روسيا وقاعدتها البحرية في المتوسط

عبدالزهرة الركابي/
قرأ المراقبون رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام المشرعين الروس، على أنها رسالة تحدٍ، عندما قام بطرح برنامجه الاستراتيجي، حتى عدها هؤلاء ملامح مرسومة للمرحلة المقبلة، خصوصاً وأن الرئيس الروسي قد أبدى مخاوفه من الفلك العالمي الجديد، والذي لا يخلو من المتغيرات والهزات السياسية والانعطافات الخطرة، التي تحتم على بلاده مواجهتها بكل صلابة، وذلك من خلال تحديث المؤسسة العسكرية التي تقع على عاتقها مواجهة التحديات المتحركة.
لا أحد ينكر أن روسيا قد أخذت عبرة من أحداث ليبيا، كما أن بوتين لا يزال حانقاً على أميركا والغرب، عندما أعتبر تلك الأحداث بمثابة (المقلب) الذي تعرض له، الأمر الذي جعله يفكر، بل هو يعمل وفق البرنامج المذكور على قيام تكتل إقليمي قوي، يكون بمقدوره التصدي لمحاولات الاختراق الغربية، والتي تستهدف دول الجوار، كي يتسنى لها تطويق أو محاصرة روسيا، وقد تكون تحركات الأسطول الروسي صوب البحر المتوسط والتمركز قبالة الموانئ السورية، واحدة من عمليات التصدي الاستباقية حسبما تقول المصادر المقربة من الكرملين، حيث يدعي الروس أن الغرب يستخدم الأراضي التركية أو بالأحرى تركيا كرأس حربة لوجستياً وجغرافياً، في عملية التطويق هذه، وبالتالي فإن موسكو هذه المرة ليست مستعدة لخسارة ورقة أخرى.
وفي اللقاء الأخير الذي جمع الرئيس الروسي بوتين برئيس الوزراء التركي أردوغان، كانت الأزمة السورية في مقدمة عنوان لقائهما هذا، حيث ذكرت مصادر مطلعة في كواليس هذا الاجتماع، أن بوتين أبدى تحفظه بل وحنقه حيال منصات الصواريخ التي تمركزت على الأراضي التركية، مذكراً أردوغان بأزمة الصواريخ الروسية في كوبا عام 1962 والتي نُشرت رداً على نشر الغرب صواريخ على الحدود التركية المحاذية لروسيا، لكن أردوغان تذرع بأن هذه الصواريخ ليست هجومية، وإنما وضعت من باب الاحتياط، خشية من قيام سوريا باستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد تركيا أو ضد المعارضين.
وتقول هذه المصادر إن أردوغان وعد الرئيس الروسي في نهاية اللقاء بسحب هذه الصواريخ عند انتهاء الأزمة السورية، التي تباين بشأنها موقفا الزعيمين وكان الخلاف بينهما كبيراً، إذ قال الرئيس الروسي إن بلاده تنظر الى الموانئ السورية بأهمية كبيرة، خصوصاً وأنها توفر تسهيلات استراتيجية للأسطول الروسي، وهو لا يريد التفريط بها لأسباب عسكرية ولوجستية وجغرافية، ولكون هذه المواقع والتسهيلات وفرت لروسيا موقعاً متقدماً واستراتيجياً في البحر المتوسط، يجعلها في موقع الشريك الكامل لأميركا في حال إيجاد تسوية مناسبة للقضية الفلسطينية، والحال نفسه ينطبق على مستقبل سوريا.
وفي هذا اللقاء أيضاً أبدى بوتين لأردوغان مخاوفه من دور (الإخوان المسلمين) في الحاضر والمستقبل، لا سيما في حال مشاركة هذه الجماعة في أي تسوية لنظام الحكم مستقبلاً في سوريا ومنحها دوراً مركزياً، لأن مثل هذا الدور سيجدد القتال ضد قواته في الشيشان، وأكد في الوقت ذاته أن الصين تشاركه في هذه المخاوف لأن امتداد الإسلام السياسي إلى دول البلقان وآسيا يشكّل خطراً على استقرار دولتين كبيرتين، وأنه ليس في وارد انتظار هذا الامتداد، بل سيعمل بما يمليه استقرار بلاده والحفاظ على أمنها ومصالحها.
يخلص المحللون والمراقبون بالنسبة للموقف الروسي من الأزمة السورية، الى نتيجة مفادها، أن روسيا تنطلق في موقفها هذا، من اعتبارات عسكرية وسياسية ذات أبعاد مرحلية واستراتيجية في آن، حيث تعتبر القاعدة العسكرية البحرية في طرطوس من أهم القواعد العسكرية، وهي ذات أهمية استراتيجية لروسيا في العالم، فهي تشكل تواجداً دائماً للأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وما لهذا التواجد من تأثير وخلق حالة توازن في أهم منطقة حيوية في العالم.
يُذكر أن لروسيا قاعدتين بحريتين خارج حدودها الأولى في أوكرانيا على البحر الأسود حيث يتواجد أسطول البحر الأسود هناك والثانية في طرطوس، ولهذا تولي روسيا أهمية كبيرة للحفاظ على القاعدة العسكرية في طرطوس، حيث تجوب في البحر الأبيض المتوسط قطع حربية من أسطول البحر الأسود، وللقاعدة موقع استراتيجي في المنطقة، لقربها من مضيق البوسفور ومن ثم جبل طارق، وهذا الموقع يمكّن روسيا من وصول قطعها البحرية الى المحيط الأطلسي.
من هنا تأتي أهمية القاعدة العسكرية في طرطوس لروسيا في ظل المتغيرات الجيوسياسية الحاصلة في مناطق عديدة من العالم، وارتباطاً بالدور الروسي الجديد في الساحة الدولية، وهذه المتغيرات الجديدة فرضت على روسيا تواجد قطع من أسطولها في البحر الأبيض المتوسط، والذي تمتد دائرة عملياته لحدود دول عدة تقع في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
والسؤال هنا: هل تفرّط روسيا بقاعدتها في طرطوس، وما هي الصفقة التي ستوافق عليها، والتي من خلالها ستحافظ على تواجدها في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط؟.
سؤال وجيه، والقادم من الأيام يعطينا الجواب اليقين.

المصدر: صحيفة المستقبل