د.فؤاد خشيش / دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية
حدد الجغرافيون الجغرافيا الاقتصادية للعولمة بطرق مختلفة ولكنها تشير جوهرياً الى الخصوصية الفضائية للاقتصاد. اكثر التعريفات مباشرة ، ولكنه غني بشكل مدهش، هو التعريف الذي اقترحه روجر لي في ” قاموس الجغرافيا البشرية” (2000 ص195 ) بان الجغرافيا الاقتصادية هي” جغرافيات صراع الاشخاص لكسب العيش”. ويقترح سستوتز ودي سوزا (1998 ص41 ) تعريفاً مفيداً اخراًن معتبرين الجغرافيا الاقتصادية انها” تهتم بالتنظيم والتوزيع الفضائيين للنشاط الاقتصادي واستعمال موارد العالم وتوزيع اقتصاد العالم وتوسيعه.*1
من ناحية اخرى ، اختلطت العولمة بشكل شبه جماعي ، مع اتساع كوكبي الاقتصاد والسوق وانتصار المتاجرة(marchandisation) بآليات عمل المعادلات المتغيرة وفقاً لحساباتها الدولية .
انه من الخطأ اعتماد حالة واحدة للعولمة طالما ان ديناميتها تنتج في حركتها ذاتها اختلافات متجددة، وتباينات جديدة في سياق لا ينتهي.
يرى الباحث الفرنسي شارل البرت ميشليه*2 ” ان العولمة لا تنفصل عن حركة الرأسمالية لان ذلك لا يعني بالنسبة لأكثرية الرأي العام انها متطابقة مع اصلها مع انها قديمة لكن انماط وجودها شهدت تحولات عبر التاريخ وفقاً لذلك مظاهر اشكالها.
مراحل تطور اقتصادي:
اذا نظرنا الى تاريخ مسير العولمة ، نجد انها مرت منذ نشوئها بمرحلتين على الاقل قبل اكثر من ربع قرن، ويجادل البعض الآخر في ان المرحلة الفعلية الاولى حدثت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وانتهت مع الحرب العالمية الاولى. ويشر هؤلاء الى الى الموجات الهائلة من الهجرة حين انتقل الاوروبيون بعشرات الملايين من القارتين الاميركيتين واستراليا، والى انه مع حلول العام 1914 كانت بريطانيا تصدر بشكل كبير ومنتظم معادل رأس المال بنسبة 9% من ناتجها المحلي القائم، وتجمع ممتلكات في ما وراء البحار بقيمة 140 بالمئة من ناتجها الاقتصادي السنوي . وفوق ذلك يشير ذلك المؤرخون الى النمو في مستوى التجارة العالمية عندما وصلت الاغذية الرخيصة الثمن من الاميركيتين واوكرانيا الى اوروبا الغربية التي كانت منشغلة في تصدير السلع المصنعة، وان الحجم التجاري وصل الى نسبة 10% من الناتج المحلي القائم على المستوى العالمي، ويمكن تسمية تلك الفترة بالحقبة الاولى للعولمة، وقد توقفت في العام 1914 عندما لم تعد (بريطانيا العاجزة ماديا) وهي الدولة التي ابتكرت الحقبة الاولى للعولمة ومولتها بشكل اساسي قادرة على حمل عبء ادارة النظام، ولم تستطع اي دولة اخرى ملء الفراغ.
استمرت تلك الفجوة الطويلة في العولمة حتى العام 1944 عندما قام الحلفاء البريطانيون والأميركيون المنتصرون، ممثلين بجون مينارد كينيز وهاي ديكستر وايت بالتخطيط لاقتصاد عالمي جديد لفترة ما بعد الحرب، وخلال ثلالة اسابيع من شهر يونيو، وفي جبال هامبشاير في بريتون وودز، خطط واعد كل من كينيز ووايت للحقبة الثانية للعولمة والمؤسسات التي ستنعش التجارة العالمية وتديرها ، فقاما بابتكار اليات لتمويل المؤسسات الاساسية التي اوجدت الهيئات التي ستنتعش وتزدهر من خلالها العولمة، بدءاً بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وفي ما بعد ظهرت هيئات اخرى مثل المنظمة العالمية للمقاييس، ومنظمة التعاون والتطوير الاقتصادي ، اما اكثر هذه المنظمات اهمية فهي ” الاتفاقية العامة للتجارة والرسوم الجمركية “GATT “، والتي حلت محلها منظمة التجارة العالمية WTO .
مع الاشارة الى انه شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية انتعاش اوروبا من خلال خطة مارشال وذلك بقيادة الولايات المتحدة الاميركية واستثمارها وحصلت اعجوبة مشابهة في اليابان من خلال التمويل الذي جعل من تلك الدول القاعدة الصناعية للحرب الكورية في بداية الخمسينيات.*3
كان من المفترض للحقبة الثانية من العولمة ان تنتشر بشكل اوسع لولا فشل الاتحاد السوفياتي في اقرار بنود اتفاقية صندوق النقد الدولي، وعندما دعي الاتحاد والدول التابعة له في اوروبا الشرقية للانضمام الى خطة “مارشال”*4 والمشاركة في فوائدها مقابل تبني تجارة ” الباب المفتوح” ،اظهر التشيك اهتماماً مبدئياً الى ان جرى كبحهم من قبل موسكو ، وتحدث فياتشيسلاف مولوتوف وزير الخارجية السوفياتي باسم كثير من نقاد العولمة الذين ظهروا لاحقاً برر رفض العرض بالسيطرة اللاحقة والكاملة للثقافة الاميركية على مختلف الاوضاع الداخلية للبلدان( لغة ، ثقافة، افلام، سينما.) ومن الواضح انه لم يكن على خطأ .*
*مشروع مارشال:
مشروع مارشال هو المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الذي وضعه الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير الخارجية الأميركي منذ يناير 1947 والذي اعلنه بنفسه في 5 يونيو 1947 في خطاب امام جامعة هارفارد وكانت الهيئة التي اقامتها حكومات غرب أوروبا للاشراف على إنفاق 13 مليار دولار أميركي قد سميت ” منظمة التعاون والاقتصادي الاوروبي” وقد ساهمت هذة الأموال في إعادة اعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الاوروبية.
فلقد ترتب على الحرب العالمية الثانية تدمير الاقتصاد الاوربي وإنهياره وكساده إلى حداً كبير وعميق مما ادى إلى انتشار الفقر والبطالة بشكل واسع ، مما خلق تربة خصبة لإنتشار الشيوعية كما كان هذا واضحاً من الخطط السوفيتية انذاك ، فكان لابد من الولايات المتحدة الامريكية صاحبة اقوى اقتصاد انذاك والتي لم تتضرر كثيراً جراء الحرب ان تتصرف بسرعة وان تهتم بمحور الاقتصاد كاهم عامل مؤثر ، فكان مشروع مارشال بادرة اولية لإنعاش اقتصاديات غرب اوروبا .
ويمكن تسمية الحقبة الثالثة للعولمة هي لحظة انضمام الصين الى عضوية منظمة التجارة العالمية في الحادي عشر من ديسمبر من العام 2001 وجرت بعد ذلك العام احداث مختلفة تشير الى حجم التغيير الذي كان يكتسب زخماً كبيرا. فقد ادت الهجمات الارهابية في الحادي عشر من سبتمبر دوراً رمزياً حين حّولت الولايات المتحدة الاميركية بين ليلة وضحاها من وضع قوة راهنة راضية تماماً عن العالم الى دولة صممت حكومتها على تغيير العالم بدءاً من غزو افغانستان والعراق الى تعزيز الديموقراطية في الشرق الاوسط ، الا ان التضامن التقليدي للغرب تحت قيادة الولايات المتحدة بدأ بالتآكل قبل الحادي عشر من سبتمبر بوقت طويل، وذلك بسبب خلافات حول سياسات ذات صلة بقضايا مختلفة مثل بروتوكول ” كيوتو”* وتغيير المناخ ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية* والمحكمة الجنائية الدولية ، ومع توسع الاتحاد الاوروبي الى سبع وعشرين دولة وعملة اليورو الجديدة التي تتحدى السيطرة التقليدية للدولار، شعر الاوروبيون بأنهم اقل اعتماداً على دعم الولايات المتحدة الاميركية مما كانوا عليه عندما كان الجيش الاحمر السوفياتي متمركزاً على حدودهم.
*اتفاقية كيوتو:
اتفاقية كيوتو (بالإنغليزية: Kyoto Protocol) تمثل هذه الاتفاقية خطوة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة المبدئية بشأن التغير المناخي (UNFCCC or FCCC)، وهي معاهدة بيئية دولية خرجت للضوء في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (UNCED)، ويعرف باسم قمة الأرض الذي عقد في ريو دي جانيرو في البرازيل، في الفترة من 3-14 يونيو 1992. هدفت المعاهدة إلى تحقيق “تثبيت تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى يحول دون تدخل خطير من التدخل البشري في النظام المناخي.”
نصت معاهدة كيوتو على التزامات قانونية للحد من انبعاث أربعة من الغازات الدفيئة (ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروس، وسداسي فلوريد الكبريت)، ومجموعتين من الغازات (هيدروفلوروكربون، والهيدروكربونات المشبعة بالفلور (perfluorocarbon)) التي تنتجها الدول الصناعية “المرفق الأول”، ونصت أيضا على التزامات عامة لجميع البلدان الأعضاء. واعتبارا من عام 2008 م، صادق 183 طرفا على الاتفاقية، التي كان قد اعتمد استخدامها في 11 ديسمبر 1997 في كيوتو في اليابان، والتي دخلت حيز التنفيذ في 16 فبراير 2005.
وافقت الدول الصناعية في إطار اتفاقية كيوتو على خفض الانبعاث الكلي للغازات الدفيئة بنحو 5.2٪ مقارنة بعام 1990. ألزم الاتحاد الأوروبي بتخفيض قدره 8 ٪، والولايات المتحدة بنسبة 7%، واليابان بنسبة 6 ٪، وروسيا بنسبة 0 ٪.
سمحت المعاهدة بزيادة انبعاث الغازات الدفيئة بنسبة 8 ٪ لأستراليا و 10 ٪ لأيسلندا. ويتضمن اتفاق كيوتو مجموعتين من الالتزامات المحددة تحقيقاً للمبادئ العامة التي أقرتها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ :: تتضمن المجموعة الأولى الالتزامات التي تتكفل بها جميع الأطراف المتعاقدة، في حين تختص المجموعة الثانية بمجموعة الالتزامات التي تتحملها الدول المتقدمة حيال الدول النامية.
*معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية:
معاهدات عدم انتشار الأسلحة النووية, برزت منذ الخمسينيات أصوات مناهضة لعمليات الاختبار والتسلح النووي، حيث أُجري منذ 16 يونيو 1945 وحتى 31 ديسمبر 1953 أكثر من خمسين انفجاراً نووياً تجريبياً، مما حدا بالكثير من الشخصيات العالمية إلى التعبير عن رفضها لهذه الأفعال، ومن أبرزها جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند آنذاك والذي دعا إلى التخلي عن إجراء أي اختبارات نووية، دون أن تلقى دعواته آذاناً صاغية من القوى العظمى آنذاك بسبب انهماكها في تفاصيل الحرب الباردة.
بدأت أولى المحاولات للحد من الأسلحة النووية في عام 1963؛ حيث وقعت 135 دولة على اتفاقية سُميت معاهدة الحد الجزئي من الاختبارات النووية وقامت الأمم المتحدة بالإشراف على هذه المعاهدة؛ علماً بأن الصين وفرنسا لم توقعا على هذه المعاهدة حينذاك وكانتا وقتها من الدول ذات القدرة النووية.
”معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ” (NPT أو NNPT) (و تسمى أيضًا معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية) هي معاهدة دولية، بدأ التوقيع عليها في 1 يوليو 1968 للحد من انتشار الأسلحة النووية التي تهدد السلام العالمي ومستقبل البشرية. حتى الآن وقع على الاتفاقية 189 دولة. مع ذلك ما زال خارج الاتفاقية دولتين نوويتين أكيدتين (تملكان تجارب نووية مصرح بها) هما الهند وباكستان ودولة نووية محتملة هي إسرائيل (لم تصرح إسرائيل حتى الآن عن امتلاكها للسلاح النووي رغم الكثير من المؤشرات التي تؤكد ذلك). إحدى الأطراف التي يحتمل امتلاكها لقوة نووية هي كوريا الشمالية أيضا ما زالت خارج الاتفاقية. تم اقتراح الاتفاقية من قبل أيرلندا وكانت فنلندة أول من وقع عليها. وقعت على المعاهدة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والمملكة المتحدة عام 1968. ووقعت فرنسا والصين عام 1992.
مهما كانت محرضات التحول من الحقبة الثانية الى الحقبة الثالثة للعولمة، فإن احد التطورات الخطيرة هو الوضع الجديد للولايات المتحدة الاميركية كأكبر دولة مديونة في العالم . فقد اصبحت تجد صعوبة اكبر في فرض ارادتها السياسية على تلك الدول التي اصبحت تعتمد عليها الان في التوفير والاستثمار . وقد اعلنت وزارة التجارة الاميركية على ان العجز في العام 2006 وصل الى رقم قياسي وهو 812 مليار دولار ، وهو مبلغ يعادل الناتج المحلي القائم على للمكسيك التي يأتي اقتصادها في المرتبة الرابعة عشرة بين اكبر اقتصاديات العالم.
المراجع:
1-*جغرافيات العولمة / قراءة في تحديات العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية / تاليف د. ورويك موراي، ت. د. سعيد منتاق. عالم المعرفة/ عدد 397 فبراير 2013.
2-*la mondialisation la decouverte, cahier libre2002\ p.7-21
3*مصدر مذكور/ مارتن وولكر/الحقبة الثالثة للعولمة
4* مصدر مذكور/ مارتن وولكر/ الحقبة الثالثة للعولمة