%D9%86%D9%88%D9%81%D9%84 2 أوكرانيا

سيكولوجيا كورونا .. بقلم د. نوفل حمداني (الجزء الأول)

تعرضت الأمم عبر الأزمنة إلى أوبئة و أمراض فتكت بها… إنتشرت كالنار في الهشيم، و قضت على العشرات بل المئات من الناس في فترات زمنية ربما تكون قصيرة. و قد أثرت هذه الأمراض –الظرفية- على الأفراد و المجتمعات، و غيرت بعد إندثارها فكرهم و قيمهم، بل و غيرت مسار الحياة و سلوكياتهم  و رسمت طريقا جديدا.

و لعل الطاعون الذي أصاب أوروبا  أو ما يعرف في كتب التاريخ “بالموت الأسود” ظل عالقا في الظمير الإنساني لفترة طويلة، حيث أنعكست آثاره في كتب الأدب و الشعر و حتى في التكتيك السياسي.. و أنظروا إلى أمثلة أخرى كانتشار الكوليرا في شرق المعمورة- في روسيا القيصرية- و كيف تغنى الشاعر المعروف أوليكسندر بوشكين و هو في الحجر الصحي بإقتراب إنجلاء الأحزان و رجوع الحياة إلى الأرض..

سيكولوجيا الأوبئة

في علم النفس، أوجد الأطباء مبحثا أسموه “سيكولوجيا الأوبئة”، و هو نتاج عن أنماط سلوكية و نفسية جماعية و فردية –ربما- ارتبطت بأزمنة إنتشار الأوبئة…

فمجرد ظهور الوباء إلا وتظهر موجات من الخوف الجماعي، تسايرها عدد من التفسيرات المحللة لهذا الوباء إما دينية، أو إقتصادية، أو سياسية.. و قد تسبب هذه الموجات التي سأطلق عليها مصطلح – تناقظات- زخما كبيرا في السلوكيات و محاولات ربما شبه بائسة في مقاومة “العدو”..

“سيكولوجيا الأوبئة” التي نتحدث عنها تؤكد وجود طبيعة مزدوجة في السلوك الإنساني. ففي الأوقات الطبيعية، يتمكن الناس أو أغلبهم من الحفاظ على عقلانيتهم، غير أنه في وقت الأزمات تأخذ اللا عقلانية زمام الأمور، و يجعل الخوف والقلق والارتياب الأفراد يتوجهون نحو سلوكيات متناقضة غير منطقية.

 أمثلة ذلك متعددة، و الأن أصبحت واضحة في زمن “الكورونا” – كالتفسير على أنه ابتلاء من الله- وجبت الصلاة و الدعاء..والتوجه للمشعوذين من أجل إنقاذ النفس.. كذا خوف المجتمع و محاولته الخروج إلى الشوارع / خير وسيلة للدفاع الهجوم/ …فيستعيد الفرد نمطًا حياتيا بدائيا غير متحضر تحركها المشاعر والاحتياجات البدائية حتى تسيطر على الفرد تمامًا،.. كذلك إختلاق مفهوم المؤامرة ..خروج “دعاة جدد” و “محللين جدد” على وسائل الإتصال الإجتماعي… فالعولمة حطمت كل الحواجز بين الدول والشعوب والثقافات والأعراق. و الإنترنت جعل العالم قرية واحدة. فأصبحت الرسالة تقطع المعمورة بثوان، و الأفكار أصبح يشارك فيها جميع الناس، المثقف و الجاهل، والمتعلم والأمي، كلهم يتبادلون الآراء والمواقف …و الأمثلة كثيرة.. و هذا الأمر سيستمر المجتمع الانساني في تطبيقه – لأن الأوبئة طبيا تعد–أمراضا جديدة- أي هناك معلومات قليلة عنها و عن كيفية انتشارها و سرعة انتشارها..

من الأمثلة أيضا ما نراه من خلال أزمة –الكورونا-  من هلع في شراء المواد الأساسية و الأولية من الغذاء، والذي قد يؤدي -في حد ذاته- إلى أزمة بشرية خانقة. فعلى الرغم من توفر المواد في الأسواق، وتأكيد الحكومات و الدول على ذلك فأن الأفراد يشعرون بالقلق الداخلي المنصب في اللا وعي و يجبرهم على إفتناء الكثير و تخزينه..

ما يؤكده علم النفس، أن الإنسان كيفما كان – في زمن الأوبة- لا يشعر بالخطر المرتبط باصابته بالوباء و الموت لاحقا / كما الحال في الحروب. الخوف المباشر من الموت/ بل يواجه العقل البشري خطر الخوف من المجهول – أي أن الموت بالنسبة “للـ أنا” يصبح شيئا ملموسا و معروفا بشكل أو بآخر.. فتكثر الظواهر البشرية المبسطة لموضوع الموت و تهول المجهول القادم من الوباء. فالموت يصبح حسب “فريد” موضوعا عاديا كالأكل و الشرب والتنفس، و لا يصاب الإنسان بالهلع منه (رغم أنه أكثر ما يخيف الإنسان في الأوقات و الأزمنة العادية) .. فعدم وجود القدرة على توقع متى وكيف ينتهي الوباء، ولا يوجد وقت واضح أو يقين بظهور الدواء هو من يهول المجهول ويضعه في أولويات الأفراد.

كما أن الأفراد يقعون في ضغوط كبيرة، خاصة إذا وقع أحد المقربين بين أيدي الوباء، الضغوط النفسية تكون أكثر حول إذا أصيب أحد المحيطين به أيضا، و لم لا يصاب الشخص نفسه تعزز المخاوف أكثر بين الأفراد و الجماعات.

بداية الأمراض النفسية

القلق هو بداية كل الأمراض النفسية، وعلى الأغلب فأن العالم اليوم يعاني من موجة قلق جماعية –شاء ذلك أم أبى- و حسب نظري فإن نسبة كبيرة من سكان الكرة الأرضية سيعانون من إضرابات نفسية بعد إنتهاء أزمة كورونا. فــ”عادات الوباء” ستظل راسخة حتى بعد انقضائه.. و هي وساويس النظافة و الخوف من عودته مثل غسل اليدين، مراراً وتكراراً بحجة التطهير من الميكروبات والفيروسات.

أما انتشار الوباء بحد ذاته، فهو على الارجح سيسبب حالة هستيريا جماعية للشعوب قد تتحوّل إلى أحداث فعلية ذات طابع فوضوي و تخريبي وانفلاتات كما صوّرتها أفلام هوليوود. و قد أثبت علم النفس أن هناك “روحاً واحدة للجماهير” تخضع لإيعاز قائد أو محرك يديرها ويسيطر عليها و اليوم هو “كورونا الفتاك”.

لحظة للتفكير

 كل هذه التحديات تدعونا اليوم ، إلى التفكير في نموذج إنساني جديد يعيد القيم الإنسانية بعيدا عن الفلسفات الدينية و المالية و التي أدت بشكل أو بآخر إلى تفكيك المجتمع الدولي و القضاء على الطبيعة البشرية.    كما تشكل فرصة ذهبية للتعاطي الإيجابي مع “الأوبئة” التي تعترض الإنسانية وتحول تداعياتها النفسية السلبية إلى طاقة إيجابية تحرره من الخوف ، بعيدا عن الانهيار السيكولوجي.

مع تحياتي للقارئ الكريم، نلتقيكم في الجزء الثاني من المقال.

د.نوفل حمداني ..طبيب نفسي

شاهد أيضاً

جورجيا

من يؤثر على الديمقراطية في جورجيا ودول أخرى؟

أحمد عبد اللطيف / في السنوات الأخيرة، أصبح التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة …