يعود الحديث مجدداً عن إمكانية تعرّض بغداد لخطر الاجتياح من تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، وإسقاطها على غرار المدن العراقية الـ11، التي يسيطر عليها حالياً، في شمال البلاد وغربها في الأنبار وصلاح الدين ونينوى والفلوجة، ليتمكن “التنظيم” من توسيع رقعته الجغرافية في البلاد، ليُصبح على مسافة 20 كيلومتراً فقط من بغداد.
دفع تقدّم “داعش” أوساط حكومية وسياسية وبرلمانية عراقية، إلى إطلاق تحذيرات من مغبّة سقوط العاصمة في يد “التنظيم”، وضرورة الدفع بآلاف المقاتلين إلى الأنبار لإشغاله، ومنع تحقيق هدفه، خصوصاً مع ظهور زعيم “داعش” مرتين، في أسبوع واحد، مردداً مرات عدة عبارتي “معركتنا المقبلة في بغداد وكربلاء”، و”لقاؤنا في بغداد وكربلاء”.
تبلغ مساحة بغداد نحو 4.555 كيلومتراً مربعاً، ما يعادل نحو 1.04 في المئة من المساحة الإجمالية للعراق. ويصل عدد سكانها 7.6 ملايين نسمة، لتكون ثاني أكثر مدينة عربية، بعد العاصمة المصرية، القاهرة، اكتظاظاً بالسكان. تحيط بالعاصمة مناطق مفتوحة واسعة من اتجاهاتها الأربعة، كمدينة أبو غريب من الغرب، ومدينتي المحمودية واليوسفية من الجنوب، ومدينتي التاجي والطارمية من الشمال، ومدينة الحسينية من الشرق. وتغلب على ضواحي بغداد الأربع، أو ما يُعرف بمناطق “حزام بغداد” طبيعة زراعية بحتة، بالإضافة إلى منشآت صناعية ونفطية وأخرى عسكرية.
عسكرياً، تظهر مواقع أو نقاط تواجد “داعش” حول بغداد بشكل واضح في الطارمية وأبو غريب، ويتواجد التنظيم في منطقة سبع البور، التي تبعد 18 كيلومتراً، شمال غرب بغداد. بالإضافة إلى منطقة الشط (25 كيلومتراً)، ومنطقة سيد عبدالله، التي تبعد 27 كيلومتراً عن مطار بغداد الدولي.
يفرض التنظيم سيطرته بشكل محكم على تلك المناطق، وأتبعها إدارياً بشكل مؤقت لما تُعرف بـ”ولاية الفلوجة”. كما يملك خلايا مسلحة في مناطق متقدمة وصولاً إلى أول أحياء العاصمة السكنية. وتربك تلك الخلايا قوات الجيش والمليشيات بين الحين والآخر، بهجمات انتحارية على مواقعهم وثكناتهم، بشكل دفع تلك القوات إلى إعلان حظر التجوال اليومي، من الساعة السابعة مساءً حتى السابعة من صباح كل يوم.
لا يمكن التعويل على تلك القوة المسلّحة لـ”داعش” في التقدّم أكثر، وعلى ما يبدو فإن مهمة التنظيم الثابتة أو المرسومة مسبقاً، تكمن في الحفاظ على موطئ قدم حول العاصمة، كما أن مقاتلي التنظيم المتواجدين قرب بغداد، لا يتجاوز عددهم الألف مقاتل في أفضل الأحوال، وهو رقم قليل جداً مقارنة بما يحتاجه دخول مدينة بحجم بغداد وتعقيداتها الجغرافية والديمغرافية. غير أن الآلاف من مقاتلي التنظيم، تحديداً غير العراقيين منهم، لم يتبقّ لديهم أي عمل أو مهمة، بعد إسقاطهم محافظة الأنبار، وتسليم شؤون المدن الجديدة إلى ما يُعرف بـ”ديواني الحسبة والأمن الداخلي” في التنظيم. بالتالي فقد بات أكثر من 7 آلاف مقاتل من “داعش” متفرّغين، ما دفع بمسؤولين عراقيين إلى إطلاق تحذيرات من هجوم وشيك على بغداد في الفترة القريبة.
في المقابل، فإن الحكومة العراقية تمتلك في بغداد فرقتين عسكريتين، هما الفرقة السادسة والفرقة السابعة عشرة، فضلاً عن فرقة من الشرطة الاتحادية، وثلاثة أفواج مدرّعة وفوجين للدبابات، ويبلغ عدد المقاتلين نحو 20 ألف مقاتل، بالإضافة إلى نحو ستة آلاف مقاتل من مليشيات “الحشد الشعبي”.
واتهم برلمانيون معارضون لرئيس الحكومة، حيدر العبادي، بـ”سوء خطة أمن بغداد، وقلّة عدد القوات المحيطة بها”. ما جعل الأخير يصدر قراراً بزيادة عديد القوات التي تتحصن خلف خندق ترابي، بطول 34 كيلومتراً، يحيط بالعاصمة من الجنوب والشمال والغرب، فضلاً عن آلاف العوارض الإسمنتية، ونحو 200 محطة للمراقبة والرصد.
ما يزيد من احتمال مهاجمة “داعش” بغداد، هو سيطرته على الأنبار، واتساع رقعة التنظيم في الفلوجة وتقدمه لمناطق قريبة منها. غير أن لمعركة بغداد، إن وقعت، سيناريواً آخر، يختلف عن سيناريو اقتحام الموصل والفلوجة وغيرهما من كبرى مدن العراق.
وقد اتبع التنظيم في تلك الاقتحامات، سيناريوهات محددة، عبر استخدام قوات تأتي من الخارج لتهاجم الجيش ثم تدخل المدينة، معتبراً من وجهة نظره أن المناطق السنيّة فيها لن تواجهه. غير أن الوضع مختلف في بغداد، لمساحتها الكبيرة ولعديد القوات الموجودة فيها، ولتعدد هويتها الطائفية، وهو ما يرجح بعدم السماح لـ”داعش” بمهاجمتها مرة واحدة.
وإذا فكر التنظيم بذلك، فسيحتاج إلى استخدام ما لا يقلّ عن 20 ألف مقاتل، مع تنفيذ عشرات العمليات الانتحارية، التي لن تُسعفه سوى في دخول العاصمة، للانتقال بعدها إلى مرحلة “حرب الشوارع” وقضم مناطق العاصمة، وتحويلها إلى قطاعات. أمر فعل في الرمادي، عاصمة الأنبار، التي أسقطها حيّاً تلو الآخر ومنطقة بعد الأخرى، بعد استنزاف خصومه، لينتهي الأمر بدخول القصر الرئاسي في المدينة، الذي يمثل مقرّ قيادة المحافظة. ويعني ذلك أن التنظيم قد يهاجم العاصمة تدريجياً، ضمن خطته التي استخدمها مسبقاً، والمعروفة باسم “بقعة زيت”. وتُعدّ السيطرة الكاملة على أبو غريب والطارمية شرطاً وحيداً لاكتمال أركان، أو عناصر، حلول ساعة الصفر للهجوم على بغداد.
وضع تفهمه السلطات العراقية جيداً، لذلك فهي تسعى إلى تعزيز تواجدها في تلك المنطقة، غير أنها ترتكب الخطأ نفسه بالاعتماد على الفرقتين السادسة والسابعة عشرة، اللتين سجلتا ست حالات انسحاب وهروب من أمام مقاتلي التنظيم في مواجهات سابقة في العام الحالي. ويسعى “داعش” لاستثمار حلول شهر رمضان (منتصف شهر يونيو/حزيران المقبل)، من أجل تحقيق تقدّم جديد على الأرض، خصوصاً أنه اعتاد زيادة وتيرة العمليات الانتحارية في هذه الفترة.
ويرى مراقبون، أنه في حال اقتحم التنظيم بغداد، فقد ينجح في السيطرة على الأجزاء ذات الغالبية السنيّة منها، كأحياء العامرية والغزالية والبكرية، وسيدفع بخلايا مسلّحة إلى باقي الأحياء القريبة من جهة الكرخ، لكنه لن يتمكن من العبور إلى الجانب الثاني، نحو منطقة الرصافة، التي تُعدّ معقلاً مهماً لمليشيات “الحشد الشعبي”، وللتواجد الديمغرافي الشيعي فيها، كما يتواجد فيها العنصر الإيراني سياسياً وعسكرياً بشكل كبير. ووفقاً لما سبق، فإن سقوط العاصمة بشكل كلّي يُعتبر مستحيلاً في الوقت الحالي على الأقلّ، أو في الأشهر الثلاثة المقبلة، في ظلّ توافر إرادة دولية تحرص على منع ذلك، إلا أن اقتحام أجزاء من بغداد وارد جداً، وتحديداً من الأحياء الغربية، من جانب الكرخ، كالعامرية والغزالية والمنطقة الخضراء والجامعة والمنصور والجهاد والسيدية.
لكن حتى لو تم اقتحام تلك المناطق والسيطرة عليها من التنظيم، فإنها معرّضة لفشل استمرار السيطرة، بسبب تواجد سرب كامل من مروحيات “الأباتشي” الأميركية، الرابضة على المدرج العسكري الثالث في مطار بغداد منذ أشهر، ضمن مهمة حماية السفارتين الأميركية والبريطانية، ومنع اقتحام “داعش” للعاصمة.
وبدا ذلك واضحاً في ثلاث مهمات لسرب الطائرات منذ وصوله بغداد، حيث نجح في إحباط هجوم مقاتلي “داعش” على الجانب الغربي من المطار، كما أُحبط هجوماً آخر استهدف منصة صواريخ موجّهة نحو المنطقة الخضراء. بالإضافة إلى أن القوات الإيرانية تتواجد داخل قاعدة “علي أكبر” الإيرانية، على الحدود بين البلدين، من جهة ديالى، ولا تبعد عن بغداد أكثر من 300 كيلومتر، ولن تسمح بالتفرّج على ضياع بغداد من أيديها مرة أخرى، بعد أن استقبلتها على طبق من ذهب من “عدوّها الأكبر”: الولايات المتحدة.
ولا يُمكن أن يكون كل هذا خافٍ على زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، ومستشاريه الـ19 في المجلس العسكري لـ”الدولة الإسلامية”. وتفيد الخريطة العسكرية في العراق، بحسب كثيرين، بأن البغدادي مخطئ في إعلانه فتح معركة بغداد وكربلاء، على اعتبار أنه من الأسهل له خوض معارك في ديالى أو سامراء، أو التفكير حتى باستعادة تكريت وجرف الصخر في بابل، التي خسرها قبل مدة وانسحب مقاتلوه منها. لكن “داعش” تمكن من استنزاف القوات العراقية والمليشيات بشكل واضح وكبير، في الفترة الأخيرة، حتى بلغت الخسائر البشرية للقوات العراقية النظامية والمليشيات في الأشهر الثلاثة الأخيرة 11438 عنصراً بين قتيل وجريح، وفقاً لمصادر عراقية بوزارتي الصحة والداخلية في بغداد.
في المقابل، سقط نحو 2300 قتيل وجريح لـ”داعش”، معظمهم في الأنبار وصلاح الدين، كما استولى على معدات عسكرية وأسلحة تُقدّر بنحو مليار دولار، وتمكن من الاستيلاء على قاعدة اللواء الثامن بالتأميم، غرب الأنبار، ومقرّ قيادة عمليات الأنبار وسط الرمادي، ومقرّ الفوج الرابع في الثرثار، جنوبي سامراء، ومخازن الفرقة الرابعة بالجيش العراقي في بيجي، ووحدة التموين والنقل في الصبيحات، غربي بغداد.
واحتوت كل تلك المقرات والمواقع العسكرية على أسلحة ثقيلة ومتوسطة، بينها دبابات “أبرامز” الأميركية والروسية، من طراز “تي 72” ومدافع طويلة ومتوسطة المدى، كانت الولايات المتحدة جهّزت بها العراق حديثاً.
ويعكس ذلك سبب عقد الكونغرس جلسة استماع لقادة الجيش الأميركي في واشنطن في 19 أيار (مايو) الحالي لمعرفة أسباب سقوط الرمادي وفرار الجيش من الأنبار.
وفي السياق، تزداد وفرة المقاتلين لدى البغدادي، وتستمر عملية تجنيد العناصر الجديدة، وسط تدفّق مقاتلي الجناح السوري من “داعش” إلى العراق، بأمر مباشر من البغدادي، بغية إفقاد العراقيين عامل المبادرة بالهجوم. ويتزامن ذلك مع استنزاف القوات العراقية وعودة ظاهرة الهروب في صفوفها، والترهّل والخلافات بين مليشيات “الحشد الشعبي”، وانخفاض التجنيد إلى أدنى المستويات بعد خفض مرتبات الحشد من 800 دولار إلى 423 دولاراً للعنصر الواحد، وزيادة التذمّر الشعبي في جنوب العراق من كثرة القتلى في صفوف أبناءهم. كما بدأ اليأس يعمّ سكان الجنوب بفعل عدم حسم المعركة مع “داعش”، بعد مرور عام كامل عليها، من دون أي تقدم، في ظلّ تفاقم أزمة الحكومة الاقتصادية.
ودفع كل هذا بالبغدادي إلى إعادة ترشيح بغداد كهدف معلن له، من أجل اقتحامها وقلب نظام الحكم فيها، على اعتبار أن صرف الجهد والوقت على تكريت أو ديالى، لم يعد نافعاً بعد توفّر الأرض التي سينطلق منها (الأنبار)، وأن سيطرته على بغداد، ستكون بمثابة سيطرة على العراق برمته.
يتضح أن البغدادي يمتلك مقومات اقتحام العاصمة، لكنه لن يمتلك مقومات السيطرة عليها بشكل كامل، أي أن السيطرة على جزء منها وارد جداً، لكن من الاستحالة السيطرة عليها بالكامل، إلا إذا اتخذت الإدارتين الأميركية والإيرانية موقف المتفرج على طلائع مسلّحي “داعش”، وهي تقتحم المنطقة الخضراء. بالتالي، فإن سقوط بغداد من عدمه، لن يكون بإرادة الحكومة أو المليشيات، بل بإرادة دولية إقليمية، وعدا ذلك، فإن الأمر لا يعدو حديثاً للاستهلاك الإعلامي الخارجي، أو جزءاً من الحرب النفسية التي تفوّق بها التنظيم على خصومه منذ سنوات.