“داعش”.. مأوى الضالين في القرن الحادي والعشرين
8 يوليو, 2015
مقالات, ملفات خاصة, منوعات
من هم أولئك المستعدون لأن يَقتلوا ويُقتلوا من أجل شخص سُمي الخليفة البغدادي، وفي سبيل أفكاره؟ انهم بشر بالإمكان تقسيمهم إلى بضع مجموعات تبعا للدوافع التي تحركهم.
هناك، قبل كل شيء، سكان محليون وجدوا أنفسهنم في مناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق، “داعش”. وبالنسبة لهؤلاء السكان، فـ “داعش”، بالدرجة الأولى، ليست منظمة إرهابية، بل هي تحديدا، دولة تقيم النظام محل الفوضى. وسبق أن رأينا سيناريوهات من هذا القبيل في أفغانستان إبان اشتداد قوة حركة “طالبان”، وكذلك في ألمانيا – ولو على نحو آخر- عشية وصول النازيين إلى السلطة.
المجموعة الثانية من أتباع “داعش”، تتألف من شباب جاؤوا إلى سورية من بلدان إسلامية أخرى، وبالدرجة الأولى، من البلدان العربية، حيث تحظى “الدولة الإسلامية” بمكانة معينة في الأحياء الشعبية والمناطق الفقيرة. وتونس وحدها قدمت لـ”داعش” حوالي 3500 مقاتل (وربما أكثر).
وقصص الشباب الذين التحقوا بصفوف هذا التنظيم تنناقلها الألسن هنا وهناك. وفي جميع هذه القصص تتكرر فكرة واحدة بعينها، مفادها أن ما يدفع الناس إلى سورية ليس السعي للقتل، ولا الغلو الديني، بل انعدام الحرية والأمل بالمستقبل في أوطانهم. هذه القصص مفعمة بمشاعر طاغية باستحالة السعادة في مجتمع يعتبر الثراء المادي مقياس النجاح الرئيس، بالرغم من أن الجميع يبقون في فقر مدقع. أما في “داعش”، فالبحبوحة المادية ليست الأمر الأهم، وهذا يعني أن هناك فرص المستقبل والسعادة.
المجموعة الثالثة من أتباع “داعش” هي الشباب المسلمون من أوساط المهاجرين في البلدان الغربية، فالإسلام في حياة المسلمين الوافدين إلى الغرب، أخذ يلعب دور أكثر أهمية مما كان يلعبه في أوطانهم، وراح يشكل أساس هوية جاليات المهاجرين وتلاحمها، لأنه يمنحها الدافع لتكوين “أمة موهومة” ما فوق قومية.
ما يحض المهاجرين إلى البحث في الإيديولوجيات الدينية عن توجهات قيمية، وأجوبة لما يواجهونه في حياتهم من مسائل، هو الإحباط الذي يعانونه، وخاصىة على خلفية تصاعد الراديكالية اليمينية في أوروبا، والنزاع الجلي بين قيم المجتمع التقليدية القريبة إليهم من جهة، وقيم الليبرالية الأوروبية من جهة أخرى.
وأخيرا، هناك المجموعة الرابعة، وقوامها أوروبيون اعتنقوا الإسلام، ويجدون في نشاط “داعش” منظومة صارمة من القيم، الأمر الذي لا يستطيعون اكتشافه في العالم المحيط بهم، شأنه في ذلك شأن المهاجرين المسلمين. وتجدر الإشارة إلى أن طابع هذه المنظومة غير الإنساني، ورفضها التوجه نحو الفرد، هما بالذات ما يتيح تجنب منظورات النسبية التي لا مناص منها في مجتمع ما بعد الحداثة.
ويمكن أن نضيف إلى هذه المجموعات الأربع مجموعتين على الأقل، أي الجهاديين المحترفين الذين يمضون حياتهم في التنقل من نقطة ساخنة إلى أخرى في العالم، وكذلك مختلف البشر غير الأسوياء نفسيا، المفتونين بفكرة العنف “المنقى”.
إذا أخذنا المجموعات الأربع الأولى، فثمة بضعة أمور تلفت الانتباه.
“الدولة الإسلامية”، بالنسبة للمجموعتين الأولى والثانية، بديلٌ عن الأنظمة المفلسة في الشرق الأوسط. وظهور هذه الدولة ليس مجرد نتيجة من نتائج الربيع العربي وأزمة الدول في المنطقة وتدمير منظومة سايكس- بيكو، بل هي تحديدا محاولة لطرح كيان آخر يقوم على أساس الفهم المتجدد للتجربة العربية – الإسلامية القروسطية، ورفض فكرة الدولة- الأمة، ونسيان الإرث الاستعماري.
وتبعا لذلك، فإن هذا الاتجاه في النضال ضد “داعش” يجب أن يقضي بتعزيز كيانات الدول في الشرق الأوسط، وأن يثبت العالم لفتيان الأحياء الفقيرة أن الدول التي ولدت في المنطقة في القرن العشرين، هي دول فعالة وتتمتع بالقدرة على الحياة.
العالم، من حيث المبدأ، موافق تماما على هذه الفكرة. ولكن المشكلة تكمن في أن أيا من المقاربات المعروفة، لم تُجدِ نفعا، وتحتاج إلى إعادة التفكير فيها. ونعني بذلك المقاربة السوفيتية- الروسية (والصينية الآن)، القائمة على دعم الدولة، والتي تختزل دائما بدعم الأنظمة؛ وكذلك المقاربة الأميركية- الأوروبية التي تركز أكثر على حفز تطور المجتمع المدني، وتؤدي إلى تعميق الاستقطاب الاجتماعي.
ولكننا نجد الأمر على نحو مختلف بالنسبة للمجموعتين الأخريين (المهاجرون المسلمون والأوروبيون الذين اعتنقوا الإسلام). هؤلاء الذاهبون إلى سورية والعراق من الغرب، يرون أن الأمر يتلخص، بالضبط، في جاذبية “داعش” الإيديولوجية. وفي هذا الشأن فإن مقاومة “داعش” تتطلب من المجتمع الغربي صوغ منطق حضاري جدي للتطور بدل النموذج المأزوم الذي تشكل في العصر الحديث.
غير أن تعزيز كيان الدول في المنطقة، والبحث عن منطق جديد للتطور، مسألة صعبة وتستغرق وقتا طويلا. وهذا كله، حقا، يتطلب اختراقا ما، وانتقال الشرق الأوسط والعالم الغربي إلى درجة جديدة من التطور. ولذا، لا حل حتى الآن لمعضلة “داعش”. وليس أمام العالم إلا مكافحة التجليات الملموسة لهذه الظاهرة، كالقسوة والإرهاب وتدفق سيول اللاجئين، لا النضال ضد جوهر الظاهرة ذاته.
فاسيلي كوزنتسوف، رئيس مركز الدراسات العربية والإسلامية في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العوم الروسية.