د. عودت ناجي الحمداني/ان العقوبات التي صدرت من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوربي بحق روسيا الاتحادية هي عقوبات هزيلة ولا تعدو كونها ضجيج وزعيق فارغ يعبر عن الاحراج الدولي الذي وقعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الموقف الحدي الذي اتخذته الحكومة الروسية باحترام ارادة شعوب جزيرة القرم وتقديم المساعدة الحاسمة لها في تحقيق استقلالها وانضمامها كدولة مستقله الى روسيا . فالعقوبات التي اتخذت بحق عدد من المواطنين الروس بمنعهم من الدخول الى دول الاتحاد الاوربي وتجميد حركة اموالهم هو انتهاك فض لحقوق الانسان لان هؤلاء المواطنين لم يقرروا السياسة الروسية وهم غير مسؤولين عن الازمة الاوكرانية التي خلقتها المخابرات الامريكية . كما ان طرد روسيا من مجموعة الدول الثماني تثير السخرية . فالدول الثماني لا تقرر مصير الاقتصاد العالمي ودورها لا يتعدى سوى البروتوكولات الدولية.
ان روسيا دولة عظمى ودولة نووية ولها حق الفيتو في مجلس الامن الدولي وتستطيع ان تستوعب كافة العقوبات التي يقدم الغرب عليها وبدورها تستطيع ان ترد على العقوبات بعقوبات اقتصادية وسياسية اكثر ايلاما وضررا. فالدولة الروسية تتمتع باستقرار سياسي و بوضع اقتصادي متين وبقيادة سياسية قوية وموحدة وتحتل نسبة 3 بالمئة من الانتاج العالمي, وتشترك بعلاقات اقتصادية واسعة مع الهند والصين والبرازيل ذات الاقتصاديات الفاعلة في الاقتصاد العالمي. ولها علاقات اقتصادية وسياسية وثيقة مع اكثرية البلدان العربية وخصوصا الدول الغنية بالبترول. وروسيا تصدر يوميا اكثر من 12 مليون برميل من النفط ولديها فائض من العملات الصعبة ما يقارب الترليون دولار. كما ان الاتحاد الاوربي يعتمد على روسيا في تامين احتياجاته من الغاز بنسبة 30 بالمائة. ولهذا فان العقوبات الغربية بحق روسيا ستبقى شكلية وهزيلة . فالدول الغربية لا تستطيع توجيه عقوبات نوعية للاقتصاد الروسي. لان نتائج العقوبات ستلحق خسائر كبيرة بالبنوك و الشركات المالية والصناعية الغربية المستثمرة في روسيا . فلألمانيا وحدها 130 شركة صناعية في روسيا وان التبادل التجاري بين روسيا و الاتحاد الاوربي يزيد على 420 مليار دولار وبين روسيا وامريكا اكثر من 27 مليار دولار. ولهذا فان العقوبات الامريكية ستكون محدودة لان المزيد منها سوف يكبد الشركات و البنوك الغربية خسائر بمليارات الدولارات. واضافة الى ذلك فان الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الاوربي لا يمكن ان يستغنيان عن دور روسيا في حل العديد من القضايا الدولية اللاهبة كالأزمة السورية والملف النووي الايراني و ملف كوريا الشمالية و القضية الفلسطينية وغير ذلك من القضايا الدولية .
ونستنتج من ذلك من الصعب تهديد روسيا بالعقوبات . فالولايات المتحدة الامريكية و الاتحاد الاوربي يعيشون في دوامة من الازمات المالية والركود الاقتصادي التي ادت الى تصاعد ديونهما الخارجية . فالديون الخارجية للولايات المتحدة الامريكية تخطت 700 ,17 ترليون دولار في العام 2014. و تنامى العجز في الخزانة الامريكية الى اكثر من 1 ترليون دولار في السنه. وبلغت الديون الخارجية لكل من فرنسا وايطاليا في عام 2008 نحو 1.6 ترليون يورو و 1.8 ترليون يورو على التوالي . وارتفعت مديونية اليونان الخارجية الى 350 مليار يورو . واتخذت المانيا الاتحادية التي تعتبر اقوى اقتصاديات الاتحاد الاوربي إجراءات تقشفية صعبه لمواجهة الازمة المالية التي تتخبط في وحلها.
ونستنتج من ذلك ان روسيا الاتحادية تمتلك كافة القدرات المالية والاقتصادية التي تستطيع ان توجه عقوبات صارمة الى الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوربي. ففي خطوة اولية اصدرت عقوبات بحق عدد من المشرعين والسياسيين البارزين في امريكا ومن المقربين للرئيس اوباما وما زالت تهدد بالمزيد من العقوبات .
الاهمية الستراتيجية لجزيرة القرم
لقد كان احد الاهداف الاساسية من الاطاحة بالرئيس الاكراني المنتخب فيكتور يانكوفيتش هو القضاء على التواجد العسكري الروسي في جزيرة القرم المتمثل بالاسطول البحري في ميناء سيفاستوبول والاستيلاء على الجزيرة بإنزال الوحدات العسكرية الامريكية في محاولة لتطويق الدولة الروسية. فالموقع الجغرافي للجزيرة يجعل لها اهمية كبيرة في استراتيجية الامن الروسي. فتواجد مقر قيادة الاسطول الروسي في البحر الاسود في جزيرة القرم يعود لأكثر من 200 عام. وشبه جزيرة القرم في الاصل هي جزيرة روسية ونسبة مواطنيها من الروس 60% . وتشكل الجزيرة لروسيا بوابة مهمة للانطلاق الى المياه الدافئة في البحر الابيض المتوسط وتؤمن الاتصال بين القاعدة العسكرية الروسية في الجزيرة والقاعدة الروسية في ميناء طرطوس في سوريا عبر عدد من المضايق. فالأسطول الروسي في قاعدة سيفاستوبول يضم 300 سفينة حربية ويعمل في القاعدة 26 الف عسكري روسي. ولهذا فان الجزيرة تحظى بأهمية كبيرة الى روسيا . كما ان للجزيرة اهمية تاريخية تتمثل باحتضانها الاجتماع الدولي لرؤساء الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في عام 1945 وهي امريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي في احد مدنها يالطا.
ومن الناحية الاقتصادية فان جزيرة القرم التي تبلغ مساحتها 26 ألف كم2 تتمتع بثروات طبيعية مهمة كالبترول، والفحم الحجري، والغاز الطبيعي، والنحاس، والحديد، والمنغنيز، والرصاص ، كما تتمتع بثروة زراعية متنوعة مثل: القمح، والفواكه، والشوفان والشعير والبنجر السكري وتنتج كميات كبيرة من الفاكهة والخضر. ويتدفق فيها كميات كبيرة من المياه المعدنية مما يؤهلها لبناء اقتصاد متنوع و متعدد المصادر.
الاستناجات
1- بالرغم من ان الازمة الاوكرانية هي ازمة داخلية نفخت في تفجيرها العوامل الخارجية , فانها اتسعت والقت بتداعياتها على العلاقات الامريكية والروسية ودول الاتحاد الاوربي . فاشتعلت بينهما حرب العقوبات التي تثير قلقا دوليا من اشتداد الصراع وتداعياته على الساحة الدولية . ومما يخفف حدة الصراع وتداعياته ان الدولتين الجبارتين روسيا وامريكا اعلنتا عن قناعتهما بالحل السياسي والدبلوماسي للازمة وهو ما ينعش المناخ السياسي الدولي ويعبر عن رغبة الاطراف المختلفة في الوصول الى حلول دائمة للازمة.
2- ثبات الموقف الروسي في دعم استقلال جزيرة القرم في المفاوضات الدولية سواء مع الولايات المتحدة الامريكية او مع دول الاتحاد الاوربي فاستقلال القرم اصبح واقعا و حقيقة لا رجعة فيها بتوقيع الرئيس بوتن في 22/3/2014 مراسيم الاعتراف باستقلال الجزيرة وانضمامها الى روسيا الاتحادية.
3- اثبت تطور الازمة الاوكرانية وتداعياتها بروز روسيا كقطب دولي مؤثر في الساحة الدولية وليس باستطاعة الولايات المتحدة الامريكية الانفراد بقيادة العالم وفرض ارادتها .وما يدعم هذا الاستنتاج دور روسيا في الازمة السورية .
4- اظهرت الازمة الاوكرانية للعالم الوجه القبيح للإدارة الامريكية وزيف ادعائها بحقوق الانسان . فقد ايدت استقلال جنوب السودان وسراييفو وتيمور الشرقية باعتباره حق من حقوق الانسان ولكن تنتهك هذا الحق وتدوسه في شبه جزيرة القرم وفي فلسطين .
5- بإمكان روسيا ان تتخذ عقوبات شديدة بحق اوكرانيا بسبب حكامها الجدد المعادين لها مثل الغاء تخفيض اسعار الغاز الذي تستورده اوكرانيا من روسيا والذي يوفر لها نحو 400 مليون دولار في السنة وغلق الاسواق الروسية بوجه الصادرات الاوكرانية و طرد العمالة الاكرانية من روسيا والمقدرة بأكثر من 3 ملايين عامل.
6- ادى الموقف الروسي المتصلب تجاه الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الاوربي الى كسر الغطرسة الامريكية وانعش المزاج العالمي بأمل اعادة التوازن الدولي المفقود منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.
وتشير كافة الدلائل فان استقلال جزيرة القرم وانضمامها الى روسيا غير مدرجة على جدول اعمال اللقاءات والمفاوضات المزمع اجراؤها بين روسيا والولايات المتحدة الامريكة وحلفائها الاوربيين بشأن الازمة الاوكرانية وانما ستتركزالمفاوضات على العلاقة الروسية الاوكرانية ومصالح الدولة الروسية في اوكرانيا والاخذ بالاعتبار المصالح الغربية باوكرانيا ومناقشة مصير المناطق الشرقية في اوكراينا التي تشهد تظاهرات احتجاجية عارمة ضد السياسات الشوفينية للحكام الجدد في اوكرانيا وضد السياسة الامريكية المعادية لمصالح اوكرانيا..
لقراء الجزء الاول اضغط هنا