بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد
العلاقات الدبلوماسية في عهد الدولة الإسلامية العثمانية
الكاتب الدكتور سعيد أبو عباه
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) (الحجرات :13 )
تعرضت الحضارة العربية الإسلامية لانتكاسة على يد الجيش التتري بقيادة ” هولاكو ” عام 1258م، الذي احل الخراب في مدينة بغداد ووضع نهاية مؤلمة للدولة الإسلامية العباسية التي كانت بغداد عاصمتها. فلم يعد هناك مجالاً للتحدث فيه عن الدبلوماسية في الفترة اللاحقة للحكم العباسي لاستمرار احتدام الحروب والاضطرابات الداخلية، حيث اتجه هولاكو وأحفاده من بعده إلى محاولة تصفية الحضارة العربية الإسلامية التي سادت قيمها الإنسانية والأخلاقية العالم كله آنذاك.
وكان الأتراك اعتنقوا الإسلام في عهد الدولة الإسلامية العباسية وكان نفوذهم واضح على سياسة الدولة الإسلامية العباسية. وتولوا مناصب مهمة فيها. واستطاعوا أن يؤسسوا دولة في آسيا الوسطى وتوسعوا على حساب الدولة البيزنطية وتمكنوا من فتح القسطنطينية في عهد الخليفة محمد الفاتح وأصبحت عاصمة الدولة الإسلامية العثمانية. واستطاع الخليفة محمد الفاتح أن يفتح مناطق مختلفة من أوروبا شملت البوسنة والبانيا والهرسك.
وعلى الرغم من اتسام علاقات الدولة الإسلامية العثمانية الدولية بالحروب والفتوحات فقد أقامت علاقات دبلوماسية متطورة وعقدت معاهدات عديدة مع الدول المجاورة.
فقد تمكن الخليفة محمد الفاتح من التقدم لفتح البندقية فانزل بجيشها الهزيمة. واضطرت البندقية إلى عقد الصلح وعقدت معاهدة 1479م التي وافقت فيها أن تدفع للخليفة العثماني مبلغاً كبيراً كتعويض عن الحرب وضريبة سنوية مقابل تنازل الخليفة عن السيطرة على عدة مدن قام بفتحها.
ويعد الخليفة سليمان القانوني من أهم خلفاء الدولة الإسلامية العثمانية، وقد نشبت في عهده العديد من الحروب مع أوروبا وتقدمت جيوشه لمحاصرة النمسا. مما دفع ” فريناند ” إمبراطور النمسا إلى عقد صلح مع سليمان عام 1523واعترف له فيه بالسيادة على المجر.
وعقد الخليفة سليمان معاهدة صداقة مع فرانسو الأول ملك فرنسا في عام 1536 ليتعاونا سوياً ضد شارل الخامس. وقد توطدت الصداقة بين الدولة الإسلامية العثمانية وفرنسا وقامت أساطيلها بهجمات مشتركة على ثغور ايطاليا واسبانيا ووصل التعاون البحري بين الدولتين إلى درجة أن فرنسا في شتاء عام 1543م وضعت ميناء طولون الفرنسي تحت تصرف خير الدين وسفنه ورجاله ليجعل منه قاعدة بحرية يشن منها الهجمات على أساطيل شارل الخامس. ونجح العثمانيون في السنوات التالية من طرد قوات شارل الخامس من ثغور شمال إفريقيا.
وقد مرت الدولة العثمانية بمرحلتين:
الأولى وهي مرحلة التوجه العثماني نحو فتح أوروبا
والثانية التوجه العثماني نحو الشرق وتوسيع الدولة الإسلامية العثمانية لتشمل الوطن العربي.
وبالنظر إلى أن الوطن العربي قد خضع للدولة الإسلامية العثمانية 1530-1914 لذا فقد طبق عليه ما طبق في الدولة الإسلامية العثمانية من علاقات دبلوماسية ومعاهدات عقدها العثمانيين مع الدول الأخرى.
ونظراً لاتساع الدولة الإسلامية العثمانية وتطور علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الأخرى عقد العثمانيون العديد من المعاهدات مع الدول الأجنبية كان في مقدمتها معاهدة عام 1535 مع فرنسا في عهد الخليفة سليمان القانوني ألزمت فيها الدولة الإسلامية العثمانية بمنح فرنسا امتيازات متعددة وخاصة في شؤون القضاء. حيث يكون لممثل فرنسا الولاية الكاملة في مقاضاة الفرنسيين في المناطق الخاضعة للدولة الإسلامية العثمانية في القضايا المدنية والجزائية وصلاحية تنفيذ الأحكام الصادرة من محاكمها في صورة محاكم خاصة يطلق عليها “المحاكم القنصلية “. أما إذا كان احد أطراف الدعوى من رعايا الدولة الإسلامية العثمانية فان الدعوى تخضع لمحاكم خاصة في الأستانة.
وقد أقام الفرنسيون علاقات دبلوماسية مع الدولة الإسلامية العثمانية فكان لهم سفيراً في الأستانة وهو “دي جرميني”. وفي عام 1583 عينت بريطانيا ” هاربون” سفيراً لها في الدولة الإسلامية العثمانية واستقبله الخليفة مراد الثالث استقبالا حافلا. وقد بعث السفير البريطاني بالقناصل إلى القاهرة والإسكندرية والقدس ودمشق وحلب وطرابلس. وانشأ القياصرة الروس قنصليات لهم في عدد من المدن العراقية في القرن التاسع عشر، فعين “كروجلر” عام 1897م قنصلاً روسياً في بغداد.
وكانت الدولة الإسلامية العثمانية قد أقدمت على حصار “فيينا” للمرة الثانية على التوالي عام 1683، ولكنها لم تظفر بالنصر التي كانت ترنو إليه، وكان هذا العام هو التاريخ الذي أوحى بانغلاق باب الظفر للدولة الإسلامية العثمانية ضد الغرب الذي ذاق ويلات الهزيمة عل يد الدولة الإسلامية العثمانية، لعقود طويلة.
بعد تكبد الدولة الإسلامية العثمانية عددًا من الهزائم المتوالية، واضطرارها للانسحاب من بعض الأراضي الأوروبية، رأى الصدر الأعظم المحنك “إبراهيم باشا” وجود حاجة ماسة لإرسال سفراء عثمانيين للدول الأوروبية، لإدراك الأسباب التي حولت الغرب من مهزوم أمام الدولة الإسلامية العثمانية إلى هازم لها، وأرسل “إبراهيم باشا”، عام 1720، السفير “محمد شلبي” إلى باريس، وبذلك صار “محمد شلبي” أول سفير عثماني في التاريخ.
ولم يكتفِ “إبراهيم باشا” بإرسال “محمد شلبي” إلى باريس، بل قام، عام 1723، بإرسال “محمد أغا” إلى موسكو، وفي عام 1730 أرسل “مصطفى أفندي” إلى فيينا، وفي نفس العام أرسل “محمد أفندي” إلى بولندا.
ويُذكر أن سفير فرنسا لدى الدولة الاسلامية العثمانية، في تلك الحقبة الزمنية، “مورقس دي بوناك”، المعروف بصداقته الحميمة مع إبراهيم باشا، هو من أشار عليه بضرورة إرسال سفير على مستوى رفيع من الخبرة للإسهام في إحضار مواد فكرية وتكنولوجية تساهم في تطوير الدولة العثمانية من اوروبا.
وعلى هذا الأساس وقع الاختيار على “محمد شلبي”، لما تمتع به من صيت واسع في المجالين العسكري والدبلوماسي. انطلق “محمد شلبي”، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 1720، من إسطنبول متجهًا نحو باريس، وبرفقته 40 موظف متنوعي الاختصاص، ووصلت الهيئة الدبلوماسية برئاسة “محمد شلبي” إلى باريس في الواحد وعشرين من أكتوبر، واستقبلتهم السلطات الفرنسية بحفاوة.
وأوضح إبراهيم باشا للسفراء المرسلين أنهم ليسوا بصدد إقامة علاقات جيدة بين الدولة الإسلامية العثمانية والدول الأوروبية، بل أن مهمتهم الرئيسية هي إعداد تقارير متعلقة بكافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية للدول الأوروبية، وإرسالها إليه بشكل دوري كل شهر.
لقد كانت الحكومة الإسلامية العثمانية في الأستانة بصورة عامة تعترف للمبعوثين الدبلوماسيين الذين تعينهم دولهم كممثلين لها في بغداد ببعض الامتيازات والحصانات كما يظهر ذلك من الأوامر الخاصة بقبول اعتمادهم. ومن هذه الامتيازات ما يأتي:
-1 أن ترفع البعثة الدبلوماسية علم دولتها.
-2 الإعفاء من الضرائب المفروضة على البضائع التي تجلب معهم ومن الضرائب المحلية .
-3 التمتع بالحصانة الجزائية القنصلية.
-4 صيانة شخصية المبعوث الدبلوماسي وعدم الاعتداء عليه.
ولقد منحت الدولة العثمانية الامتيازات القنصلية لرعايا الدول الأجنبية في الأراضي الاسلامية العثمانية طبقاً لاتفاقيات عقدت لهذه الفرض. وقد ساهمت هذه الاتفاقيات التي عقدتها الدولة الاسلامية العثمانية مع الدول الأوروبية في إضعاف الدولة الاسلامية العثمانية من خلال تثبيت الوجود الغربي في الدولة الاسلامية العثمانية وتفتيتها من الداخل. فأصبحت الممثليات القنصلية محاكم يلجأ إليها رعايا الدولة الاسلامية العثمانية لتسوية مشاكلهم. مما جعلها تتدخل في شؤونها الداخلية .
ان زيادة البعثات الدبلوماسية للدول الأوروبية في الدولة الإسلامية العثمانية كانت هذه نقطة مفصلية في تاريخ الدولة الإسلامية العثمانية، حيث استغلت الدول الأوروبية العلاقات الدبلوماسية في حياكة المؤامرات ضد الدولة الإسلامية العثمانية، وبرزت هذه المؤامرات من محاولة الغرب اغتيال وعزل الخلفاء العثمانيين الذين لا يروقون لهم ولمصالحهم، وتمكنوا من إحراز نجاح في عدد من هذه المحاولات. واستمر التدخل الأوروبي السافر في الشؤون الإدارية للدولة الإسلامية العثمانية، حتى انهيارها عام 1923. حيث دخلت الدولة الإسلامية العثمانية الحرب العالمية الاولى وخسرت الحرب وتوزعت ممتلكاتها على الدول المنتصرة بموجب معاهدة لوزان عام 1923م.
خلاصة القول إن الدولة الإسلامية العثمانية نشأت على الروح العسكرية والجهادية والفتوحات ونشر الدعوة الإسلامية , وهي الصبغة التي اتسم بها خلفاء بني عثمان وجنودهم في الجيش الإسلامي العثماني , إلا إنها لجأت إلى المناورات السياسية ( الدبلوماسية) جنبا إلى جنب مع الإجراءات العسكرية بعد ان مرت بمرحلة الضعف لذلك نجد إن لغة السلاح قد انخفضت وعلا صوت الكلمة الهادفة(الدبلوماسية في نهاية القرن الثامن عشر ومنصف القرن التاسع عشر .
ومن أهم الأسباب التي دفعت الدولة الإسلامية العثمانية إلى انتهاج تلك السياسة هو الانقلاب في موازين القوى دوليا ولا سيما بعد إن مرت الدولة الإسلامية العثمانية في مرحلة الضعف والانهيار.
قلقيلية -فلسطين