هادي جلو مرعي / أبو كنعان يبدأ حكايته مع مدينته الفاو بقصة قرأنية تقول: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا.. ليصف حال الفاو الراسية على ضفاف الخليج منذ الأزل, والساكنة بإنتظار من يتحرك لإنقاذها من هلاك آت .
الفاو ,والمدينة, والمزرعة الغانية بالحناء, وبستان النخيل الوارف, ومنتجع السائحين, والموج الهادئ عند المغيب, والخصب, والنماء, والسفن الصغيرة المكتظة بأصناف السمك, والرزق الحلال عند نهاية كل نهار .
تتحول رويدا الى ذكرى مطبوعة كالحناء على أيد أنهكها جور السنين. نخليها يقتله الظمأ ,وحين يعجز ينوب عنه الملح, فلا ظل يحتمي به الناس كعادتهم أيام الصيف, والأرض التي لم يعد يفكر فيها السياح لم يعد أهلها يفكرون. حتى صاحب الدكان لا يرى من هيبة لمتبضع عاطل عن العمل لا يسدد ما بذمته ..
أبو كنعان الذي عرفته في العام 2004 يحمل قنينة عطر صغيرة, ويتأنق بالغترة واليشماغ, ويتوجه الى الكاظمية المقدسة قادما من الفاو البعيدة يروي الحكاية المرة, وكلما إتصل بي عرفت صوته المنقوع بالدموع رغم إنه أقل أهل الفاو عناءا, فقد عاد الى وظيفته بعد أن زارني صدفة في مكتبي, وشاءت الأقدار أن أساعد في عودته حارسا في مدرسة تفتقد الى ما يثبت إنها كذلك.
مضت سبع سنين عجاف على الفاو, وهي أشد وطأة من سني يوسف في مصر ,وعلى الأقل كان المصريون يأكلون من عبقرية النبي, ويشربون من النيل, ويكنزون الغلال في مخازن صنعها لهم العزيز بينما أهل الفاولايجدون الماء بعد أن جفت الأنهار, وغادرت العذوبة أرضهم ليحتلها السبخ والملح .الصيادون صاروا مثل مرضى الجذام. فإذا توغلوا في الخليج بحثا عن السمك الذي يوفر لهم المال والطعام إعترضتهم الدوريات الكويتية أو الإيرانية. فإما أن يعتقلوا أو يجرحوا ,أو يتم إعتقالهم وإهانتهم .
كانت الفاو في نهاية ثمانينيات القرن الفائت مسرحا لمعارك طاحنة بين الجيشين العراقي والإيراني, وكانت أرضها تمتص الدماء وزيت الأجساد التي تصهرها الشمس المحرقة بعد معركة تمتد لأيام وليال يكون من ضحاياها عشرات آلاف المتحاربين .. لم تنجح حملة التأهيل التي قام بها النظام السابق بعد إنتهاء الحرب في منع المأساة ,وربما كانت سببا في تأجيلها الى موعد يحدد لاحقا ..
المدينة الآن بحاجة الى حملة وطنية لإنقاذها من الهلكة, وإبقاء الحياة فيها بمستويات قابلة للدوام ,فهي تعاني من شحة مياه الشرب والمياه الصالحة للزراعة, ولا تتوفر فيها إمدادات الطاقة الكهربائية بما يلبي الحاجة, وليس من مشروعات للإستثمار توفر فرصا للعاطلين عن العمل عدا عن مستلزمات الحياة الطبيعية.. حتى الميناء الكبير الذي كان يمكن له لو إنجز أن يحل مشكلة البطالة ما زال ميناءا ورقيا ولم يتم البدء ليوفر الأمل للسكان ويتطلعوا معه الى مستقبل أفضل.