أمين بن مسعود/ ما كان لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تبلغ مرحلة الاعتراف الرسمي بإسرائيل في العام 1993 إلا بعد مسلسل طويل من الاستدارة السياسية والخطابية والفكرية، بدأت ببرنامج النقاط العشر في 1974، ومرت بتغيير ميثاق المنظمة في مؤتمر الجزائر سنة 1988.
تتغيّر المبادئ بتغيّر الأفكار وباستبدال موازين القوى وبالتكيّف مع الضغوط المحلية والإقليمية والدولية، ولكن أيضا بالنفس القصير في مسيرة النضال وباستباق غنائم الدولة بإكراهات الثورة، والأهم من كل ما سبق بالرهان والارتهان الخاطئ لدى الفاعلين الإقليميين.
لم تتعلم حركة حماس الدرس جيدا بأنّ السعي إلى رفع ثقلين كبيرين على غرار “المقاومة المسلحة لإسرائيل” و“الانخراط في منظومة الاعتراف والإقرار الدولي”، سيفضي في المحصلة إلى مأساة ملهاة قوامها “مقاومة مقاومة إسرائيل”، وتجاهل المجتمع الدولي لأي كيان فلسطيني طالما أنه لا يتماهى ولا ينصهر مع التمثل الإسرائيلي لمستقبل الشرق الأوسط.
اليوم، تتحدّث حماس بلسان شبيه بلسان منظمة التحرير الفلسطينية في 1974، حيث تعتبر في تصريح لقائدها أحمد يوسف أنّ الحركة تقبل بدولة فلسطينية على حدود 1967 دون التنازل عن بقية الأراضي الفلسطينية، وأنّ الحركة تدعم المقاومة “الشعبية السلمية” دون تفريط في المقاومة المسلحة.
قد تذهب القراءة الأولية المتسرعة إلى اعتبار أنّ حماس تلعب ورقة تعدّد الخيارات والبدائل في مقارعتها للاحتلال الصهيوني، ولكن التمعّن في حيثيات المنطق والمنطوق يحيل إلى تعدّد في الفرضيات، والأهم من ذلك إلى اعتبار فرضية أكثر رجحانا من فرضية أخرى.
حماس تشير من طرف خفي إلى أنها مع المقاومة بشكل عام، ولكنها مع الشعبية السلمية أكثر من المسلحة، أنها مع إقامة دولة فلسطينية على طول الجغرافيا المغتصبة من النهر إلى البحر ولكنّها مع الخيار السانح الكامن في الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وأنها مع المقاومة لتحرير كل شبر من فلسطين لكنها تفضل المقاومة السلمية في أرض 1967، لتحرير أرض 1967.
بهذه الطريقة القائمة على التفاضل بين البدائل، تبدأ الحركات في استبدال مواقفها ومواقعها، وكما تغيّر ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية بعد تعديل بدأ بطرح البديل الفاضل دون استبعاد للبديل المفضول، قبل أن تنتقل قيادة المنظمة برمتها من قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 إلى إلغاء فصل تدمير إسرائيل، وقبل أن يصبح التفاوض مع إسرائيل واعتبارها دولة سيدة وآمنة خيارا استراتيجيا ووحيدا للمنظمة.
وفيما لا تزال القيادة الفلسطينية تعتبر إسرائيل دولة متكاملة الأركان ومترابطة المكان، لا تزال فلسطين في أعين إسرائيل وهكذا ستظل مجرّد “كيان” لا يرتقي إلى الدولة ولا إلى السلطة الذاتية الحاكمة في الضفة وغزة.
تبرق حماس برسائل “التغيير والتحوير الناعم” إلى القاهرة، عبر التأكيد على أنها حركة إسلامية موغلة في الهوى والهوية الفلسطينية، ولا علاقة تنظيمية ولا هيكلية بالتيارات الإسلامية الأخرى وعلى رأسها تنظيم الإخوان المسلمين.
ترسل حماس إلى واشنطن برسائل الحمائم مشيرة إلى أنها متمايزة بشكل استراتيجي وجوهري عن التنظيمات الإرهابية الأخرى وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة الإرهابيان، ولئن كان من قربان تقدّمه للسدنة الجدد للبيت الأبيض فهو تركيزها على المقاومة السلمية التي لا تقلق إسرائيل ولا يعارضها العرب.
كما تحوّل ميثاقها الجديد إلى صندوق بريد للطرف المقابل في حركة فتح ولدى فريق الرئيس محمود عباس بصفة خاصة، بأنّ الوقت الاستراتيجي حان للتقاطع بين فتح وحماس لا من أجل صيغة توافقية تصالحية على أساس إصلاح هيكلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والشروع في انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية في فلسطين، وأنها على أساس التقارب التناقضي ضد أعداء الخارج والداخل، الحقيقيين والمفترضين أيضا.
تدرك حماس أن تغييرها من محور إلى آخر خلال الربيع العربي ضيّق عليها كثيرا من هامش المناورة والمراوغة، كما تعرف جيدا أنّ العنوان الأبرز لعهدة دونالد ترامب القادمة هو محاربة الإرهاب بما يعنيه من حتمية التمايز مع التيارات الإسلامية والسلفية نصف الإرهابية نصف المدنية.
ويبدو أن الاقتراب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان علم الحركة طرائق شتى من الاستدارة وطرقا عديدة لكيفيات وآليات التدوير الناعم في المواقف والمواقع.