بروفيسور الدكتور محمود الحمزة – موسكو
مداخلة ألقي ملخص عنها في معهد موسكو للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية
3 /12/2013
المقدمة:
أيها الحضور الكريم
أشكر عميد كلية العلوم السياسية الصديق العزيز البروفيسور فوسكريسينسكي على دعوتي للمشاركة في الاحتفالات بذكر مرور 15 سنة على تأسيس الكلية وأهنئكم بهذه المناسبة متمنياً للكلية طلبة وأساتذة وعمادة النجاح والتقدم في عملهم العلمي والتربوي لما فيه خدمة العلم والإنسان والسلام في روسيا والعالم.
أتحدث اليوم أمامكم بصفتي مواطناً في روسيا الاتحادية من أصول سورية (وأنا أعبر عن موقف المئات من أمثالي) وأود أن أؤكد على الحقائق التالية:
1- روسيا هي وطني الثاني وأنا أحبها وقد تعلمت فيها وقضيت أجمل ايام حياتي وتخرجت من جامعاتها وحصلت على أرقى مستوى من التعليم في مجال الرياضيات وتزوجت من فتاة روسية ولدينا أربعة أطفال يتحدثون الروسية والعربية بطلاقة وهم يحبون روسيا ويفتخرون بالثقافة الروسية العريقة وأنا معهم أتمنى كل الخير لروسيا ولشعبها.
2- سوريا هي وطني الأم وأنا أحب سوريا وشعبها وتاريخها الحضاري أكثر من نفسي وأتمنى أن تكون سوريا بلد متحضر عصري تسوده الحرية والديمقراطية والقانون، أي أن لا تكون سوريا لعائلة أو طائفة أوفئة محدودة بل لكل السوريين بغض النظر عن اثنيتهم وطائفتهم وديانتهم.
3- أود أن تبقى العلاقات الودية والصداقة التاريخية بين شعب روسيا والشعب السوري قائمة وأن تتوطد وأن تكون روسيا إلى جانب الشعب السوري في تحقيق أمانيه المشروعة كما كانت على مدى عقود غابرة، وكذلك أن تساهم روسيا في بناء سورية الجديدة الحرة الديمقراطية في جميع المجالات. أي اتمنى أن تكون مصالح روسيا محفوظة في سوريا مقابل الحفاظ على مصلحة الشعب السوري الحر.
فما الذي لا يناسب القيادة الروسية في كلامي هذا؟
أرى أنه من المنطقي أن نتفق على أن ما حدث بداية في سوريا هو احتجاجات سلمية عفوية من أجل الحرية والكرامة وتعود أسبابها العميقة إلى الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السيئة التي أوصل نظام الأسد البلاد إليها. وتكفي هنا الإشارة إلى أن عائلة الأسد التي جنت عشرات المليارات، ممثلة برامي مخلوف وذو الهمة شاليش ومحمد مخلوف، هيمنت على كل الاقتصاد السوري ونهبت مقدرات البلاد وقامت سلطة الأسد بقمع الرأي الآخر ممثلاً في المعارضة السياسية والفكرية والثقافية وأودعتها السجون لعشرات السنين فقط لأنهم نادوا بالإصلاح السياسي السلمي والتدريجي (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي).
عقلية السلطة الأسدية:
نرجع قليلاً إلى التاريخ: إن عائلة الأسد استلمت الحكم نتيجة انقلاب عسكري قام به حافظ الأسد حيث أودع رفاقه السجن ولم يعف عنهم إلا وهم موتى أو قاربوا على الموت. وبنى دولة أمنية متوحشة عصبها الأساسي قائم على الطائفية والتفرقة بين الأقليات القومية والدينية. وكذلك تميز حكم الأسد بوحشيته في قمع أي تحرك شعبي وأحداث حماه 1982 تؤكد على ذلك حيث قتل أكثر من 40 ألف سوري على أيدي القوات الخاصة لشقيق حافظ الأسد وهو رفعت الأسد الذي غادر البلاد لاحقاً وهو يحمل في جعبته مئات الملايين من الدولارات (التي أعطيت له علناً من خزينة الدولة!) ليصبح من أكبر رجال الأعمال في أوروبا والعالم. وأعبر عن اسفي لأن هناك دبلوماسيون روس يلتقون مع رفعت الأسد وأبنائه بصفتهم معارضين علماً أنه يجب أن يقدم رفعت الأسد للقضاء السوري لمحاكمته على الجرائم والسرقات التي قام بها.
وقبل الثورة السورية بأسبوعين أجرت صحيفة أمريكية لقاء مع بشار الأسد وسألته فيما إذا كان يخشى من اندلاع انتفاضة شعبية في سورية فأجاب بأنه مطمئن، لأنه يعرف شعبه الذي يحبه، ولا يمكن أن يحتج ضده. وحول سؤال: لماذا لا يقوم الأسد بإصلاحات لكي يتجنب الاحتجاجات المحتملة، قال إن الإصلاح يحتاج لوقت وقد تراه الأجيال القادمة! أي أن الأسد ونظامه لم يفكر لا بإصلاحات ولم يرد في مخيلته أن الشعب بقي لديه روح وإرادة للاحتجاج نتيجة الوضع المزري الذي وصل إليه الناس.
وبعد الثورة، ومنذ اليوم الأول تعاملت السلطة السورية بكل قسوة ووحشية مع المتظاهرين السلميين (قصة أطفال درعا أصبحت معروفة للجميع) وبقيت التظاهرات سلمية 7 أشهر تقريباً (باعتراف الأسد نفسه) لكن الأسد اختار القوة الأمنية والعسكرية والشبيحة لقمع الانتفاضة لأنه اعتقد أنه سيخمدها مثلما فعل أبوه قبل 30 سنة.
أما الحوار الوطني والحل السلمي وكل ما أجراه النظام من اصلاح ديكوري للدستور وإلغاء مفعول قانون الطوارئ وإقرار تعدد الأحزاب وغيره من القوانين التي لا تساوي الحبر الذي كتبت بها، كل ذلك طرحه النظام متأخراً وله طابع شكلي يهدف لذر الرماد في العيون ولخداع الرأي العام السوري والعالمي وكسب مزيد من الوقت لقمع الانتفاضة.
ويمكن إضافة النقاط التالية حول الوضع الداخلي في سوريا:
1- لا ننسى أن حافظ الأسد استلم الحكم بانقلاب عسكري وقتل كل معارضيه وابنه بشار استلم الحكم بالوراثة وبتزوير من مجلس الشعب وعائلة الاسد نهبت البلاد وخنقت العباد فأين شرعيته وعلمانيته. وأكد المسؤولون الروس مراراً بأن الأسد ليس صديقهم وزوجته تحمل الجنسية البريطانية، ولم يدرس أحد من أفراد عائلة الأسد في روسيا وإنما هم أصدقاء للغرب. وهذا دليل قاطع على أن دفاع روسيا عن نظام الأسد ناتج عن حسابات جيواستراتيجية (سياسية واقتصادية وأمنية) لا يوجد فيها اي اعتبار لطموحات الشعب السوري نحو الحرية والكرامة. وقد قال بشار الأسد مرة في مقابلة مع صحيفة لبنانية: روسيا ستبقى تساعد سوريا لأنها – أي روسيا- تدافع عن نفسها.
2- اتهمت وسائل الإعلام الغربية والروسية بشكل مقصود وموجه الثورة السورية والمعارضة المسلحة بأنه متطرفة وإسلامية وإرهابية متناسين بعض الحقائق المهمة ومنها: إن النظام السوري هو مصدر الإرهاب في المنطقة. فقد قام بتدريب الانتحاريين في سورية وأرسلهم إلى العراق طيلة سنوات الاحتلال الأمريكي للعراق وتعاونت المخابرات السورية مع منظمة القاعدة وهذا مثبت في وثائق ويكيليكس (أقوال علي مملوك) وكذلك تعاونت مع المخابرات الأمريكية. وكذلك قام بشار الأسد في بداية الثورة بإطلاق سراح 500 عنصر من القاعدة من السجون السورية ليشكلوا نواة ما عرف لاحقاً بـ “جبهة النصرة” التي أعلنت بعد فترة بأنها تابعة للقاعدة. إضافة إلى أن النظام السوري أطلق سراح 65 ألف مجرم ولص وتاجر مخدرات وجندهم كشبيحة لقتل المتظاهرين والاعتداء على بيوت المواطنين واغتصاب النساء والتنكيل بالناشطين لقاء رواتب ومغريات معنوية ومادية.
3- قام النظام باستدعاء صالح مسلم (التابع لحزب العمال الكردستاني في تركيا ورئيسه عبدالله أوجلان الذي سلمه حافظ الأسد لتركيا) وميليشياته التي كانت ملاحقة من قبل المخابرات السورية ومتمركزة في جبال قنديل في تركيا ليقوم بدور مشبوه في محاربة الثورة والجيش الحر باسم حزب الاتحاد الديمقراطي وبمزاعم حماية الشعب الكردي.
4- منظمة دولة الإسلام في العراق وبلاد الشام المتطرفة لا نعرف من أسسها ومن يمولها ولا علاقة للمعارضة الوطنية بها. وقد تمركزت في المناطق المحررة وهي لا تحارب النظام ولم تدعم الثورة وإنما تقوم بتصوير فيديوهات أساءت لسمعة الثورة مثل الإعدامات والقتل وغيره، كما أنها تسارع لإقامة إمارة إسلامية في المناطق المحررة، بدل أن تحارب النظام، وتمارس العنف ضد السوريين وتعتقل الناشطين وتفرض على الأهالي أنماط حياتية متشددة ومتخلفة غريبة على الشعب السوري المعروف باعتداله ووسطيته وانفتاحه على العصر.
5- يقوم النظام باستخدام كافة أصناف الأسلحة الثقيلة ضد شعب أعزل فيدمر الأحياء والمدن والقرى ويقتل الأطفال والنساء ويعتقل المواطنين ويمارس ضدهم أبشع أنواع التعذيب. واستشهد حتى الآن حوالي 11 ألف طفل سوري وتشردت مئات الألوف من العائلات وأكثر من 7 ملايين بقوا دون منزل أو مأوى ومارس النظام سياسة التجويع حتى الموت كما حصل في حمص والمعضمية وداريا واستخدم صواريخ سكود الباليستية ليدمر بها مدينة حلب والرقة وغيرهما واستخدم البراميل المتفجرة عن طريق القصف الجوي بطائرات الميغ الروسية ولم يتوانى النظام المجرم في استخدام الأسلحة الكيماوية لقتل السوريين وهم نيام في ريف دمشق. باختصار يقوم نظام الأسد بمساعدة حلفائه الطائفيين بعملية إبادة جماعية وتصفية طائفية أمام مرأى العالم وبدعم من حلفائه لا يمكن وصفه إلا بانعدام الأخلاق والقيم الإنسانية.
6- بالنسبة للأقليات: من غير العدل وصف المسيحيين في سوريا بأنهم أقلية لأنهم سكان سوريا الأصليين وهم جزء ومكون أصيل في بلدان الشرق الأوسط. وقد عاش المسيحيون وغيرهم من المكونات الدينية والاثنية بإخاء على مر القرون ولكن حكم البعث وعائلة الأسد بشكل خاص زرعت التفرقة والتمييز على أسس غير وطنية. ويجب التذكير بأن من هاجروا من سوريا من المسيحيين قبل الثورة يزيدون أضعاف أضعاف عن الذين هاجروا خلال الثورة والمسؤول عن هجرة المسيحيين هو النظام الذي ضيق عليهم الخناق وتحكم بحياتهم وحول معظم قساوستهم إلى فئة تابعة للسلطة ومصفقة لها . وهناك كذب إعلامي كبير حول اضطهاد المسيحيين في سوريا من قبل المعارضة السورية المسلحة فالجيش السوري الحر لم يتعرض إلى المدنيين المسيحيين أو أي غيرهم من المكونات المدنية الأخرى. بينما النظام هو الذي قصف المساجد والكنائس، ودولة الإسلام هي التي تخرب بعض الكنائس والمعارضة بريئة منها.
ونستشهد بكلمات لمعارض سوري مسيحي: هل يخسر المسيحيون كنيسة يسوع الناصري لمصلحة كنيسة شبيحة؟ في إشارة إلى بعض الشباب المسيحي الذين ارتضوا أن يكون شبيحة النظام في عدد من المحافظات متخلين بذلك عن الثقافة المسيحية التي ترفض أن تكون طرفاً في الصراع بين أبناء البلد الواحد.
ويؤخذ على روسيا الحملة التي أثارتها حول الخطر المحدق بالمسيحيين وأنهم يهجرون ويقتلون. لا أنفي أن المسيحيين يتعرضون للقتل والاضطهاد مثلهم مثل بقية الشعب السوري وإن كان بنسبة أقل بكثير، ولكن المسيحيين الذين قتلوا على أيدي المعارضة لم يقتلوا لكونهم مسيحيين وإنما كشبيحة ومقاتلين إلى جانب قوات الأسد. وكان المطران يوحنا إبراهيم متروبوليت حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس، في مقابلة خاصة لقناة ” الجديد ” اللبنانية بتاريخ 2 كانون الثاني 2012 وباللهجة المحكية حرفياً قال: ” استشهد ما بين 50 إلى 60 مسيحي، ولكن و لا واحد قتل لأنه مسيحي، في العراق حصل هذا، بحيث صارت الهجمة على المسيحيين كونهم مسيحيين، بينما في سورية لم يحصل هذا”.
والسؤال هنا: ما الهدف من اطلاق روسيا لحملة إعلامية سياسية تقول بأن 50 ألف مسيحي سوري يطلبون الجنسية الروسية لحمايتهم ؟ أليست هذه مساهمة في توتير الأجواء الطائفية والمذهبية في سوريا وخدمة للنظام السوري الذي يدعي أنه حامي الأقليات وأن المعارضة تهدد الأقليات وخاصة المسيحيين. والحقيقة عكس ذلك!
حيثيات الرؤية الجيواستراتيجية الروسية للوضع السوري:
روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي
من المعروف أن الاتحاد السوفيتي بنى علاقات وطيدة وواسعة مع العالم العربي وكان يقف إلى جانب الشعوب العربية ويدعم عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبناء الجيوش النظامية التي مهمتها حماية الأوطان من الاعتداءات الخارجية. ولكن الخطط شيء والواقع شيء آخر. فالأنطمة التي وصفت بأنها وطنية تقدمية وحظيت بدعم القيادة السوفيتية كانت في الحقيقة أنظمة شمولية تاجرت بالشعارات البراقة على مدى عقود وتحت حجة الاستعداد لمجابهة العدو الخارجي الامبريالي- الصهيوني خدعت شعوبها وحرمتها من أبسط مقومات الحياة الكريمة فجردت تلك السلطات المواطن من حرياته السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية وألغت دور الدولة وحولتها الى خادمة للسلطة القمعية الفاسدة ، حيث تهيمن الأجهزة الأمنية على كل مقدرات المجتمع.
وقد ورثت روسيا دولة الاتحاد السوفيتي بعد انهياره عام 1991 وعاشت تجربة مأساوية متخبطة تبحث عن هويتها ومستقبلها ومكانتها في هذا العالم. ويعتقد بعض الروس أنهم مروا بمرحلة ثورية في تسعينيات القرن الماضي والتي أوصلت الليبراليين إلى سدة الحكم بقيادة الرئيس بوريس يلتسين وما رافقها من فشل ذريع وتدهور غير مسبوق في مستوى المعيشة وفوضى في جميع مجالات الحياة أبرزها إفلاس الدولة الروسية ونهب أهم ممتلكات الدولة من قبل حفنة من الروس الجدد الذين تحولوا إلى أصحاب مليارات بين ليلة وضحاها.
وبعد انهيار الدولة السوفيتية – التي كانت تجابه الولايات المتحدة- كقطب ثان في العالم إبان الحرب الباردة، تعرضت روسيا الى هزات عنيفة بالاضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي والفكري والاجتماعي، تجسدت في محاولات تقسيم روسيا وضرب وحدتها السياسية كدولة وبرز ذلك في انتفاضة الشيشان من أجل الانفصال وبناء دولة اسلامية. وارتبطت الحرب في القوقاز بتداخل عوامل داخلية وخارجية منها انتعاش المافيات وتجار الأسلحة والمخدرات وكذلك الدعم بالمال والعتاد والمقاتلين للشيشان التي تحولت إلى بؤرة خطيرة على مستقبل روسيا الاتحادية كدولة.
وفي عام 2000 جاء فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم واستخدم القوة المفرطة في قمع المتمردين الشيشان وحصدت الحرب الشيشانية أكثر من 100 ألف إنسان وتدمرت مدينة غروزني – عاصمة الشيشان.
وفي سلسلة من الحوارات التي أجريت معه في عام 2000، صرح بوتين بأن “جوهر.. الوضع في شمال القوقاز والشيشان.. هو استمرار انهيار الاتحاد السوفييتي.. وإذا لم نفعل شيئا سريعا لوقف ذلك، سوف ينتهي وجود دولة روسيا في شكلها الحالي.. وكنت مقتنعا أننا إذا لم نتمكن من وقف المتطرفين على الفور (في الشيشان)، فإننا سرعان ما سنواجه يوغسلافيا جديدة في كافة أراضي الاتحاد الروسي – يوغسلافية روسيا. ونحن نعرف كيف كان بوتين يشعر تجاه انتهاء الاتحاد السوفياتي؛ ففي عام 2005 أطلق عليه “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، وهو التعليق الذي يكشف إحساسه بالأسى لانهيار الدولة السوفياتية أكثر من انتهاء الشيوعية.
محور الاستراتيجية الخارجية السياسية والأمنية الروسية:
الحفاظ على مصالح الدولة الروسية في العالم مع تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية داخلية، والتكامل مع العالم الغربي وتجسد ذلك في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية والذي يؤكد التوجهات الأوروبية الرأسمالية لدى النخبة الروسية الحاكمة. وإلى جانب التعاون والتكامل مع الغرب دأبت روسيا إلى اثبات حضورها ودورها في الساحة الدولية بشكل عملي وفعال بعد أن فقدت مصالحها في يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق. وجاءت أحداث 2008 في جورجيا لتثبت أن روسيا لم تعد دولة يمكن تهميشها بل يجب مراعاة مصالحها الخارجية. وهنا نلاحظ بأن روسيا فكرت بزيادة قوتها العسكرية والمنافسة مع أمريكا والغرب .
ويتحدث بعض المحللين عن عوامل اخرى مؤثرة في الموقف الروسي تتعلق بالنفظ والغاز ومفادها أن دولة قطر تخطط لتمديد أنابيب لنقل الغاز المسال عبر الأراضي السورية إلى أوروبا والذي سينافس الغاز الروسي. ولكنها برأيي ليست مقنعة 100%. فلو كانت قطر تريد تمديد أنابيب لنقل الغاز عبر سوريا الى أوروبا فلماذا لم تفعل ذلك قبل الثورة خاصة وأننا نعرف أن العلاقات بين الأسرة الحاكمة في قطر وبين عائلة الأسد كانت ممتازة، وكذلك خصصت دولة قطر مليارات الدولارات للاستثمار في سوريا. ثم أن قطر والسعودية ودولة الإمارات لم يتخذا موقفا مؤيداً للثورة السورية إلا بعد مضي أشهر وهذا يؤكد عدم وجود خطط مسبقة لاسقاط النظام السوري لدى دول الخليج العربية وإنما حدث ما حدث لاحقاً على ضوء تطور الاحتجاجات الشعبية وتعامل الأسد الوحشي معها.
وأشك بالإشاعات التي بثها موالون للنظام (مثل الشعيبي) عن وجود احتياطيات هائلة من النفط في مياه البحر المتوسط الأقليمية لسوريا لكي يثبتوا مزاعم بأن هناك مؤامرة غربية خليجية على سورية للسيطرة على مقدراتها النفطية الهائلة، علما أن تلك الثروات المزعومة وإن وجدت فلم تكتشف بعد على ما يبدو.
مرت العلاقات الروسية العربية في فترة التسعينيات ببرود وركود. وتوجه اهتمام الروس نحو التعاون مع أوروبا وأمريكا. بالرغم من إعادة العلاقات الديبلوماسية مع دول الخليج العربية بداية من 1990 إلا أن الأحداث الشيشانية أعاقت التعاون الحقيقي بين روسيا وهذه البلدان. بل بالعكس برزت مشاكل جديدة وخطيرة من قبيل تمويل المتمردين الإسلاميين في القوقاز، ما شكل تهديداً حقيقياً لنشر الأفكار الإسلامية المتشددة في روسيا والتأثير على المسلمين في روسيا الذين يبلغ تعدادهم اكثر من 20 مليون (نسبة السنة فيهم تزيد عن 95%).
اما عن علاقات روسيا ببقية الدول العربية فكانت روتينية وتراجعت كثيراً بالرغم من أنها لم تنقطع في تلك الفترة. ويؤخذ على الدول العربية إهمالها للتعاون مع روسيا في التسعينيات، في وقت كانت روسيا بأمس الحاجة لهكذا تعاون، خاصة وأن روسيا كانت ومازالت سوقاً مفتوحة للاستثمارات الخارجية. ولو استثمر العرب الأموال في روسيا وأقاموا مشاريع اقتصادية كبيرة لكان بامكانهم اليوم التأثير في الموقف الروسي تجاه القضايا العربية.
ويجدر الذكر بأن مشاعر الروس المعادية للغرب استمرت في مرحلة ما بعد العهد السوفيتي ويقودها القوميون الروس والشيوعيون وفئات متشبعة بالروح الأرثوذكسية. وهذا الأمر عن يحظى بتشجيع من النخبة الحاكمة التي تسخر تلك المشاعر من أجل توحيد الصف الوطني حول القيادة ولكي تلهي الناس عن همومهم الحياتية المتفاقمة نتيجة الغلاء الفاحش وتقلص الحريات وتمركز الأموال في يد فئة قليلة من الأوليغاركيين – الروس الجدد (معظمهم في السابق إما من المافيات وخريجي السجون أو من رجال الأمن والشرطة). ويذكرنا هذا الموقف بموقف النظام السوري البعثي الأسدي الذي استغل الشعارات الوطنية والقومية البراقة حول المقاومة والممانعة ومعاداة الغرب واسرائيل لكي يبرروا سياساتهم المعادية للشعب ويحولوا الأنظار خارجاً عن معاناة الناس وفقدانهم لأبسط أنواع الحريات.
ولا يخفى بأن كثيراً من الشباب المسلم في روسيا يتابع أحداث الربيع العربي ويظهر تعاطفاً مع الشعوب العربية والإسلامية ضد الأنظمة الشمولية. وفي أحد المؤتمرات المخصصة لمناقشة موقف مسلمي روسيا من السياسة الخارجية والأمنية الروسية، أعرب محللون سياسيون عن وجود احتقان لدى الشباب المسلم وخاصة في منطقة القوقاز وعدم ارتياحهم للسياسة الخارجية الروسية التي تؤيد الأنظمة الديكتاتورية.
روسيا والثورة السورية:
شهدت العلاقات الروسية السورية مرحلة ركود في فترة التتسعينيات واستمرت هكذا حتى 2005 ، عندما شطبت 80 % من هذه الديون البالغة عشرة مليارات ونصف مليار يورو. وتشكّل الآن التبادلات التجارية بين سوريا وروسيا 3 % من التجارة الخارجية السورية وبلغ حجم التبادل التجاري قبل الثورة أقل من مليار دولار. تؤكد هذه الحقائق بأن التعاون الروسي السوري كان ضعيفاً ومحدوداً قبل الثورة ويثبت ذلك أيضا قلة زيارات كبار المسؤولين من البلدين.
وقد اعرب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في بداية الثورة في مصر بأن روسيا لا ترحب بهذه الأحداث ويقصد الثورات العربية. وبالطبع فإن الروس يقولون أنهم جربوا الثورات وذاقوا الأمرين من ورائها في بداية القرن الماضي وفي تسعينياته، وكانت النتيجة هي الفوضى وانعدام الأمن وتدهور الحياة المعيشية وبروز مخاطر أخرى مثل تهديد وحدة البلاد.
ولكن لماذا حدث تحول جذري في الموقف الروسي حيال الوضع في سوريا؟
لتفسير ذلك نقول باختصار شديد: التدخل المباشر الأمريكي الغربي في عدة دول وضرب المصالح الروسية بسبب تقسيم يوغوسلافيا التي تضم نسبة كبيرة من الصرب السلافيين (الارثوذكس) وكذلك دخول أفغانستان وظهور حركة طالبان السنية المتشددة وقبلها تأسيس منظمة القاعدة الإرهابية واحتلال العراق وإخراج الشركات الروسية منه وأخيراً استخدام الغرب لقرار مجلس الأمن حول ليبيا، الذي امتنعت روسيا عن التصويت عليه، في اسقاط نظام القذافي وخسارة مليارات الدولارات نتيجة فقدان الشركات الروسية لعقود اقتصادية مهمة.
بعد تلك المحطات المؤلمة في سياسة روسيا الخارجية بدأت الانتفاضة الشعبية في سوريا في مارس/آذار 2011 فقررت روسيا بشكل قطعي الدفاع عن نظام الأسد لأن حساباتها الجيو– استراتيجية، تقول بأن إسقاط نظام الأسد يعتبر مقدّمة لإسقاط النظام الإيراني ويشكّل ذلك خسارة استراتيجية كبرى لروسيا.
ووفقا لرأي الرئيس بوتين – وهو الرأي الذي يؤكده كثيرا في لقاءاته مع نظرائه الأميركيين والأوروبيين — سوريا هي المعركة الأخيرة في صراع عالمي وممتد لعدة عقود بين الدول العلمانية والإسلامية السنية بدأت أولاً في أفغانستان مع طالبان ثم انتقلت إلى الشيشان ومزقت عددا من الدول العربية إرباً.
وقد اتخذت روسيا قرارها الاستراتيجي بالدفاع عن النظام السوري معتبرة إياه حلقة مهمة في حلفها مع الهلال الشيعي الذي يضم إيران ولي الفقيه ونظام الأسد وحزب الله وحكومة المالكي الطائفية. واعتبر الروس بأن معركة دمشق هي معركة موسكو لأن انتصار الثورة في سوريا يعني برأيهم وصول الإسلاميين المتشددين إلى السلطة وسيكون لذلك انعكاسات إقليمية ودولية خطيرة . فمن جهة سيأتي دور النظام الشمولي الأوتوقراطي في إيران، عداك عن احتمال انهيار حكم الشيعة في العراق. وسيتبع ذلك انتقال المد الإسلامي إلى دول آسيا الوسطى والقوقاز التي تعتبر قنبلة موقوتة. ومن يتابع الأحداث اليومية في روسيا يرى أن المتشددين الإسلاميين من “حزب التحرير الإسلامي” وغيره مستمرين في صراعهم اليومي مع السلطات في جمهورية داغستان ومناطق اسلامية أخرى في روسيا وحتى في موسكو أحياناً.
ويتساءل بعض المراقبين لماذا يستمر الروس بدعم الأسد؟ والجواب برأيهم هو: إن الروس شديدو الاهتمام ببقاء الأسد، ليس حباً لشخصه أو لعائلته وإنما لكونه – حسب الرؤية الروسية- آخر حاكم علماني في العالم العربي لا يعتبر حليفا للادارة الامريكية، أو مؤيدا للحركات الاسلامية المتطرفة التي تهدد السيطرة الروسية على مناطقها الشرقية. والأسد هو آخر مركز واضح للتأثير الروسي في الشرق الاوسط، ورغم انه انخرط في المحور الإيراني الشيعي في العقد الأخير، جعلته الحرب الدائرة أكثر خضوعاً لرحمة موسكو. إن الأسطول الروسي يستعمل ميناء طرطوس السوري باتفاق إيجار بعيد الأمد وهو اليوم موطئ القدم العسكري لروسيا في البحر المتوسط. ولو سقط النظام في دمشق فان طرطوس يتوقع أن تصمد فترة أخرى بسبب وجودها في قلب الاقليم العلوي. إن لروسيا والأسد مصلحة مشتركة في حماية الشريط الساحلي، كما يشهد على ذلك الإمداد بصواريخ “ياخونت” المضادة للسفن.
ولا يخفى على أحد الدعم الكبير الذي قدمته روسيا للنظام السوري سياسياً (في جميع النشاطات مع دول العالم) ودبلوماسياً في المحافل الدولية (3 مرات استخدمت الفيتو) واعلامياً (كرست وسائل الإعلام الروسية الناطقة بالروسية والعربية لخدمة النظام السوري وتشويه صورة المعارضة السورية وتصوير الأحداث على أنها صراع بين نظام علماني شرعي وبين جماعات إسلامية إرهابية (سنية) مع الاعتراف بوجود بعض المجموعات المعتدلة ولكنها تابعة للقوى الخارجية) وعسكرياً (زيادة الصادرات العسكرية من الأسلحة المتطورة ومن الذخيرة والمعدات العسكرية) واقتصادياً (شراء النفط). وقد وصلتنا تسريبات عن نقل عشرات المليارات من أموال عائلة الأسد والحاشية المحيطة به إلى روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وتأسست شركات عديدة في تلك الدول تقوم باستثمار تلك الأموال (أقام محمد مخلوف خال بشار الأسد عدة اشهر في فندق بموسكو وأشرف على هذه العمليات المالية بنفسه وكذلك قام بعقد صفقات عسكرية واقتصادية).
نقاط أخرى حول الموقف الروسي من الوضع في سوريا:
1- انطلقت القيادة الروسية من رؤية خاطئة بأن مصلحتها مرتبطة ببقاء النظام السوري لأنه علماني ومعادي لأمريكا وضد الإسلاميين المتطرفين. وابتعدت روسيا منذ اليوم الأول عن انتفاضة الشعب السوري واعتبرتها مؤامرة غربية خليجية تهدف إلى قلب نظام حكم الأسد الشرعي (وهذا يخالف القانون الدولي) وتسمح بقدوم الإسلاميين المتطرفين إلى الحكم وبالتالي فإن روسيا ستخرج من سوريا – آخر معاقلها في الشرق الأوسط. والحقيقة أن نظام الأسد ديكتاتوري فاسد يضطهد شعبه وهو نظام طائفي.
2- هناك جالية سورية كبيرة في روسيا تعد بالآلاف وهناك عشرات الآلاف من خريجي الجامعات السوفيتية والروسية ومعظمهم متزوجين من نساء روسيات ولديهم أطفال ولديهم أحفاد وهم يحبون روسيا كبلد وشعب وتاريخ وثقافة وللأسف الشديد فإن القيادة الروسية لم توليهم اي اهتمام ولم تستفيد من رؤيتهم للوضع كونهم جسر تواصل بين البلدين واقتصرت الاتصالات على بعض الخريجين الفاسدين مثل قدري جميل وبعض الموالين للنظام من بعثيين وعلويين. وكنا نقول للمسؤولين الروس في لقاءاتنا، نحن مواطنو روسيا – وطننا الثاني- درسنا هنا وتخرجنا وحصلنا على شهادات علمية محترمة ولدينا زوجات روسيات وأطفال وأحفاد ونتمنى أن تكون علاقات سورية بروسيا جيدة في المستقبل، ولكننا نحب سوريا – وطننا الأم- ونريد تغييراَ ديمقراطياً ولا يمكن تحقيق ذلك بوجود عائلة الأسد القمعية الفاسدة. وقلنا لهم ساعدونا في التخلص من الأسد وستجدون كل المعارضة السورية والثورة السورية والشعب السوري إلى جانبكم. كما أن القيادة الروسية لم تستثمر مشاعر المودة والصداقة التاريخية بين شعبنا السوري والشعوب العربية تجاه شعوب روسيا . ولا ننسى أن تلك المشاعر العربية والإسلامية الودية تجاه روسيا اقترنت تاريخياً بموقف سلبي تجاه سياسة أمريكا والغرب واسرائيل في المنطقة. ولكن الذي حدث أن الشعوب انقلبت على روسيا واصبحت تعاديها ووصل الأمر إلى حرق العلم الروسي في المظاهرات الشعبية في سوريا وغيرها.
3- لا يوجد تبرير منطقي لتخوف روسيا من وصول الإسلاميين إلى الحكم في سوريا . بالرغم من أن شعبنا بأغلبيته من المسلمين والسنة تحددياً إلا أن شعبنا عاش بتآخي ووحدة اجتماعية عبر القرون ولم يعرف التمييز والتفرقة على أساس ديني وطائفي وقومي إلا في عهد الأسد الأب والأبن الذي لعب بهذه الأوراق بكل خبث. والإسلاميين أخرجوا بالعنف من الحياة السياسية لعشرات السنين ولا يستطيعون قيادة الحراك السياسي وانما سيكون لهم دور محدود. أما الشعب السوري فهو معروف باعتداله الديني وتسامحه في التعايش ويكفي أن نذكر فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي حيث كان الزعيم الوطني فارس الخوري على رأس الحكومة والبرلمان وحتى وزيراً للأوقاف الإسلامية وهو مسيحي. وعاشت سورية فترة ديمقراطية رائعة في الفترة 1954-1958. وكان أول رئيس لسوريا بعد الاستقلال كردياً. فلماذا تضخيم درو الإسلاميين واظهارهم بأنهم متطرفون وخطر على مستقبل سوريا والأقليات.
4- ومن أخطاء روسيا والمعارضة الوطنية الديمقراطية السورية هو عدم ايجادهم لغة مشتركة. ويبدو أن التفسير لذلك مرتبط بطبيعة النظام الروسي وأولوياته من جهة وبتكوين المعارضة “الخارجية” وارتباطها القوي بالدول الغربية والخليجية من جهة أخرى.
5- يؤخذ على روسيا التي كانت تتحدث عن مخاطر ظهور المتطرفين الإسلاميين وتهول من خطر التدخل العسكري الخارجي ومن العنف، لأن ذلك كله حدث لاحقاً وتجسد بصورة مرعبة في وجود أكثر من 13 مليون من المتضررين منهم شهداء ومعتقلين ومفقودين وجرحى ومشردين ولاجئين، عداك عن تدمير البنية التحتية بصواريخ وطائرات النظام وحتى استخدامه للسلاح الكيميائي.
والسؤال المهم هنا: لماذا دافع الروس عن النظام الأسدي في المحافل الدولية ومنعوا إدانته في مجلس الأمن علماً أن الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية أعضائها أدانت جرائم الاسد وأصيبت روسيا بعزلة دولية؟ ولماذا سكت الروس كل هذه الفترة ولم يتدخلوا لانقاذ الشعب السوري من القتل والدمار في السنة الأولى عندما كانت المظاهرات سلمية تماماً بينما كان النظام يطلق الرصاص على المتظاهرين الشباب ويوجه شبيحته للاعتداء عليهم بالضرب والقتل. ولو أن روسيا تدخلت وطرحت حلاً سياسياً مقبولاً لاقتنعت المعارضة وحاورت النظام على تغيير طبيعته السياسية. فكلنا يعرف أن المعارضة قبل الثورة كانت تطالب بتغيير سلمي تدريجي ولكن النظام رفض مطالبها وزج العشرات من قادة المعارضة ومن الشخصيات الوطنية والديمقراطية في السجون بدلاً من أن يحاروهم.
وكما يقول كاتب سياسي: اليوم تتخذ روسيا موقفا غير مفهوم، فهي لا ترى من الدولة السورية غير النظام، وتتجاهل الشعب ومطالبه بالحرية، وتتبنى وجهة نظر السلطة القائمة حول الطابع الأصولي والمذهبي للثورة والمعارضة، مع أن ديبلوماسييها في دمشق يعلمون الحقيقة، ويعرفون أن المعارضة السورية لم تكن إلا ديمقراطية بين سنوات 1982 و2011 ، وأن الأصولية لم تظهر إلا في فترة لاحقة ومتأخرة من الحراك الشعبي ضد النظام، وأنها ظهرت بجهود إقليمية وعربية وغربية أسهم النظام فيها بقسط وافر.
6- تتحدث روسيا عن التطرف الديني السني وخطره على الشيعة والأقليات في سوريا والمنطقة. وماذا عن التطرف الشيعي الإيراني والمالكي وحزب الله الذين يقاتلون ويمارسون أعمالاً وحشية دفاعاً عن نظام الأسد تحت رايات طائفية بحتة. وماذا عن قتل النظام الاسدي وحلفائه للأغلبية السورية وهم من السنة وإبادتهم وتدمير بيوتهم وتهجيرهم؟ أليست أفعالاً طائفية همجية تستحق الشجب والإدانة.
تعامل المعارضة السياسية وقوى الثورة مع روسيا
كانت الأجواء مناسبة جداً لتعاون فعال بين المعارضة وروسيا في بداية الاحتجاجات، حيث التعاطف والود قائم بين شعوب روسيا وسوريا. وعندما جاءت وفود المعارضة السورية في السنة الأولى إلى موسكو أكدت جميعها على اعجابها بالثقافة والأدب الروسي العريق واحترامها لمصالح روسيا وبأنها – أي المعارضة- راغبة في استمرار علاقات الصداقة بين شعبي البلدين. ودعت المعارضة القيادة الروسية لدعم مطالب الشعب السوري المشروعة في الحرية والديمقراطية والعدالة.
ونعرف جميعاً كيف كانت المعارضة السورية محرومة من حرية العمل السياسي على مدى خمسة عقود ونعرف أيضاً كيف تعامل الأسد الابن مع قيادة إعلان دمشق الوطنيين الديمقراطيين. وبعد بدء الثورة شهدت الساحة السياسية السورية في الداخل والخارج حركة نشيطة وبدأت تتبلور تيارات وتجمعات معارضة وثورية. ولكن المعارضة اصطدمت بعقبات موضوعية وذاتية أضرت كثيراً بمستقبل نشاطها لدرجة انها فشلت في القيام بمسؤولياتها الوطنية أمام الثورة والشعب.
ومن واجبنا الاعتراف كمعارضين، بأن المعارضة السياسية لم تضع خطة واضحة للعمل مع روسيا ولم تقم بدراسة الموقف الروسي وحيثياته، ولم تبحث جدياً عن طرق عملية لاختراق الجدار الروسي الأصم. علماً أننا قمنا كمعارضين سوريين مقيمين في روسيا بتوجيه الأنظار ودعوة المجلس الوطني والإئتلاف للاهتمام ودراسة العلاقة مع روسيا بواسطة خبراء وليس بشكل ارتجالي. وايضاً لإجراء مشاورات غير معلنة مع الروس، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ومن أكبر أخطاء المعارضة والتي أثرت سلباً على الموقف الروسي ونفرت روسيا من المعارضة السورية، هو التدخل الكبير والواضح من قبل الدول الغربية والعربية في شؤون المعارضة والثورة بحجة أنها دول صديقة للشعب السوري. وقد اثبتت الأيام أن معظم تلك الدول خدعتنا وساهمت بشكل ما في اطالة عمر النظام وتسببت في إراقة مزيد من دماء السوريين لعدم تدخلها الفعال في مساعدة الشعب السوري. فخسر السوريون دعم الروس وخسروا دعم الغرب الفعال فأصبحت النتيجة أن العالم كله تقريباً وقف ضد الثورة السورية.
وللأسف الشديد، فإننا فهمنا أن الروس يعتبرون المعارضة “الخارجية” تابعة للغرب والخليج وبالتالي فهي معادية لروسيا وبنفس الوقت تعاملت بثقة وتفاهم مع معارضة “الداخل” مع هيئة التنسيق وغيرها من أشباه المعارضة.
كلمة عن مؤتمر جنيف-2
لطالما دعت المعارضة السورية قبل الثورة إلى الاصلاحات السلمية والتدريجية ولم تفكر يوماً باستخدام السلاح لولا همجية النظام ووحشيته وفرضه على الثوار حمل السلاح دفاعاً عن النفس أولاً وتطور إلى هدف اسقاط النظام ثانياً.
ولا يرفض عاقل في سوريا الحل السياسي والسلمي لوقف إراقة الدماء، بشرط أن يكون حلاً عادلاً يلبي تطلعات الشعب السوري الذي ضحى بأغلى ما عنده. ولكن الذي نراه هو عدم جدية النظام في الذهاب للحل السياسي ويتضح ذلك من خلال عدم اعتراف النظام حتى اليوم بالمعارضة واعتبار كل من يقاوم النظام هو ارهابي وبالتالي فعن أي حل سياسي يجري الحديث ومع من سيتم الحوار؟
بعد أن نجحت أمريكا وروسيا في فرض اتفاقية نزع السلاح الكيميائي السوري اعتبرت القوى الدولية أن مهمتها الرئيسية انتهت تقريباً لأنها حققت الأمن للدول الجوار وخاصة اسرائيل، علماً أن الشعب السوري انتفض ليس من أجل اتلاف السلاح الكيماوي وإنما من أجل الحرية والكرامة. ويبدو أن العالم غير مهتم لمآسي الشعب السوري وطموحاته المشروعة.
وتعتقد المعارضة الوطنية الديمقراطية بأن جنيف -1 لم يتحقق منه شيئاً ولم يعترف النظام به رسمياً ولا إيران أيضاً، فماذا سينتج عن جنيف-2 إلا اللهم إذا اتفقت الدول العظمى على إزاحة بشار الأسد وإجراء تغيير شكلي في النظام يحفظ مصالح روسيا وإيران والدول الأخرى مثل إسرائيل. خاصة وأن أمريكا وإيران وجدا لغة مشتركة وبدأ على ما يبدو عهد جديد في توزيع المهمات وتقاسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط بقيادة 5+1 +إيران.
لا يمكن حل المشكلة في سوريا ولا يمكن عقد مؤتمر ناجح في جنيف إلا إذا فهم المجتمع الدولي بأن الاسد وعصابته لن يرحلوا بدون ممارسة الضغط الدولي عليه إما عن طريق روسيا وإيران أو عن طريق مجلس الأمن. وبغير ذلك فإن البحث عن حل في جنيف كالبحث عن السراب في جنيف.
أي أن المصالح الجيواستراتيجية للقوى الدولية والاقليمية غلبت وتجسدت على حساب دم السوريين ومستقبل أطفالهم. وهنا نتذكر مقولة: السياسة قذرة وليس فيها أخلاق. ولكننا لم نفقد الأمل. وشعبنا ما زال صامدا ويقاوم وسينتصر. تلك هي إرادة الشعب ومنطق التاريخ.