شاعر …وقرصنة ذاكرة
7 يونيو, 2015
ثقافة و فنون, مقالات
مشلين بطرس / بالرغم من الآلام والمآسي التي تمرّ بها البشرية بشكل عام، والوطن العربي بشكل خاص، ولأن الألم هو النبل الوحيد الذي يبني الشاعرالحقيقي، مافتئ الشعراء والأدباء يعبرون عن ذاتهم وابداعهم الثقافي في الفن والأدب والموسيقى، ولأن القراءة هي إنتاج لإنتاج سبقها “الكتابة” فإن كل قارئ يقرأ ذاته في النص، وبهذا يكون النص الواحد حمّال لعدة قراءات في آن واحد.
فالقراءة تختلف باختلاف القراء وأمزجتخم وثقافتهم، لذلك عندما نقرأ ذاكرة القرصان للشاعر الدكتور محمد ناصر الدين، سنجد أن النصوص تمدّ ألسنتها وتستنطق الغياب، وتحاور المسكوت عنه، وأنها تومئ أكثر مما تقول، وتحتوي في بنيتها على عدة طبقات لكل منها لسان خاص بها ضمن الأزمنة والظروف اللتين نشأت من خلالهما هذه الطبقة، وهذا ما أشار إليه بارت “بصلة لكل منها حجم وخصوصية، وإن كانت الطبقات تشكل في نهاية الأمر هذه الثمرة”.
لنرى ما يدور في رأس غزالة، أن أندريه بروتون لم يرسمها إلا سيدة بلا أعين….، ولنجد أن الشاعر يتساءل كيف اخترعتم الحب، وكيف وصفتم الوردة ياهوميروس ويا بودلير؟؟ لنجد أن هذه المجموعة الشعرية مفعمة بالرمزية والانزياحات اللغوية، مدججة بقراءات الشاعر الذي أضاف إلى معمار القصيدة الحداثية، من حيث الأسلوب والمنحى والاتجاهات، وقد أغنى قصائده بأساليب شعرية مبتكرة، ومداليل لغوية مستعصية، تتطلب بعداً معرفياً ماورائياً في كشف دلائل الأساليب التصويرية لتبدو كل قصيدة لديه بشكل وأسلوب متجدد بكثافة مشهد يحقق غاية النص ويضفي عليه رونقاً شعرياً متناغماً مع إيقاعات الموسيقى الشعرية فعندما ” خرج سكوربيون من الأغينة/ دخلوا تحت الأغطية/ في الثياب الداخلية…..” لنجد أن “القصيدة خيط يبيض الحزن في عين الإبرة ليبحث عن زر في الصحراء” وفي أخرى يقول “الشاعر في صفحة الأبراج كان عقرباً لكنه عاش رقيقاً كالفراشة” ليتوغل أكثر في عمق الحياة وينزع عنها القناع قائلاً: الموت يرصدنا/ كماسح الأحذية الذي يحدق بأقدامنا….فالشاعر هنا قد أدرك حتمية الموت التي جعلته أكثر وعياً بالزمن، فعاش اللحظة المزدوجة/ الزوال والبقاء على قيد الحياة، عندما ألق اللوم عالله مكملاً: …. لم يلق الله في أرجلنا بعض الحكمة لنعيش حفاة” ليعود إلى القول بأن الحياة مستنقع لا لغة فيه إلا الملاريا.
ليخترع على جزيرته لغة لاتقتل أحد/ لغة شفافة، وبالفعل لقد اخترع الشاعر لغته وأسلوبه الخاصاخترع تجربته الجديدة، ففي أحوال النبي “كل شيئ ورد في التقرير ياغريكو/ المسحة الذكورية للروح القدس والنساء الأربعك المسيح، بوذا، لينين وأوليس……”وبالرغم من أن هؤلاء الأربعة ليسوا نساء في الواقع إنما رجالاً كما أخبرنا التاريخ، لكن الشاعر أحالنا هنا إلى الطاقات الكونية، والشطحات الصوفية التمردة على الواقع والحياة والتاريخ، وإلى الحكايات الأسطورية، وكأن الشاعر يستعيد فكرة الأنوثة المقدسة.
وبذلك يستحضر القارئ في مخيلته لوحة الموناليزا الذي كان لمبدعها دافينشي اعتقاد بوجود توازن بين الذكر والأنثى، فهل يبحث الشاعر عن هذا التوازن المفقود؟ أم أنه مولع بالتلاعب بالألفاظ والألغاز ووضع الزموز وحلها؟؟؟
لنجد أن السيدة ماركس اجتهدت في اقناع دائرة الهجرة إلى أمريكا أن زوجها كارل، لم يكن ماركسياً، وهذه كلمة ماركس الشهيرة دوماً “أنا لست ماركسياً” لكن دون جدوى.
ومنه نجد أن محمد ناصر الدين شاعر من جيل جديد ومن النادر جداً أن يتطرق هذا الجيل إلى هذه المواضيع العميقة التي تطرق لها الشاعر، وبأسلوب شعري حداثي امتلك تقنياته وأدواته، مما يدل على أن عملية الابداع مازالت تنتج، وتفرز المواهب الشعرية الفذة التي ستترك بصمتها في الساحة الأدبية، بإثارتها وقيمها البنانية والجمالية دون تهويمات فضفاضة وأحكام طنانة تحرف مسار المتلقي وذائقته الشعرية والأدبية، لذلك إن تجربة شاعرنا هنا هي تجربة شعرية جديدة تحاول أن تبني لها فضاء إبداعياً خاصاً، وليست كالكثير والكثير من التجارب المصطنعة والمكرورة التي لا تضيف شيئاً إلى التجارب السابقة، إنما يطبل ويزمر لها بصخب صحفي، وهرطقات مقززة.
ونحن دائماً على أمل أن يستفيق المشهد الثقافي من سباته، ونتذكر دائماً قول الشاعر الانكليزي شيللي “إن الشعراء هم مشرعوا الجنس البشري غير المعترف بهم”