إذا كانت المقاومة هي الاستمرار في الحياة والاصرار على استرداد حقوقنا المغتصبة في أي مجال كان، فإنّ الأدب مقاومة لأنّ الأدب قضية بحد ذاته، فهو مقاوم يعمل بوعي على تدمير الواقع لإعادة بناء واقع جديد يعيش في مخيلة المبدع عبر أجناس مختلفة من الكتابة تجعل المتلقي يشعر بالغبطة والائتلاف مع هذا الواقع الجديد، وذلك حسب أسلوب المبدع في الكتابة، ومدى امكانية اتقانه في استخدام أدواته الفنية.
وفور ذكرنا لأدب المقاومة تراود عقولنا دون وعي القضية الفلسطينية وما تحمله من همّ فلسطيني ينبض في قلب كل عربي حقيقي ويحرك ضمير كل بشري مفعم بالإنسانية.
العنصرية تحلف برأس مولودتها…إسرائيل:
تفتح مجموعة(تورق ذاكرتي) للكاتب السوري باسم عبدو دفتيها على قصص تروي مواضيع البعض منها حكايا جرح الوطن النازف آلا وهو فلسطين.
فالقصة الأولى من المجموعة كانت بعنوان (سالومي) وهي قصة تسرد أحداثاً وقعت مع جندي إسرائيلي من أصل بولوني، تلقّى صفعة على خده الأبيض من كفّ سيده الأسود، وبهذا يسلط الكاتب الضوء على الاستبداد والعنصرية اللذان يتجليان في شخصية الملازم أورسلو الذي مازال سواد بشرته يستشيط غضباً وحقداً على الرجل الأبيض حتى ولو كان من الشعب المختار كما تدعي الصهيونية،(فسالومي المولود في المستوطنة لايعرف عن وطنه الأم إلا الحكايا التي يستعيدها والده…، تمنى في أعماقه العودة ولكن…!)، ومنه فإن تلك الدولة المزعومة بتكاتفها وتعاضدها، تلك الدولة التي لاتُقهر،لايستطيع حتى سالومي العيش بداخلها لأنها مبنية على باطل الأباطيل.
ولو أعطى الراوي العالم بكل شيئ، المهيمن على السرد، الحرية لشخصية سالومي لكان لهذه الشخصية حواراً مونولوجي يكشف عن مكنوناتها وسبر أغوارها، ولأضفى على القصة عنصري التشويق والدهشة.
فالقصة من حيث المعيار الفني، تصلح مادة أولى لعمل روائي، كما أغلبية قصص المجموعة، هي قصة تداعيات، الزمن فيها متقطع يهبط من الحاضر إلى المستقبل، ثم يصعد من الحاضر إلى المسقبل.
(ليس بالحزن وحده يحيا الإنسان) :
أما قصة الهديل…وفرخ الحمام، وهي حكاية أم سلمى التي لا ذنب لها سوى أنها أم فلسطينية، تعيش في غزة وقد اختبأت حكايتها مثل المئات من الحكايا على ألسنة الناس، تلك المرأة التي هالها الخراب والحريق والدخان، وأخذت تبحث عن ثدييها اللذين انتزعتهما منها الموبقات والمذابح والقنابل التي أضاءت ليلة كرم الزيتون بحقدها ووحشيتها، فظل السؤال مكرور من زمن لم يجفّ بعد السؤال: كيف خرجت ابنتها سلمى من تحت الأنقاض؟ ولأنه (ليس بالحزن وحده يحيا الإنسان) ظلت سلمى تجاهد وتزحف، تميل وتقع وتنهض، تفتش عن ثدي ضائع تريد أن تشبع من حنانه وحليبه…، إنها قصة ألم وأمل، قصة الانتماء إلى الوطن والمحافظة عليه وحمايته من كل يد غادرة، إنها قصة موجعة كما هي قصص فلسطين وحكايا شعبها.
في القصة ومن الناحية الفنية تشويق يحملنا إليه السرد الشعري للكاتب، فيصبح القارئ متابعاً لأحداث القصة كي يعرف ما حلّ بسلمى وبثديي والدتها، يتتابع فيها الزمن تصاعدياً تسلسياً يصل بالقارئ إلى الذروة ليتركه بعدها مع خياله وتأويلاته للفضاء النصي.
آلام الحصار:
وفي قصة(أربع جهات تحاصرني) نجد أن الكاتب يبحث عن فسحة أمل، نافذة يفتحها كي يتنشق من خلالها طعم الحياة، ففتح نافذة على البحر لكن شيخ الصيادين الذي كان ينشد السلام للعالم قُتل، وحزن البحر واختفت النجوم من السماء، وغرقت حبيبة الصياد بحزن عميق.
وهكذا شرع الكاتب يفتح النافذة تلو الأخرى لكنه عبثاً كان يحاول، فالنافذة الرابعة التي تطل على الوطن رأى فيها الكاتب العالم رماداً ممزوجاً بسواد الأيام، وقتال وحروب ودماء وجثث على الطرقات…حرائق ..وجوع.
ومنه فإن مجموعة (تورق ذاكرتي) هي مجموعة تحمل همّ الانتماء، همّ الحفاظ على الوطن، وترفع راية القضية الفلسطينية وقضية الإنسان العربي على هذه الكرة الأرضية، لكن المقاربة الحديثة عندما تسلط ضوءها على مجموعة قصصية ما، فهي تنقب عن تقنيات الحداثة في القصة، وتحاول استنباط عناصرها، وبالرغم من أن القصة الحديثة لاتولي الموضوع أهمية كبيرة، إلا أننا نجد أنّ الكاتب باسم عبدو يصرّ في كل قصص مجموعته (تورق ذاكرتي) على أهمية الموضوع.
فالموضوع عند باسم عبدو هو المادة الخام في البناء الفني، والقصة القصيرة هي جنس أدبي يعتمد على التكثيف والإيجاز والإدهاش والإيهام، فأهمية النصّ ليس في موضوعه إنما في الأسلوب الفني الذي قُدم من خلاله.
ولكن أبرز مايميز المجموعة ويوحّد بينها هي شعرية اللغة التي يفيض بها الكاتب ويوظفها بشكل يخدم سهولة الايصال للمتلقي.
تأتي مجموعة تورق ذاكرتي بعد 6 مجموعات قصصية للكاتب باسم عبدو، وقد احتلت القضية الفلسطينية العدد الأكبر من قصص كل مجموعة، فالقضية الفلسطينية قضية إثبات وجود، قضية حق ضائع، قضية إنسانية البشر أولاً وإلى الدهر.