للكاتب الدكتور سعيد ابو عباه
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) (الحجرات :13)
أقام الإسلام نظاما دبلوماسياً متطوراً. فقد تمكن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من جمع أوصال متفرقة ومتناحرة من القبائل العربية لم تكن هي الأخرى قد عهدت نظاماً دولياً كما هو الشأن بالنسبة للدول القائمة في ذلك الوقت، كالدولة الرومانية والدولة الفارسية. وقد تمكن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يستحدث دولة بنظام قانوني داخلي ودولي يضاهي الدول المعاصرة له.
ولما كان الإسلام جاء بأحكام تفصيلية، فإن نشرها يتطلب الفهم والإدراك والتعمق في معرفة أحكامه من قبل المخاطبين به. وقد وضح الإسلام الوسائل الدبلوماسية في إيصال محتوى الإسلام الى المخاطبين به بسهولة ويسر. وبناء على ذلك فقد اتجهت مخاطبات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الى الأمم المتطورة التي شهدت أدياناً سماوية ومؤسسات دينية. ولم يبدأ بالأمم المتخلفة التي لم تعرف الأديان. ولهذا فقد بدأ النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) بمخاطبة الملوك والأمراء وشيوخ القبائل التي وصلت مرحلة متقدمة من الإدراك والوعي لفهم الدين الجديد ومعرفة أحكامه كما أنزلت.
لم يستخدم فقهاء الشريعة الإسلامية مصطلح الدبلوماسية، ويطلقون على القواعد التي تنظم العلاقات الدبلوماسية في وقت السلم وإرسال الرسل واستقبالهم بقواعد السير. فيقولون السيرة النبوية أو كتاب السير. وهي تعني سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) الراشدة أو قيادة حكيمة أو تصرفاً كريماً في السلم والحرب، مع الأصدقاء والأعداء، وأخلاقه ومعاملته لأصحابه وكياسته للرسل ، واختياره للرسل وعلمه وعدله ورحمته. والذكاء والخبرة التي يتمتع بها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في أسلوب نشر الإسلام ومدى تأثير شخصيته في إدارة علاقات الإسلام الدولية، في زمن السلم والحرب، واختياره الرسل لحمل رسائله للملوك وشيوخ القبائل. وكيفية استقباله الرسل وطريقة التفاوض معهم ومنحهم الامتيازات والحصانات الدبلوماسية، وعقد الصلح والهدنة والتحالف مع الآخرين وتسوية المنازعات بالوسائل السلمية، وتبادل التهاني والتعازي وقبول الهدايا وإرسالها لمن يراه اهلاً لها. واختياره الولاة والقضاة في المدن الإسلامية ودور النبي في إدارة العلاقات الدبلوماسية في وقتي السلم والحرب والعلاقة مع الأعداء “دار الحرب” والعهد من المستأمنين وأهل الذمة.
ويظهر أن مصطلح السير في الفقه الإسلامي أوسع بكثير من مصطلح الدبلوماسية اليوناني المستخدم حالياً. فالسير تعني إدارة سياسة الدولة الداخلية والخارجية، بينما تعني الدبلوماسية إدارة سياسة الدولة الخارجية ولا تشمل إدارة سياسة الدولة الداخلية.
ولما كان القانون الدولي العام مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الأشخاص القانونية الدولية في وقتي السلم والحرب، فإن فقهاء الشريعة الإسلامية يطلقون على هذه القواعد “بالسير والمغازي”. فالسير تلك القواعد التي تنظم العلاقات في وقت السلم أما المغازي فهي القواعد التي تنظم العلاقات في وقت الحرب. وهي القواعد التي يجب تطبيقها في وقت الحرب.
وقد استخدمنا مصطلح الدبلوماسية لأنه المصطلح المعمول به بين الدول الإسلامية، من اجل أن نقرب الموضوع الى القارئ العربي الذي ألف هذا المصطلح في تعمله اليومي. كما ويقابل مصطلح الدبلوماسي الوارد في اللغة اليونانية مصطلح “الرسول” في اللغة العربية.
إن الفقه الدولي يسند تطور المراسلات الدبلوماسية الدولية في الوقت الحاضر الى ما توصلت إليه الدول الأوروبية ابتداء من القرن الثامن عشر، خاصة منذ مؤتمر فينا عام 1815. متجاهلين ما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من قواعد دبلوماسية في المراسلات الدبلوماسية التي تفوق ما توصل إليه المجتمع الغربي في الوقت الحاضر. فقد اعتمد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إرسال المذكرات الدبلوماسية وكانت الوسيلة العامة للعلاقات الدبلوماسية للملوك والأمراء وشيوخ القبائل وهو ما يعبر عنه في الوقت الحاضر بالبعثات الخاصة، التي تتحدد مهمتها في إيصال المذكرات وشرحها للمرسل إليه.
وقد اختار النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رسله الذين تولو حمل المذكرات ممن يتصفون لهذه المهمة بغض النظر عن أسبقيته في الإسلام وشجاعته وتضحيته، وإنما ممن تتصف فيه صفات الدبلوماسي ويتكلم أولاً بلغة القوم الذين بعثهم إليهم ويملك القدرة على إيصال المطلوب وشرح مضمون المذكرة الدبلوماسية.
ولقد سجل التاريخ أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أرسل مبعوثيه الى كل من: النجاشي ملك الحبشة والمقوقس ملك مصر وهرقل إمبراطور الروم وكسرى ملك الفرس وأسقف نجران وزعماء يهود خيبر وملوك عمان والبحرين واليمن، بالإضافة الى مجموعة أخرى من زعماء القبائل المتفرقة في شبه الجزيرة وأطرافها.
وقد اهتم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بالمعاهدات الدولية فعقد العديد من المعاهدات مع العديد من الدول والقبائل. وقد وضعت الشريعة الإسلامية أحكاماً لتنظيم المعاهدات قائمة على الإنسانية وإحقاق الحق. وعدت الوفاء بها يرتب اجر عظيماً. لقوله تعالى:( ومن أوفى بما عاهد عليه لله فسيؤتيه أجراً عظيماً). وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم محاربة الذين ينقضون عهدهم. لقوله تعالى:( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون). وقد منح النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) العهود وهي التزام دولي يمنح من قبل طرف واحد. فإذا قبله الطرف الآخر أصبح معاهدة ملزمة للطرفين. وقد سجل التاريخ الإسلامي أن النبي محمد (صلى اله عليه وسلم) قد عقد العديد من المعاهدات منها: المعاهدات مع أهل المدينة، ومعاهدات حسن الجوار، ومعاهدات صلح الحديبية.
وعرف الإسلام نظامي اللجوء الإقليمي واللجوء السياسي وطبقهما النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وان اختلفت تسميتها. وكان للجوء الإقليمي السياسي الدور الكبير في حماية المسلمين من الاضطهاد الذي تعرضوا إليه من المشركين في مكة، وكان من اللاجئين النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)الذي لجأ الى يثرب ولجوء عدد من الصحابة الى الحبشة.
كما دعا الإسلام إلى الوسائل الدبلوماسية لتسوية المنازعات الدولية كالحوار والجدل والمساعي الحميدة والوساطه. ومارس النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) التحكيم في المنازعات، وظهر في الإسلام أول مرجع للولاية الإلزامية. عندما تركزت السلطة بيد النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) والولاة والقضاة الذين عينهم في المدن التي دخلت الإسلام. كما شهد القضاء الإسلامي الفصل بالمنازعات التي تحصل بين المسيحيين.