“حرب الآخرين” الثانية… في لبنان
11 يناير, 2014
مقالات, ملفات خاصة
محمود بري / يعيش لبنان منذ أشهر طويلة وشاقة على إيقاع الزلزال السوري، ويتأثر بطرق مرضية بكل أحداثها وإرهاصاتها، “مستفيداً” من رصيد كبير من مشاكله الداخلية التي تعمل على “تخصيب” أزماته القائمة على مختلف المستويات الأثنية والمذهبية والمناطقية والحياتية عموماً. وبات معروف أن مآلات المأساة السورية، بعد أن تنتهي تفاعلاتها وتصل إلى نهايتها، لا بد أن تظهّر في لبنان بطريقة مباشرة، فتشدّ من عضد حلفاء المنتصر هناك وتقوّي حجته وتفتح الطريق أمام مشروعه، بينما تخنق الخصم وتجبره على التخلّي عن الكثير من غلوائه ومشاريعه.
هذه الرؤية المبسّطة، على علاّتها، لا تبدو بعيدة عن السياق المنطقي للأمور، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن عمليات التفاوض بعد الحروب تكون إستمراراً للحروب ذاتها، إنما بطرق أخرى، وأن الأوراق المحققة في الميدان هي التي تنصّ صِيَغ اتفاقات ما بعد الحرب لتأخذ من المهزوم ما تعطيه للمنتصر.
وكما بات واضحاً للجميع فإن نهايات الحرب (الحروب) الدائرة في سورية وعليها باتت تشرف على أفقها النهائي، وإن كان بلوغه ما زال يحتاج إلى المزيد من الوقت. والإنجازات الميدانية التي تحققها الدولة في دمشق على حساب مقاتلي المعارضة الذين من ألف صنف ولون، لم تعد محط تساؤل أو تشكيك بعد أن فرضت ثقلها على الأطراف الخارجية الرئيسية التي تحرّك بيادقها على الأرض السورية، فباتت هذه الأطراف تنظر إلى مؤتمر “جنيف -2 ” بالرهبة التي ينظر بها التلميذ اليافع إلى يوم الإمتحان. وعلى هذا الأساس تجهد هذه الأطراف لتحقيق نصر، ولو على راهبات مسالمات في دير معزول، لعلها تحصّل من وراء ذلك ورقة أفضلية تُبرزها على طاولة مؤتمر التفاوض الذي تنتظره المدينة السويسرية في 22 كانون الثاني/ يناير المقبل…
يقول أحد القادة الميدانيين في الجيش النظامي السوري إن الحرب “العالمية” ضد سورية قد أشرفت على اندحارها، وما سوف نراه في الأسابيع والأشهر المقبلة سيكون مزيداً من الإنهيارات في صفوف أعداء الدولة، بعد أن تحطم الجسم العسكري الأساسي لهم. وبعد فشل هجومهم الواسع الأخير باتجاه العاصمة، والذي خسروا فيه ما يزيد عن 1200 مقاتل بين قتيل ومعطّل عن القتال، لم يعد بوسعهم أكثر من شن حروب إنتقامية ومهاجمة المدنيين والقرى الآمنة والفتك الأبرياء . وما سوف نلاحظه أكثر في الفترة المقبلة هو المزيد من الجرائم في حق الذين لا حول لهم ضمن القرى النائية والخالية من أي وجود للقوى النظامية.
ومع انطلاق آخر المعارك الكبرى في وجه المعارضة المسلحة داخل مدينة يبرود المحاصرة، من المنطقي الافتراض بأن المسلحين الذي دأبوا في كل معركة أساسية إلى الإنسحاب نحو مناطق أكثر أمناً ثم العمل على تبادل كرة المسؤولية عن الهزيمة، سيكونوا ملزمين هذه المرة بما يمكننا تسميته “الإنسحاب التدفقي”، وخصوصاً باتجاه الأراضي اللبنانية بعد أن ضيّق الجيش النظامي عليهم الاراضي السورية. وهذا ما يتطلّب يقظة وتواجداً إستثنائيين من القوى الأمنية اللبنانية التي من الواضح أنها لا تعيش أفضل أيامها.
وليس من قبيل المبالغة توقع أشهر شديدة الحماوة في المرحلة المقبلة، يمكن تسميتها بمرحلة العمليات الإنتقامية العشوائية، في سورية وفي لبنان أيضاً، والتي تتضمن ما يُعبّر عنه بكلمة ستكون نصف جديدة على قاموس هذا النوع من الحروب، وهي:”المجازر الطيّارة”… إستعادة لتعبير التظاهرات الطيارة التي عرفها اللبنانيون في مرحلة ما قبل حرب الـ75. وهذا يعني على سبيل المثال أن تظهر بشكل فجائي مجموعة مسلحة في منطقة ما، فتعمل على القتل والحرق والتدمير، ثم تختفي فجأة كما ظهرت، باللجوء إلى مكامن أمنة مُعدّة سلفاً. وسيكون معلوماً أن مثل هذه الاعتداءات الدموية ستأتي لتعبّر عن يأس الذين يقومون بها، على أن تكون آخر أنشطتهم العسكرية حيث سيتمّ القضاء عليهم بعدها بعد أن تلفظهم بيئاتهم الحامية.
والحقيقة أن جهات لبنانية أمنية شتى، رسمية وغير رسمية، تعمل بجهد متواصل على الاستعداد لمثل هذه المفاجآت الدموية في محاولة لخنقها في مهدها وتعطيلها ما أمكن. هذا مع يقين تام بأن هذا الإجرام المتفلّت (والذي شهد العالم الكثير منه مؤخراً في سورية) سيكون مثابة الإختلاجات الأخيرة في جسم المسماة بالمعارضة السورية والآيلة إلى نهايتها الوبيلة.
ولعل هذا ما يزيد في حراجة الوضع اللبناني الذي يرصد تدحرج هذه العاصفة العاتية… بلا حكومة، وبإنتخابات رئاسية مشكوك في إمكانية حصولها، وبعداوات مستجدة غير تقليدية وغير مسبوقة يمكن أن تجعل هذا البلد، مرة أخرى، ساحة متجددة لـ “حروب الآخرين”، وقرباناً يُقدّم على مذبح “فشل الثورة السورية” ورُعاتها.
كاتب وصحافي لبناني