%D9%85%D8%AC%D9%8A%D8%AF أوكرانيا

الفراغُ الايديولوجي المُدمِّر……. سوريا مثالاً

قراءة نقدية من منظارٍ جديد… وحقائقُ مُغيَّبة لمن لا يزال غيرَ مُدرِكٍ أنَّ الفكر أهمُّ من المال والسِّلاح

 مجيدبقلم: عبد المجيد عقيل

 قبلَ كُلِّ شيء وحتّى لا نظلُمَ القارئ بمصطلحاتٍ يتعذَّرُ عليه فهمها، وجب علينا التوضيح لكي تصل الفكرة للجميع: ما معنى كلمة ايديولوجيا..؟!!

الإيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار المُنظّمة التي تنسجم وتتشابك مع بعضها البعض لتشكيلِ رؤيةٍ شاملة ومتماسكة ومنهجٍ فكري متكامل للتعامل مع الحياة ومتطلباتها، بما في ذلك الحياة السياسية، فالحزب السياسي لا يقومُ على فكرةٍ واحدة مثلاً، ولا على مجموعةٍ من الأفكار الفوضوية المتناثرة البعيدة عن بعضها البعض، بل على مجموعة من المبادئ والأفكار والمنطلقات النظرية التي تنتج عقيدة سياسية واحدة آخر الأمر تصبح بمثابة الإمام والبوصلة الهادية لمن يتبنَّاها.

والاعتقاد الديني ايديولوجيا، لأن جل المعتقدات الدينية ناتجة عن تلاقح عدد هائل من الأفكار والعقائد المُصغَّرة، من الطروحات والتوجيهات الأخلاقية، إلى الشعائر التعبُّدية والروحانيات، إلى التصديق القلبي بأمورٍ غيبيَّة معينة، إلى رؤية تاريخية معينة يشترك بها أتباع هذا المعتقد الديني، إلى رؤية متكاملة للفرد والأسرة والمجتمع والدولة، إلى الأهداف والرؤى المستقبلية ومفهوم الخلاص، إلخ….

أعتقد أنَّ الأمر أصبح واضحاً لمن كان يجهله…

– والآن سوف أنتقل لسرد بعض الأمثلة والنقاط والملاحظات السريعة والعابرة ليفهم القارئ ماذا أعني بالفراغ الايديولوجي، بل سوفَ أذهبُ إلى ما هو أبعد من ذلك وأقول بأنَّ هذه النقطة التي غابت تماماً عن جميع محاولات قراءة المشهد وعن جميع المقاربات والتحليلات السياسية –التي وقعت تحت يدي على الأقل- تكادُ تكونُ العامل الأكثر أهميةً فيما وَصَلت إليهِ أوطانُنا اليوم..!

– عندما أتحدَّثُ عن الفراغ الايديولوجي، فإنِّي أصِفُ حالَ أجيالٍ كاملة تعلَّمَت منذُ أولِ يومٍ في المدرسة الابتدائية كيف تهتفُ صباحاً وتُردِّدُ شعاراتٍ لا علاقة لها بواقعها ترديداً ببغائياً.

أجيالٌ كاملة ردَّدت شعارات الوحدة والحريّة والاشتراكية دون أن تقف عندها حتَّى، أي دونَ أن تتشرَّبها ايديولوجياً، لأنها شعاراتٌ أصبحت بعيدةً جداً عن ظروف الواقع ومتطلبات المرحلة حتى لو أنَّ هذه الشعارات كانت تُعتَبَرُ شعاراتٍ ثورية لأولِ جيلٍ عاصرها مثلاً.

فأيَّةُ وحدةٍ هتفنا لها والتلميذُ في الابتدائيّة يعلمُ أنَّها طرحٌ طوبويٌّ بحكم صرامة الواقع، وأيَّةُ حُريّةٍ تغنَّينا بها ونحنُ مُكمَّموا الأفواه، مُكبَّلوا الأيادي، مُدمنون على الاستبداد الفكري، مُجمِّلونَ للتقليدِ والتبعيّة العمياء، مُبجِّلون للاستعباد، ومهادنون لواقعٍ يسودُ فيه الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي في كُلِّ مكان، من أصغرِ خليَّةٍ في المجتمع، إلى أعلى سلطة في الدولة، وأيَّةُ اشتراكيَّةٍ إلَّا الاشتراك في السرقة والنهب والواسطة والمحسوبية والفساد…؟؟!!!

– لقد نشأ جيلٌ منزوعُ الثقافةِ الوطنية بسبب غيابِ وجود ايديولوجيا وطنيّة أساساً، وهذا الفراغ الفكري هو من أخطر الأمراض التي قد يبتلي بها جيلٌ شاب وصاعد، بل هو كارثةٌ مدمرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأنَّ هذا الفراغ سوف يتم ملؤه بشيءٍ آخر..!!

– هنا يمكنني أن أوصِّف ثلاثَ فئاتٍ سوف يفرزها واقع الفراغ الايديولوجي هذا:

الفئة الأولى: هي الفئة التي سوف تهضم تلك الشعارات المُحنَّطة قسراً، وتتبنَّاها كثقافةٍ وطنية، وتُنظِّر لها، وتنادي بها، وهذه الفئة سوف تمارس الكثير من الكذب على الذات، وسوف تتعلَّم كيف تمارس هذا التكاذب بفظاظة، وسوف ينتج عن ذلك كنتيجةٍ طبيعية ثقافةٌ استبداديّةٌ إقصائيَّةٌ إلغائية وراء شعاراتٍ وطنيَّةٍ رنانة. حالةٌ من الارتكاسة السَّلفية السياسية كما أسميها سوف تؤسِّسُ تدريجياً لحالةٍ من الجمود القاتل واغتيال الوعي السياسي لشعبٍ كامل

الفئة الثانية: هي الفئة التي سوف تهرب من تلك الشعارات والنظريات السياسية إلى أحضانِ رجال الدين، وسوف تنتجُ حالةٌ غير صحيّة من التديُّن الشكلي. صحيحٌ أنَّ غالبية الشعب السوري بقيت منيعةً حتى فترةٍ ليست ببعيدة أمام الفكر السلفي المتطرف الداعشي، وكان التدين السائد هو “التدين الشامي المعتدل” كما اصطُلِحَ على تسميته، لكنني سوف أقتبس هنا ما كتبته على صفحتي على الفيسبوك منذ عدة أيام حول هذه النسخة من الإسلام التي سادت في بلادنا في العقود القليلة الماضية:

( الإسلام المعتدل والإسلام التنويري

 قد يكونُ هذا الرأي صادماً ولكن لابد من التفريق بين الإسلام التنويري الذي ندعو إليه و”الإسلام الشامي المعتدل” الذي عرفناه سابقاً في سوريا مثلاً، فنحن نرى أن “الإسلام المعتدل”:

– حاضنة ايديولوجية دافئة للإسلام السلفي المتطرف لأنهما يشتركان في نفس المنبع الفكري، والفارق هو في تساهل “الإسلام المعتدل” في تطبيق معظم الممارسات التي يطبقها الإسلام السلفي دون إنكار الأساس الفكري لتلك الممارسات، فمثلاً هذا الإسلام لا ينكر حد الردة ولا حد الرجم ولا بتر يد السارق ولا السبي والاغتصاب تحت عنوان ما ملكت أيمانكم، وتبقى هذه الأفكار سائدة في المجتمعات التي يسودها هذا “الإسلام المعتدل” بحيث تؤسس تدريجياً لحالة السلفية الدينية عند أول منعطف، وخاصةً عند غياب وجود ايديولوجيا أخرى مناسبة لظروف الزماان والمكان تملأ الفراغ الفكري للشعب

– و”الإسلام المعتدل” شكل من أشكال المهادنة أو أحياناً التحالف بين الإسلام السلفي المتطرف، وبين الأنظمة الاستبدادية حتى الغير دينية، لأن هذا الإسلام حتى في نسخته التي تبدو معتدلة يؤسس لثقافة التقليد والتبعية العمياء والطاعة المطلقة وعبادة أصنام البشر، أي يؤسس لثقافة الاستبداد بأفضل ما يكون، لكن هذا التحالف هو تحالف مؤقت لابد أن ينتهي بتكشير الإسلام السلفي عن أنيابه وظهوره كقوة مناوئة متمردة على النظام أو المحيط الذي احتواه

– و”الإسلام المعتدل” هو وجهٌ إعلاميٌّ وديعٌ باسمٌ بشوش يتصدر المشهد ليحمي وراءه الإسلام السلفي المتطرف الغير قادر على الاستمرار ومواجهة تحديات الزمن والمعاصرة. الإسلام المسمى بالمعتدل هو خط الحماية الأول للإسلام السياسي التاريخي السلفي وهو مندوب المبيعات الذي يعرف جيداً كيف يسوِّق بضاعته بدهاء

 وإن الإسلام الذي نريده اليوم هو ليس ذلك الإسلام المسمى بالمعتدل الذي عرفناه سابقاً، فلا يلزمنا اليوم إسلامٌ خانع ومُهادِن ومُقلَّم الأظافر و”درويش”، بل نريد إسلاماً ثورياً تنويرياً يقدِّس العقل، ويُعلي شأن الإنسان، ويؤسس لرؤية إنسانية عميقة ونهجِ تحرُّرٍ واعٍ. نحتاجُ إلى تحريرِ عقلٍ فقهي مبدع، يحرر عقل الأمة من قيود الخرافة، وعندها فقط يظهرُ عقلٌ عمليٌّ منتج وعقلٌ علميٌّ خلَّاق

 يجب أن ننظر إلى الأمام وليس إلى الخلف، وأن نبحث عن حلولٍ جذرية وليس عن مسكنات، وإنَّ الإسلام الشامي المعتدل لم يكن إلا حبّة “بانادول إكسترا” انتهت فاعليتها في زمن داعش..!)

نهاية الاقتباس.

الفئة الثالثة: وهي الفئة التي سوف تغوصُ في الفراغ الفكري، وتتأقلم معه وتدمنه، وسوف تظهر شريحة واسعة جداً من الشباب المتسكع في الشوارع. الشباب الفارغ الذي لا أسهل من إخضاعه لعمليات غسيل الأدمغة واستغلاله وتسخيره للتخريب والسرقة والقتل

 طبعاً هناك فئة رابعة هي الفئة التي تنفعل فقط بالواقع دون أن تحدث تأثيراً يذكر فيه، أي الفئة التي كل ما يهمها في الحياة أن تأكل وتشرب وتنام، وكل طموحاتها على مستوى المعيشة والغرائز ولا يهمها القضايا الإنسانية ولا القضايا الكبرى أو الأسئلة الجدلية العميقة، وهذه الفئة ليست صغيرةً أبداً، لكنها عموماً قابلة للتحول بسهولة إلى واحدة من الفئات الثلاثة السابقة، وخاصةً عند المنعطفات التاريخية والأحداث الكبرى حيث لابد حتى لأصحاب اللامواقف أن يتخذوا موقفاً، أما ما تبقى من هذه الفئة فيتم استغلالهم من قبل الفئات الثلاثة السابقة بكل سهولة..

– انطلق الحراك الثوري في سوريا وبدأت الحركة التظاهرية تتصاعد بشكلٍ متسارع، وانكسر حاجز الخوف، وبدا للبعض أنَّ الأمورَ ذاهبةُ نحو التغيير باتجاه الأفضل، إلى أن اصطدمنا بـ …….. غياب الايديولوجيا مرةً أخرى!

صيحات الحرية التي أطلقتها حناجر المتظاهرين مدويَّةً لا تكفي، ولا يُعوَّل عليها بأن ترسِّخَ واقعاً جديداً من الحريات أكثر مما كان يعوَّل على “حرية البعث” التي كنا نهتف بها في المدارس….. لأن شعار الحرية هذا هو شعارٌ أجوف من الداخل ما لم يتم التنظير لمفهوم الحرية ودراسة هذا المفهوم كمفهوم متكامل، وتطوير هذا الشعار إلى مفهومٍ نظري متكامل يرسخ ثقافة تحرُّرٍ لا تنفصل فيها الحرية السياسية عن الدينية، ولا حرية المجتمع عن حرية المرأة. لا يكفي أن تكون الحرية موقفاً سياسياً، بل يجب أن تكون قبل ذلك موقفاً أخلاقياً وإلَّا وقعنا في فخ الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير، وتخلصنا من الأغلال التي تكبل حريتنا لنستبدلها بأخرى…

لا يكفي أن نخرج إلى الشوارع ونقول: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”. هذا الشعار جميل ورائع وعظيم، لكن هل تم تدعيم هذا الشعار بترسيخ ثقافة المواطنة الحقيقية التي هي ترجمة فعلية لشعار “الشعب السوري واحد”…؟!!

أكادُ أجزمُ أنَّ الغالبية العظمى من الشعب السوري لا يعرفون ماذا يعني مصطلح “المواطَنة Citizenship”، ولا يمكن عزيزي القارئ أن تخرج إلى الشارع وتهتف بأن الشعب السوري واحد ثم تأتي لتقول بأنَّ سوريا يجب أن يحكمها “السُنّة” مثلاً لأنهم الأكثرية، أو أن تسمح لنفسك أساساً باستخدام مصطلح الأقليات، وهذا كله من البديهيات لمن يفهم ماذا تعني المواطَنة.

وبسبب إغفال هذه النقطة الخطيرة جداً، تم تجميد الحراك الشعبي عند الشعارات والأمنيات، وغابت الايديولوجيا، وغُيِّبَت الرؤية المستقبلية الواقعية والبنَّاءة، وسادت الفوضى…..

ثورةٌ لم تنضج ايديولوجياً نتيجتها الحتمية أن تموت أو تُسرَق…..

– وبدأ الشارعُ المنتفض يبحث عن قائد يوجهه، أو فكرٍ موحد يضبط حركته ويوجهها في المسار الصحيح، في ظل الفوضى العارمة التي تحكمه…

هل تذكرون الفئات الثلاث التي تحدثنا عنها..؟؟!!!

الفئة الأولى: تطورت واتخذت موقفاً إقصائياً إلغائياً متناهياً في الشوفينية السياسية، وسطَّحت الكارثة الإنسانية التي يمر بها الوطن لتلخصها بنظريات مؤامراتية وخطابٍ تخوينيٍّ قاسٍ ومستفز، واحتكرت الوطن لنفسها، وأبت أن ترى هذا الوطن إلَّا من زاويةٍ ضيقة جداً، فنتجت ظاهرة “التشبيح السياسي”

الفئة الثانية: وفي ظل بحث الشارع المنتفض عن قائد كانت هذه الفئة مهيئةً تماماً لتعلن ولاءها للعرعور وغيره من رجال الكهنوت المتطرفين. وعندما خرج العرعور ليدعو جمهوره إلى الدق على الطناجر كانت الرسالة واضحة: لقد تمت أسلمة الحراك…. بالمعنى السياسي المذهبي المتطرف طبعاً وليس بالمعنى الحقيقي لكلمة “إسلام”! هذه الفئة سوف تحتضن لاحقاً جبهة النصرة وتعتبرها من “أهم مكونات الثورة”، هذه الفئة سوف تتوسع شيئاً فشيئاً خاصةً مع تحول المشهد إلى شاشةٍ مصبوغة بالدماء، وسوف تفرش الطريق لداعش بالورود آخر الأمر.

الفئة الثالثة: وفي ظل الفوضى العارمة في الشوارع، وفي غضونِ فوضى التسلح، هناكَ أعدادٌ هائلة من الشباب الفارغ الذي ينتظر من يأخذ بيده ويوظفه في كل ما هو غير أخلاقي! هذه الفئة سوف تحمل السلاح إلى جانب هذا أو ذاك، لا يهم، وسوف تمارس التشبيح والتشليح والزعرنة والخطف والابتزاز وغيرها من الأعمال اللاأخلاقية!

– نحنُ اليوم على شفيرِ حربٍ طائفيةٍ مدمِّرة وحملاتِ تطهيرٍ عرقية وإثنية بربرية مخيفة، وهذا الواقع حسبما تشير المعطيات يتجه نحو التفاقم وليس نحو الحل، وإن كان هناكَ بعضٌ من الأملِ في الحل اليوم فهي حلولٌ تهادنية تفاوضية قد تؤسس في أفضل حالاتها لحالةٍ من السلام المؤقت، وإلى واقع شبيه بأمراء الطوائف في لبنان، وكل ذلك بسبب غياب وجود ايديولوجيا وطنية أو ايديولوجيا دينية تؤسس لمفهوم المواطنة وترسخه كثقافة مجتمعية يتم عليها إعادة بناء وترميم الهيكليات السياسية. لكن كيف يكون ذلك وما زالت النسخ السائدة من الإسلام حتى أكثرها اعتدالاً عاجزةً عن استيعاب مفهوم المواطنة…؟؟!!! وكيف يكون ذلك في الوقت الذي نجد فيه الطروحات الدينية التنويرية المُفعِّلة لحنيفية الإسلام وعالميته محاربة من قبل جميع الأطراف..؟؟!!! أين الايديولوجيا التي سوف توقف هذه الحرب الطائفية؟

– نحنُ اليوم على موعدٍ مع حالةٍ مستمرة من عدم الاستقرار ولا حتى بالحد الأدنى بسبب الصراع الفكري البيزنطي بين طروحات الإسلام السياسي والطروحات العلمانية، وسوف تستمر “قوى الإسلام السياسي” و”القوى العلمانية” في لعبة تبادل الكراسي ويضيعُ الشعب بين الاثنين، وتزداد حالة الاستقطاب نحو الإلحاد أو اللادينية المتطرفة من جهة والتدين السلفي المتطرف من جهة أخرى! أين هي الايديولوجيا التي يمكن أن تنبثق عنها بادرة حل تُذوِّبُ ذلك الخلاف الوهمي؟ (مقالي القادم حول هذه النقطة تحديداً لذلك لن أسترسل أكثر)

– أعتقد أنه بعد استيعاب هذه القراءة، ومناقشتها، لابد من أن نصل إلى نتيجة مفادها أن ما نفتقده اليوم هو ايديولوجيا جامعة تملأ الفراغ الفكري الناتج عن تصادم النظريات السياسية والدينية والاجتماعية السابقة وفنائها معاً بعد أن أصبحت في الوجدان الشعبي مرتبطةً بالمشكلة وليس بالحل، وهنا لابُدَّ من رؤيةٍ سياسيةٍ دينيةٍ اجتماعيةٍ متكاملة وجامعة وبعيدة النظر منبثقة عن تشخيصٍ دقيق للأسباب العميقة للمشكلة… وليس لأعراض المرض التي ظهرت في مرحلةٍ متقدمة منه!

– أي إنَّ ما علينا فعله اليوم كمثقفين برأيي الشخصي، أن نخرج من دائرة الانفعال والتفاعل الكثيف مع الحدث اليومي، والانسحاب من المشهد مؤقتاً لتأسيس ثقافة وايديولوجيا جامعة وواسعة (وقد تتفرع عنها ايديولوجيات فرعية وتنتج عنها أحزاب في المستقبل وليس حزب واحد) ويكون هذا التوجه بمثابة مبدأ أخلاقي ورؤية عقلانية وإنسانية قبل أن يكون مشروعاً سياسياً أو يقحم نفسه كطرف في اللعبة السياسية الحالية، فمشكلة هذه اللعبة ليست في أحد أطرافها بل في المسرح الذي يحتوي جميع هذه الأطراف. هذا المسرح يجب تفكيك بنيته ايديولوجياً قبل الانتقال للعمل السياسي، وهذا الأمر يجب أن يدركه جميع المثقفين

 لن تقف الحرب، ولن يقف الدمار، ولن يقف الموت، ولن يعم السلام ولا الأمان ولا الرخاء، إلَّا عندما ينسحب أحدهم من كل هذه الضوضاء ويخرج من المشهد متحرراً من الحصار ليبتعد ويبتعد ويبتعد ومن ثم يقوم بحركة التفافية دائرية تحيط بالمشهد كله وتحتويه وتحاصره فكرياً ووجدانياً، فيتفكك المشهد ويتلاشى مع كل شخصياته وأحداثه وأنظمته ويصبح جزءاً من التاريخ وتبدأ مرحلة البناء والازدهار

 وفي الختام أقتبس قصةً قصيرة كتبتها ونشرتها على صفحتي منذ فترة قصيرة أيضاً لأختم بها مقالي علَّها تساعد أكثر على إيصال الفكرة وتساعدني في أن أضرب على الوتر الذي تغافل كثيرون عن أهميته

(……..) قريةٌ صغيرة يحكمها زعيمان صنعا مجديهما من تجارة السلاح، وقد كان نصف أهل القرية يتبعون الزعيم الأول ونصفهم يتبعون الزعيم الثاني، وعاشت القرية في حالةٍ مستمرة من الحروب والموت والدمار نتيجة الصراع الدامي بين طرفي القرية

 وفي يومٍ من الأيام أمسك أحد العقلاء ورقةً وقلماً وبدأ بتسجيل الملاحظات التالية:

– هذان الزعيمان يسيطران على أتباعهما بنظريات دينية وأساطير ومفاهيم مغلوطة، ويستعملون تلك النظريات في تحريض الناس على بعضهم البعض، وكلاهما يستفيد من تطرف الآخر لكي يستطيع تحريض أتباعه وتعبئتهم نفسياً بشكل أكبر

– لو أمكن توفير الميزانية التي ينفقها الطرفان في تجارة الأسلحة وتم إنفاقها على التعليم لأمكن تحقيق نتائج مذهلة، لكن هذا الشيء ليس من مصلحة الزعيمين لأنهما رغم عداوتهما شريكان في تجارة الحرب، وشريكان في مشروع تجهيل الناس.

– الزعيمان تمكنا من تنصيب أنفسهما فرعونين بسبب ثقافة اجتماعية ودينية وسياسية كرست لثقافة الاستبداد والتبعية، وبالتالي لابد من تفكيك أساسان وقواعد هذه الثقافة الاستبدادية

 وبعد أن سجل هذا الرجل العاقل ملاحظاته بدأت هذه الأفكار تنتشر وبدأ يتشكل رأي عام لا ينظر للصراع الحاصل بين طرفي القرية إلا على أنه “عوارض المرض”، ومن ثم بدأت تتشكل رؤية شاملة مستنبطة من تشخيص المرض وأسباب نشأته، وأثمرت هذه الرؤية عن شيء هو أشبه بحزب، لكنه في الواقع ليس إلا موقفاً أخلاقياً وقف من الصراع السياسي ليس موقف الطرف المشارك بل الضوء الكاشف، فأصبح بمثابة بوصلة للناس، وبدأ الناس يهتفون ليس ضد أحد الطرفين بل ضد تجارة السلاح، ويثورون ليس على أحد الزعيمين بل على كل ما يمت للاستبداد بصلة أو يؤسس له بأي شكل من الأشكال، وبدأ وعي الناس يزيد تجاه بعض الأساطير والروايات التاريخية التي حرضتهم على بعضهم البعض، فلمَّا نبذوها وتخلصوا منها زالت الفوارق وأدركوا كيف استغلهم زعماؤهم، وعندما سقط فكر الاستبداد وجد كُلٌّ من الزعيمين نفسه محاصراً حتى في بيته ومن قبل زوجته وأطفاله

 هذه قصة الثورة التي لم تبدأ بعد لكنها تولد اليوم من حيث لا يحتسب أحد

“الثورة على واقع معين يتطلب ثورة على الأساسات التي شكلت هذا الواقع وليس على مفرزات هذا الواقع والدمى التي تشغل أدواراً معدة سلفاً”

فهل من مُعتَبِر…؟!!

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …