تجربة النائب والوزيرالسابق انور الصباح
وثيقة مليئة بالشواهد والاحداث… والصمت ابلغ من الكلام
فؤاد خشيش/ “يبدو ان اصواتنا، انا ورفاقي النواب في الكتلة الاسعدية، ذهبت ادراج الرياح، وربما تعارضت مع مصالح ” امراء الحرب” في سنوات مقيتة ذهب ضحيتها مئات الاف اللبنانيين، غالبتهم ممن رفضوا حمل السلاح واقتتال الاخوة بين قتيل وجريح ومعوّق ومهجر ومهاجر”…
هكذا يتحدث النائب والوزير السابق وابن الجنوب، النبطية تحديداً، انور الصباح في كتاب صدر حديثاَ تحت عنوان”حفر في الذاكرة والتاريخ” وهو عبارة عن حوار صريح وجريء عن تجربته التي عاشها في رحاب العمل السياسي ( 28 سنة سواء في الندوة البرلمانية وفي ممارسة النشاط السياسي) وقد اجرى الحوار – الذاكرة الصحافي والكاتب البير ط. خوري .الكتاب بحق ،عبارة عن وثيقة سياسية تاريخية، كون الصباح عايش مراحل تاريخية هامة في بلد عانى الحروب المتتالية ( ولا يزال) وبالاخص الحرب الاهلية وكان شاهدا حقيقيا على كثير من اللقاءات والاجتماعات، وحافظاً اسرارها، وعايش الزعماء السياسيين الذين ادوا دورا كبيرا في كل المراحل التاريخية في محاولة لبناء بلد راق وحضاري يواكب التاريخ في تطوره. ويختم النائب الجنوبي كلمتة التي كتبها بقوله ” ان نظاماَ لبنانيا عادلا يرعى طوائفه واحزابه وناسه، وحده الكفيل ببقاء لبنان الذي اردناه ونريده سيداَ حراَ مستقلاً”.
اذن، ثلاثة عقود خاض فيها النائب والوزير الصباح اكثر من معركة كادت تودي بحياته اكثر من مرة ولم يتردد في قول كلمة الحق في مختلف الشؤون المحلية والاقليمية والدولية.وهنا يشير الصبح الى ” انه كان ناطقاً باسم اللبنانيين عموماً وابناء الجنوب خاصة الذين اولوه ثقتهم في اكثر من دورة انتخابية بدءاً من العام 1964 على اللائحة الاسعدية ( نسبة الى رئيس مجلس النواب الراحل كامل الاسعد) واستمر مع الاسعد الى حين اعتزاله السياسة في العام 1992 بعدما تاكد له عبثية مواجهة قوى الامر الواقع، وحصر الصوت الجنوبي بهذه القوى، اما عن قناعة ،او بفعل ضغوط اقليمية تقلصت معها مساحة الرأي الآخر” بحسب تعبيره.
واذا كان بعض المعمرين من ابناء النبطية لا يزال يتذكرذاك البيت القرميدي الذي يتوسط سوق النبطية ولطالما استضافهم في امسيات هي مضرب مثل حتى اليوم وان كان لا يوجد “بيت بلا ابواب” فهو بيت آل الصباح.يتحدث النائب والوزير السابق عن خلاصات تجارب منذ بداياته السياسية الى حتى سن التقاعد، مشيرا الى ان علاقته بالرئيس كامل الاسعد حيث ان هذا الاخير كان “يتعامل مع الحلفاء والخصوم من منطق واحد: انا او لا احد ، وكأننا ارقام وعلينا ان نسير وفق توجهاته وقرارته، هذا فضلا عن عناده ومكابراته، لكن لا احد يشك بوطنيته”.
ملفات وازمات
يتحدث الصباح عن ازمة افلاس بنك “انترا” الشهيرة بما لها وعليها، وكيف المسير الذي اوصل المصرف الى تلك الحالة وكان ذلك في العام 1967 ، حيث ان البنك كان يمتلك ما نسبته 450 مليون ليرة لبنانية وهو مبلغ ضخم في تلك الفترة وعلى صعيد الودائع، ما دفع فيما بعد الى وضع رقابة صارمة على المصارف برئاسة حاكم مصرف لبنان مما اعد الثقة بالمصارف اللبنانية .
اما الازمة الاخرى يتابع الصباح فهي الملف الفلسطيني الملتهب ولا يزال، والذي انعكس بدوره على الوضع الداخلي اللبناني حيث بادر المقاتلون الفلسطينيون الى شن عمليات ضد اسرائيل من الجنوب اللبناني ، ما شكل ارباكاً للحكومة اللبنانية ، وقد انقسم اللبنانيون حيال الموضوع وقد اتخذ حالة الانقسام الطائفي ، وهنا ابدى الرئيس اللبناني في تلك الفترة شارل حلو رغبته بالاستقالة وكان ذلك في الاول من تشرين الاول 1967، وكان عدد المسلحين الفلسطينيين صار في ازدياد، ما ادى الى وقوع مشاحنات بينهم وبين الجيش اللبناني، ادى الى وقوع العديد من القتلى والجرحى . ولكن في ظل هذه الاجواء المشحونة ، كانت المفاوضات بين الحكومة اللبنانية والفلسطينيين، وجاء ذلك بناء على رغبة ملحة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتم الاتفاق على اجراء تلك المفاوضات في القاهرة، كان ذلك في 29 تشرين الاول بين الوفد اللبناني برئاسة قائد الجيش اميل البستاني والوفد الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات وفي الثالث من تشرين الثاني تم التوقيع على ما عرف بـ” اتفاق القاهرة “… ويقول الصباح :ان هذا الاتفاق شكل بداية دخول لبنان في نفق الازمات العربية والاقليمية “.
ويتحدث الصباح عن” ديموقراطية الصوت الواحد”، حيث شكل انتخاب الرئيس سبيمان فرنجية رئيسا للجمهورية اللبنانية في السابع عشر من اب عام 1970 ، خلفا للرئيس شارل حلو، حيث يتذكر كيف غادر الرئيس حلو قصر بعبدا مخلفا وراءه مجموعة مشكلات سياسية واجتماعية وامنية معقدة سرعان ما تنحولت الى ازمات خطيرة … حيث انفجرت في العام 1975 الشرارة الاولى للحرب الاهلية اللبنانية الشرسة وما رافقها من دمار وموت وتحولات وتحديات طالت البلد برمته، حيث كانت بوسطة عين الرمانة حيث ” القلوب مليانة “. ويشير الى تطور الاحداث، حيث كان مقتل الزعيم الصيداوي معروف سعد اثر شائعة في صيدا عن تاسيس شركة بروتين لصيد السمك بتمويل مباشر من الرئيس كميل شمعون وعدد من المستثمرين اللبنانيين .
ويقول الصباح في حواره : “ان الثالث عشر من نيسان كان يوما مشؤوما، حيث ” بدأ اطلاق النار وارتفاع الحواجز وارتسمت خطوط التماس حيث دارت الاشتباكات بين طرفي النزاع ، حزب الكتائب من جهة ، والفلسطينيين مدعومين من الاحزاب الاسلامية من جهة اخرى” .
ووسط هذه التحديات، شعرت القيادات المسيحية ان المؤامرة باتت اكبر من قدراتهم على مواجهتها وادركوا الحاجة القصوة لتدخل سوريا ومنع الفسطينيين من متابعة زحفهم وصولا الى عقر دارهم .
وعن اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل يقول الصباح : ان الرئيس الياس سركيس ادرك منذ اللحظة الاولى لانتقاله الى قصر بعبدا ان المهمة التي اوكلت اليه في انقاذ ما تبقى من الجمهورية صعبة ومعقدة … وهو اكثر قناعة على استحالة فصل الازمة اللبنانية عن الصراع العربي الاسرائيلي… ويتابع الصباح حديثه : ففي الثالث والعشرين من اب، وبينما بيروت الغربية تودع اخر الفدائيين الفلسطينيين برعاية ” القوة المتعددة الجنسيات” المكونة من وحدات فرنسية واميركية وايطالية، انتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية في ثكنة الفياضية … وقد كشف خطاب القسم الذي نشر بعد اغتيال بشير الجميل عن طروحات الرئيس الشاب الرئيسية لانقاذ لبنان ، وقراره بمواجهة النواب بكلام صريح ” لقد انتخبتموني فساعدوني “، واضاف الرئيس المنتخب ” لبنان ليس بلداً مسيحيا، هو وطن المسيحيين والمسلمين اللبنانيين”.. وكان يصر على رفض توصيف على ما جرى في لبنان بـ ” حرب اهلية”، بل “بحرب على لبنان” …
ويتابع النائب والوزير السابق حديثه الحواري بالقول :” انه كما كان متوقعا،جاء انتخاب امين الجميل رئيساً للجمهورية خلفا ًلشقيقه بشير في الثكنة نفسها في 21 ايلول 1982 . وبحسب الصباح: ان الرئيس امين الجميل اوتي بالكثير من الفرص ليضع لبنان على السكة السليمة ، لكنه فشل في استغلالها، مما زاد الامور تعقيداً واوصل البلاد الى فراغ دستوري في نهاية عهده، اي انه ” صاحب الفرص الضائعة”…
ويتحدث النائب والوزير الجنوبي السابق عن انقلاب ايلي حبيقة وعن الاتفاق الثلاثي الذي رعته دمشق في الثامن والعشرين من كانون الاول في العام 1985 بين قادة الميليشيات الرئيسية الثلاث نبيه بري ووليد جنبلاط وايلي حبيقة. ويشير الصباح الى اعتراض نواب الكتلة الاسعدية على الاتفقاق لانه” لم نكن من المؤمنين بالوصول الى نتائج ترضي جميع الافرقاء او بقدرة باتفاق على احداث تغيير في الساحة السياسية اللبنانية”.
اذن كثيرة هي المحطات التاريخية التي يتحدث عنها النائب والوزير السابق انور الصباح في حواره – الوثيقة ، وهو بحق كتاب يستحق القراءة ، على اعتبار ان صاحبه شارك وحاول ان تستعيد البلاد عافيتها، لكن الاحداث ربما كانت اقوى، وتسير بوتيرة سريعة، ولكن يكتب للصباح صمته المدوي، وهو من ابلغ وسائل الاعتراض..
صحافي ودكتور في التاريخ والعلاقات الدولية