيجية التابعة للجيش اللبناني: “حول الشرق الأوسط ما بعد 2011، التحولات الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية” الذي عقد في بيروت 2012.