د. أحمد يونس / لطالما تعوّدت عيناي على مشاهدة العديد من الحالات المعدومة من البشر ، بل ومع كل إنسان أراه يبحث عن طعامه في حاوية القمامة كنت ألعن تلك الإنسانية الفظّة التي ندّعيها جميعاً ، نعم .. فإنسانيتنا ذهبت بل ماتت ، ولربما ما تعودنا على رؤيته يومياً من أناس معدومون وفي حالة رثّة هو ما جعل عدم المبالاة تؤثر علينا وتتملكنا عندما يطلب أحدهم بعضاً من المال أو حتى بعضاً من كسرة طعام .
للأسف .. حاولت كثيراً أن أتمالك نفسي مبتعداً عن الخوض في غمار هذا الموضوع الإنساني البحت ( والمؤثّر حقاً في نفس كل إنسان ما زال يحتفظ بإنسانيته ) ؛ لكن فظاعة وكثافة ما أراه يومياً جعلني لا أنفكُّ عن الكتابة عن من هم دون البشر حيث ( لا أكل ، لا شرب ، لا ملبس ، لا مسكن ، لا صحة ) .. أجل هنا في أوكرانيا من تنطبق عليهم هذه المواصفات مجتمعة ، وإن حاولت سرد وكشف فظاعة المشاهد التي تمر على مُحيّاي فبالطبع لن أنصف هؤلاء العامة بالقدر الذي يحتاجونه من إعلام وتسليط ضوء على معاناة فئة كبيرة جداً من الناس هنا لك أنْ تتخيل عزيزي القارئ ، طفلة في مقتبل العمر لم تتجاوز الـ 12 عاماً تقف متسولة على أحد شوارع مدينة تعتبر في أوكرانيا العاصمة الاقتصادية ( ومدينة المال والمستثمرين ) وهنا أعني دنيبروبتروفسك -مدينة تقع وسط أوكرانيا- ، وبجانبها رجل مبتور الساق وبحالة في غاية القذارة علّهما يحصلان على شيء يسدّان به رمق الجوع وضنك الحياة وسوء الصحة . تسير متجولاً نحو محطة القطارات الرئيسية هنا فتقابلك محال كثيرة ومتراصة في معظمها لا يبيع سوى البسكويت والمعجنات والسوائل الغازية والساخنة والروحية ، لجانب عشرات من الباعة الجائلين بلا رقابة صحية ، وبالتأكيد لن تفارقك الرائحة القذرة على طول مسيرتك نظراً لكثرة استهلاك الكحول حيث يُعدُّ الأوكرانيون منْ الأكثر شعوباً ( أحد البلدان المستهلكة بكثرة ) شرباً للكحول .. كما أن روائح المعجنات والزيت المقلي والشاورما (طبعاً لا تملك من الشاورما سوى الاسم) المنبعثة من المحال الغذائية المتراصة في محطتي القطارات والباصات واسواق المدينة المختلفة شاءت الصُّدفْ أن أتجول بشارع رئيسي يربط شرقي المدينة بغربها عبر أحد الجسور هنا ، وقد هالني المنظر حينها وهو ما شدّني لأكتب هذه السطور، حيث انعدام أبسط معاني الآدمية .. فالمتسولون ربما بنفس عدد البائعين .. ومرتادي المقاهي والحانات لشرب الكحول والاستمتاع بالموسيقى فـ همُ أناس كثر والمكان يكتظ بالعشرات والرائحة لا تجعلك حتى تطيل النظر . وبذلك اليوم شاء القدر أن تمطر وحينها سقطت عيناي على أحد المشرّدين مبتور الساقين ويجلس على كرسي متحرك وهو يضع صندوق كرتون فوق رأسه ويمسك بعلبة فارغة (للتسول) .. لقد أفجعني بحق هذا المنظر الذي وصل إليه حال الإنسانية .. وكيف لنا أن نعيش بنفس المدينة وهؤلاء الآلاف لا يملكون حتى لقمة طعام واحدة ؟؟
إن جشع الأغنياء وبلادة الكثير من البشر في النظر إلى حال غيرهم من العامة هو ما أوصل الأمر إلى غير معالجة أو حتى تحسين في أوضاع هذه الطبقات الفقيرة والمعدومة ، وأوكرانيا ليست البلد الوحيد الذي يملك مثل هذه الحالات بل إنّ جميع دول الاتحاد السوفييتي السابق وشرق أوروبا عموماً تملك مثلها وربما أبشع .. لكن ما نتمناه بحق أن تعيد حكومات دول شرق أوروبا بحق سياساتها تجاه الطبقات المختلفة في المجتمع ، وأن تضع خططاً عملية وقابلة للنجاح من أجل تحسين حياة مواطنيها من ذوي الفئات المعدومة التي أنهكها ودمّرها المرض والفقر والعجز وسوء التعليم ، وبالتأكيد فإن مؤسسات الأمم المتحدة ورعاية الطفولة مطالبة هي الأخرى بمراقبة شديدة على سياسات الدول في التعامل مع حقوق الإنسان والطفل في ( المأكل والمشرب والملبس والمسكن والتعليم والنظافة والصحة .. الخ ) .
د. احمد يونس / أوكرانيا