مشلين بطرس / تنقيباً عن لآلئ مضيئة ينبض بها فكر الإنسان، جاء ديوان الطوفان للشاعر الدكتور نزار بريك هنيدي، ففتح كوناً إبداعياً جديداً، بدأه بقصيدة الطوفان التي تعددت فيها أساليب الشعر من ضمير المتكلم إلى الغائب انتهاءً بضمير المخاطب ، ففاضت منها الكلمات الصوفية المفعمة بالحكمة التي تمخر عباب البحار بحثاً عن الحقيقة عن طريق تعرية الخرافات وتعرية العدم على أنه حقيقة الوجود.
فيستخلص القارئ عدمية الحياة من الطوفان التي تحثّ الإنسان بألا يكترث للطوفان أو العدم، لأن ماقبل العدم عدم ومابعده عدم، وهل لنا شأن في ذلك، لذلك علينا ألا نستسلم وألا نيأس لأن الحياة أقوى (فمن ينصت لصحراء الروح، إلى خفقات جناح يعبر فوهة البركان) (فصحراء الروح) هي تركيب فني يجعل القارئ يعيد التفكير بالروح، أهي فعلاً صحراء جرداء أ م أنها شيئ آخر أفضل من ذلك؟؟؟ (فالبرغم من التيه المتلاطم حول سفينته مازال يلوح بالأغصان) وهنا تتفجر الكلمات بالأمل الذي يتمخض في جوف الألم معلناً ولادته.
(فإلامَ تغطي الشمس بمنديل مثقوب لم تسكب دمعاتك فيه، ولم تمسح عن جلدك ما خطته عليه أشواك الحرمان) وهنا صورة تشدد الإضاءة على حقيقة الحياة التي يحاول الإنسان طمسها، لكنها (صورة ليس لها سوى أوراق النعي على الحيطان) واقعية مقتطعة من شاشات الجدران التي تبث لنا يوميات الموت الا متناهي.
(أم أن عرائسك ملت لعبتك فانطلقت تتقرى عريك المسفوح على صمت الجدران) إنه إيغال في عمق الفكر الذي ينتزع القناع عن وجه الحياة العبثي، ويفضح عريها مخاطباً الراعي الذي مازال مصراً على (ممارسة دوره بالرغم من أنه سجين زنزانته التي عشش فيها الشك فأخذ يسبح في ملكوت الورد، متوارياً بين حروفه، يلتفت إلى الخلف ولايستقبل صبحه إلا ملتحفاً بالليل) لينهي الشاعر قصيدته ب سيان سيان، ضميني عاودني الرجفان، لتعود الحياة إلى صراع سرمدي جدلي مع العدم، فتتفجر مكامن الحياة من قصيدة القيامة التي ( أعلنت فيها هوليود تنديدها باختلاجة أرجل الدرّة) الذي كان موته ضرورة لابد منها ليقوم الوطن، ويهمي القلم بزلزال زعزع جسد العالم بلغة مؤثرة تسأل الشهيد هل أنت من لحم ودم؟ فتبكي كلماتها فرحاً يحتفي باستشهاده، لترقص حروف الشعر ألماً على موته، فيرتدي الإنسان ثوب الأشجار الصامدة أمام أية ريح عاتية تحاول زعزعته في قصيدة شجر يرتدي العاصفة التي تتوشح فيها أسئلة تطرق باب الوجود والدهر وتسأل (العمر عن ماهيته التي لاتكون إلا في محيط الهوى مركباً) ليرسل (إيقاعاً مكتوماً يمشي خطواته على إسفلت بارد في شارع مصباحه الأعنى يفصج عن قصيدة خطوات الليل الذي يتكسر تحت رنين الحذاء) فتشعر الكلمات بوحاً ليلياً بإيقاع يعزف على أوتار التداعيات الحالمة، التي ( حملت رؤى الشاعر على كتفيه مثل همزة قطع على ألف توجته الحروف بشوك البداية) في قصيدة كان الطريق يميل التي (علقت راية عشق الشاعر على سرة الكون) فكان حبه شعلة متقدة تنير دربه، لكن غدر الزمن يلعب دوره منذ التاريخ (فالضباب يعمي عيون رفاقه وأهله، بالرغم من الدهر المنصرم عن أهل الكهف الذي مازالوا يغطون في وهمهم) فالمجتمع مازال يغفو على وسادة العادات والتقاليد التي تسقيهم الخنوع والركود، (فلاشيئ غير الدخان يلوح لي يقول الشاعر، ولاشيئ غير السراب يختالني في فضاء النعاس لقد تكسرت أمواج حبه على صخرة المستحيل في زمن يميل وطريق ينحدر) لذلك يطلب الشاعر من غدر الزمن أن يبتعد عنه لأنه لم يكمل قصيدته في قصيدة (تلويحة وداع الشاعر) التي جعل فيها الشاعر إلهاً (مازال لديه كثير من صلصال الحب لينفخ فيه، على ينبوع الياقوت المتفجر تحت خطا قدميه) فدعوا النبي يكمل رسالته ولاتقتلوه،(دعوه يحلّق في ملكوت الروح) فهو ملاك يزهد فيما تشتهون، ويأبى أن (تأكل حروف شعره من خبز السلطان) ويرفض أن تصادر ذاكرته أو ترتهن مبادئه، إنه يحمل صليبه فلا تسطوه بجهلكم، فلولاه لما كان للحياة لون ولا للورد عطر.
إنها بالفعل قصائد محا فيها الشاعر حدود الزمان والمكان، فجاءت في مستوى فكري وثقافي عالي، ضخ حداثة الشعر في البنية الدلالية للقصائد، بسيل من الكلمات التي ابتكرت إيقاعاً تشظت على نغماتها ميثولوجيا الحياة الباحثة عن انطولوجيا الوجود