ترجمة: عبـد القادر الجـنابي / في عام 1926، صدر للشاعر والنحوي جيورجي شنغيلي (1894-1956) كراس عنوانه ” Как писать стихи ” ،”كيف يُكتب الشعر” ، Kak pisat’… stikhi “، ليساعد العمال على انتاج صحف جدارية أدبية تحترم قوانين الأدب، فمثلا يوصيهم بأنه “لا يمكن خلط بحور في قصيدة وإنما ان يجب أن تُكتب وفق بحر واحد”، فردَّ مايكوفسكي عليه بكراس عنوانه:” Как сделать волосы “، ” Kak delat’ stihki “، “كيف يُصنَع الشعر، فغيّر كلمة “كتابة” إلى “صناعة” مع الاحتفاظ ، معبرا عن حاجة المجتمع السوفياتي الوليد إلى الانتاج والصناعة، وهي تتوافق مع دعوات فناني وشعراء منتصف العشرينات إلى فن انتاجي يتماشى والعملية الانتاجية للاقتصاد الاشتراكي الجديد، دعوات لخصها مايكوفسكي بشعاره: “الشعر فن الانتاج”!
جاء رد مايَكوفسكي على شكل حديث موجه إلى العمال هؤلاء… غير منتظم، ويكاد يطفر من فكرة إلى فكرة أخرى. وقد ابتكر في رده عبارة جديدة ألا وهي “الفرض الاجتماعي” ويقصد فيه الواجبات الذي يفرضها المجتمع الجديد؛ واجبات تتطلب تلبيتها لكن ليست على حساب الإبداع وحرية الكاتب، أي دون ربط الأدب بالسياسة كما سيصبح دارجا في أوج الستالينية والجدانوفية. كما أنه من الواضح أن مايكوفسكي يؤكد على دواميّة زخم الحركة المستقبلية التجريبي، ويرفض في الوقت ذاته جانبها البوهيمي. كما أنه يستعين، في أكثر من مكان، بتقنيات الشكلانيين الروس التحليلية.
يتضمن كراس مايكوفسكي صفحات سجالية مع كتاب مجهولين، من الصعب ترجمتها من دون وضع إشارات تفصيلية لها حتى تفهم، ومقاطع طويلة مبنية أساسا على مناقشة مسائل تتعلق بالإيقاع والسجع والقافية، مما يستحيل ترجمتها إلى العربية. لذا قمت بترجمة المقتطفات التي تمثل لب ما كان يريد مايكوفسكي إيصاله إلى الشباب العمال الذين غيبوا فيما بعد في زنزانات الستالينية.
(مقتطفات)
خلال نقاشات أدبية عديدة، وأحاديث مع عمال شباب من جمعيات لغوية مختلفة، ومساجلات بحق النقاد، كان علي دائما، على الاقل؛ التقليل من (إن ليس تدمير) الفن الشعري القديم. من البديهي اننا لا نتعرّض كثيرا للشعر القديم، البريء من اي أذى؛ ولم يتلق الضربات إلا عندما كان يتخفى مدافعو القديم الغيارى وراء العظماء الجاثمين فوق نصبهم، ضد الفن الجديد.
على العكس، إننا، برفع أو بنقل النُصُب وزعزعتها، نظهر حقيقة العظماء، من وجهة يجهلها قراؤهم كليا ولم تدرس بعد.
الأطفال (والمدارس الأدبية الشابة) متشوقون لمعرفة ما في داخل الخيول الكارتونية. بعد عمل النقاد الشكلانيين، بتنا نعرف بوضوح ما الذي في داخل الخيول والفيلة الورقية. واعذرونا إذا الخيول، بعد هذه العملية، أصيبت بتلف صغير. أما بصدد شعر الماضي، فلا حاجة للشجار معه، فهو يصلح كمادة درس.
حقدنا الأساسي والمتماسك موجّه ضد النَقَدة البرجوازيين الصغار برومانسياتهم وانتقاداتهم؛ ضد هؤلاء الذين بالنسبة اليهم تكمن عظمة الشعر القديم في كونهم، هم أيضا، يحبون مثلما يحب اونيجين تاتيانا (قرابة فكرية)، وفي كونهم، هم أيضا، قادرين على فهم الشعراء (وقد تعلموا هذا في المدرسة الابتدائية)، وفي كون بحر الايامبي يدغدغ آذانهم. إن هذه الشعوذة السهلة تثير اشمئزازنا، لأنها تخلق، حول العمل الشعري الجدي، جوا من الرعشات الجنسية والغثيان، بل ترسّخ عقيدة مفادها أن الشعر الأبدي في مأمن من أي ديالكتيك، وأنه يكفي لانتاج أي عمل، رفع الرأس تظاهرا بمظهر المُلهَمين، بانتظار أن ينزل الشعر السماويّ على صلعتهم بشكل حمامةٍ، طاووسٍ او نعامة.
ليس من الصعب افحام هؤلاء السادة.
كل ما عليك القيام به هو مقارنة حب تاتيانا و”فن الغناء لأوفيد” مع قانون الزواج، أو قراءة قصة بوشكين عن “المغرور الذي اثاب عن اغتراره” على عمال منجم دونيتز، او الركض في مقدمة احتفالات واحد آيار مرددا الأسطر الأولى من “يوجين اونيجين” لبوشكين: “عمي، ذو المبادئ النزيهة…”
بعد تجربة كهذه، أشك في أن شابا متحمس الرغبة في تكريس قواه للثورة، سيحتفظ برغبة قضاء الوقت في امتهان المهارة الشعرية البالية.
كتَبنا وتحدّثنا الكثير عن هذا الموضوع. وغالبا ما حصّلنا على استحسان المستمعين الصاخب. لكن بعد الاستحسان، ثمة أصوات مشككة ارتفعت:
– إنكم لا تعملون سوى التدمير، إنكم لا تبتكرون أي شيء. إن المعاجم القديمة سيئة، لكن أين هي المعاجم الجديدة؟ اعطنا قواعد فنكم الشعري. اعطنا المعاجم!
الادعاء بأن الفن الشعري القديم موجود منذ 15 قرنا وفننا منذ ثلاثين عاما، ليس سوى عذر واه.
إنكم تريدون أن تكتبوا وأن تعرفوا كيف يُكتب الشعر؟ كيف جرى أن تُرفضَ قطعٌ مكتوبة حرفيا وفق قواعد شينغيلي العروضية، ثرية القوافي ومضبوطة وفق بحري الايامبي والتروكيه؟ عندكم الحق في أن تطالبوا الشعراء أن لا يأخذوا معهم إلى القبر أسرار مهنتهم.
سأتحدث عن مهنتي ليس كواضع قواعد وتعليمات، وإنما كصاحب خبرة. مقالي هذا ليس له أية قيمة “علمية”. أنا أتكلم عن عملي الذي، حسب ملاحظاتي وقناعاتي، لا أراه مختلفا عن عمل شعراء محترفين آخرين إلا قليلا.
أنبّه مرة أخرى، وبكل توضيح: لا أقدّم هنا قواعد يمكن لأي إنسان أن يصبح شاعرا، أو أن يكتب شعرا، بفضلها. قواعد من هذا النوع لا وجود لها. فشخص يسمّى شاعرا لأنه، بالضبط، يخلق القواعد الشعرية. وهذه للمرة المئة، أستخدم تشبيها أشعر بتعب منه، من كثرة ما استخدمه.
عالم رياضيات هو إنسان يخلق، ويطور ويحسّن القواعد الرياضيّة؛ إنسان يأتي بجديد في علم الرياضيات. فهذا الذي كان أول من صاغ “إن اثنين واثنين أربعة” لهو عالم رياضي كبير، حتى لو أنه حصل على هذه الحقيقة بإضافة عقِبي سيجارتين إلى عقبي سيجارتين. أما الذين جاءوا بعده، حتى لو اضافوا أشياء ضخمة بشكل لا يُضاهى، قطارات، مثلا، فهذا لايعني أنهم علماء رياضيات، أبدا. ما قلته الآن لا يقلل من قيمة عمل إنسان يضيف قطارات. فهذا العمل، في هذه الأيام حيث المواصلات في حال من الفوضى، يمكن أن يكون مئة مرة اكثر أهمية من حقيقة رياضية جرداء. لكن لا يجب ارسال تقرير عن إصلاح القطارات إلى جمعية الرياضيات طالبين منها ان تضعه في نفس رتبة هندسة لوباتشيفسكي. فهذا سيثير اعصاب لجنة التخطيط، ويدهش علماء الرياضيات، ويضع لجنة المقيِّمين في طريق مسدود.
هناك من يتهمني بأني أفتح عنوة أبوابا مفتوحة سلفا، وإني أتكلّم عن أمور واضحة لا تحتاج إلى إيضاحات. وهذا غير صحيح، أبدا.
ثمانون بالمئة من الهُراء المقفى ينشره رؤساء تحرير مجلاتنا فقط لأن هؤلاء الرؤساء إما ليست لهم ايّة فكرة عن شعر الماضي، أو لانهم لا يفقهون ما نفع الشعر.
لا يعرف رؤساء تحرير المجلات سوى “هذا يعجبني” و”هذا لا يعجبني”. إنهم ينسون أن الذوق هو حاسة علينا تطويرها. كثير من هؤلاء يشتكون إليّ من عدم قدرتهم على إعادة المخطوطة الشعرية إلى كاتبها لأنهم لا يعرفون كيف يبررون رفضهم.
فعلى رئيس تحرير المجلة المتعلّم أن يقول للشاعر: “شعرك سليم الوزن، ومنظوم وفق الطبعة الثالثة من “ميزان الذهب” الذي ألفه برودوفسكي (وكتب العروض التي وضعها شنغيلي وغريتش)، كما أن قوافيك قواف لاغبار عليها، بل هي حتى موجودة منذ زمن بعيد في “المعجم الكامل للقوافي الروسية” الذي كتبه ابراموف، لكن بما أنه ليس لدي حاليا شعر جديد جيد، فإني أقبل بنشر شعرك على الرأس والعين، وسأدفع لك المكافأة نفسها التي ندفعها عادة إلى مستنسخ حامل شهادة، أي 30 روبل لكل ورقة مطبوعة، شرط أن تزودني بثلاث نسخ منها”.
وها أن الشاعر لا يعود له أي اعتراض على ذلك. فإما يتوقف كلّيا عن الكتابة، أو يعدّل موقفه ويبدأ باعتبار الشعر قضيةً تحتاج إلى شغل كثير. مهما يحدُث، فإن الشاعر سيكف عن التعجرف أمام كاتب تقارير صحفية يعمل ويقبض حسب السطر حتى لو كان تقريره سبقا صحفيا. ذلك لأن الصحافي يبذل جهده ووقته ركضا وراء الفضائح والحرائق، بينما شاعر من هذا النوع لا يبذل سوى رضابه يبلل به أصابعه لتقليب معاجم علم العروض والقافية.
لذا ينبغي علينا، باسم الارتقاء بمستوى الشعر، وباسم ازدهار الشعر في المستقبل، أن نكف عن التمييز بين عمل سهل كهذا وبين أشكال العمل الإنساني الأخرى.
لكن، اليكم هذا التحفظ: إن خلق القواعد ليس غاية الشعر القصوى، إذ في حال كهذه سيتحول الشاعر إلى شارح كتب قديمة يتدرب على وضع قواعد لكي يعبّر بها عن أشياء ومواقف غير موجودة على الاطلاق أو أنها لا تجدي نفعا. اية فائدة يا تُرى في اختراع قواعد لعدّ النجوم، ونحن على دراجة بأقصى سُرعة؟
إن الحالات التي تحتاج الى صياغة أو قواعد، الحياة هي التي خلقتها. إن وسيلة الصقل، غرض القواعد، تحددهما ضرورات النضال الطبقي الملحة.
فالثورة، مثلا، طرحت في الشارع اللغة الخشنة التي يستعملها ملايين الجماهير؛ لغةُ الزقاق الشعبية راحت تتدفق خلال الشوارع الرئيسة؛ غمغمات المثقفين الواهنة وكلماتهم المخصية كـ”المثال الأعلى”، “مبادئ عادلة”، “المبدأ السامي”، “المحيا المتعالي للمسيح والدجال”، كل هذه التعابير المهموسة في المطاعم “الراقية”، قد تم كنسها. ذلك أن سيلا جارفا جديدا قلب اللغة رأسا على عقب. كيف نصيّرها شعريّة، وما عادت لا القواعد القديمة بـ”أقمارها وغزلها”، ولا البحور الاسكندرانية تناسب. كيف ادخال اللغة المألوفة في الشعر؟ كيف استخراج الشعر من دارج الأحاديث؟
أيجب أن نبصق على الثورة باسم بحر الايامبي؟
“أصبحنا أشرارا ، مستسلمين،
لا مخرج لنا
فاتحاد سكك حديد روسيا رسم سلفا لنا الطريق
بيديه السوداويتين” (اقتباس مايَكوفسكي لمقطع من شعر زينائيدا غيبيوس، ليس دقيقا، إنه نوع من المعارضة)
كلا. لا معنى لهذا؟ لا يمكننا اخضاع إيقاع الثورة الصاخب لنظام بحر خُلِق لما هو مهموس.
“أيها الأبطال، يا رحّل البحار، يا الباتروس
يا ضيوف مائدة الولائم الراعدة
يا قبيلة النسور، أيها البحّارة،
من أجلكم هذه الأغنية المجبولة من نيران ياقوت الكلمات” (كيريلوف)
كلا!
امنحوا، الآن فورا حق المواطنة للغة الجديدة: ليحل الصراخ مكان اللازمة، وضجيج الطبول مكان التهويدة:
“سر بخطوة ثوريّة” (بلوك)
“انتظموا مسيرة” (مايَكوفسكي).
ليس كافيا إعطاء عينات من الشعر الجديد، لاظهار كيف أن للكلام أثرا في الحشود الثورية؛ وإنما يجب أيضا تقدير هذا الفعل بطريقة تسهم في مساعدة الطبقة العمالية بأقصى ما يمكن.
لا يكفي أن نقول: “العدو يقظ، لا يَكِلّ” (بلوك). ينبغي تحديد وجه العدو بدقّة أو امكانية تصوره بالضبط.
لا يكفي أن “ننتظم مسيرةً”. يجب أن يتم هذا على الأقل وفق كل قواعد معركة الشوارع، باقتحام البريد، البنوك، المستودعات لكي تقع في أيدي العمال الثائرين.
من ثم:
“امضغ الأناناس
ازدرد القطاةَ
فها هو يومك الأخير أيها البرجوازي” (مايَكوفسكي)
أشك في أن الشعر الكلاسيكي كان يسمح لأبيات كهذه. ففي عام 1820، لم يكن غريتش يعرف التشاستوشكي (أغان شعبية روسية)، لكن لو كان يعرفها، لكان قد تحدث عنها مثلما تحدث عن الشعر الشعبي بازدراء حيث قال: “هذا الشعر خال من التفاعيل والتنغيم”.
لكن هذا الشعر قد تبناه أهالي بطرسبورغ. سيتمكن السادة النقاد، عندما يكون لهم متسع من الوقت، البحث وفق أي قواعد نُظِمَ.
التجديد لا غنى عنه لعمل شعري. فالمادة اللفظية والفقرات التي يصادفها الشاعر يجب ان يشتغل عليها ثانية ويطورها. فإذا استخدمنا حدائد لفظية عتيقة، من اجل كتابة قصيدة، علينا أن نهتم بأن تمتزج بتناسُب دقيق بالمادة الجديدة. فنوعية هذه المادة الجديدة وكميتها هما اللتان تقرران قيمة أُشابة (سبيكة) كهذه.
بطبيعة الحال، لا يفترض التجديد أن ننطق دائما بحقائق لم تُعهَد من قبل. ناهيك عن أن بحر الايامبي، والشعر الحر، والتجنيس السجعي، والردف… كل هذا لا يمكن استحداثه كل يوم. يمكننا أن نعمل على استمراريته، تعميقه، رواجه… “إن اثنين واثنين أربعة” لا تدوم ولا يمكن لها العيش بذاتها. يجب معرفة تطبيق هذه الحقيقة (قواعد التطبيق). يجب معرفة جعل هذه الحقيقة سهلة الحفظ (ايضا قواعد)، يجب اظهار بواسطة سلسلة من الوقائع على أنها لا تُفَنَّد (مثال، مضمون، ثيمة)
يُستَنتَج مما سبق بأن الشعر لا يقوم على وصف وتمثّل حقائق جرداء. بالتأكيد أننا في حاجة إلى هذا النوع من العمل، لكن يجب اعتباره كأي عمل تقوم به سكرتيرة في اجتماع جماهيري كبير حيث ليس اكثر من “الاجتماع بات له علم…” و”قررنا…” هنا تكمن مأساة “رفاق الطريق”، لم “يكن لهم علم” إلا بعد مرور خمس سنوات و”قرروا” متأخرا جدا، بينما الآخرون وضعوا قرارهم موضع التنفيذ وانجزوه.
الشعر يبدأ حيث هناك مَيْل.
بالنسبة إلي، هذا البيت:
“وحيدا أخرج إلى الطريق”. (ليرمنتوف)
نوعٌ من التحريض، فالشاعر هنا يحرض الفتيات على التنزه مع الشعراء. إن التنزه وحيدا مملٌ، كما تعرفون. آه، لو كانت هناك قصيدة قوية قوة النداء الذي يدعو الجماهير إلى التجمّع معا. كتب العروض القديمة بالتأكيد لم تكن دليلا. فهي لا تعالج سوى أساليب كتابية، مألوفة، ومدرجة سلفا في فهارس. في الحقيقة، يجب أن لا تسمى هذه الكتب “كيف نكتُب” الشعر وإنما: “كيف كنّا نكتُب” الشعر.
أقول لكم بكل صراحة: أنا لا أعرف لا بحر الايامبي ولا بحر التروكي… ولم اميّز بين تفاعيلهما قط ولن أبدا. ليس لأن الأمر صعب، وإنما لأنه لم يكن لي، في عملي الشعري، فرصة حتى أبالي بهذه الأمور. وإن وجدنا إيقاعاتها، في شظايا شعري، فإنها بكل بساطة التقطت عن طريق الأذن، لأننا نسمع هذه الصيغ المملة باطراد مثل: “نهبط بحر الفولغا…”
حاولت عدة مرات دراستها؛ فهمت الآلية، وسرعان ما نسيتها. أشياء كهذه التي تحتل مساحة تسعين بالمئة من معاجم العروض، لا تحتل سوى ثلاث في عملي الشعري. في التأليف الشعري، لا يوجد سوى بعض القواعد العامة لبدء العمل. وهي قواعد اصطلاحية. كما في الشطرنج، الحركات الأولى دائما هي نفسها. لكن ما إن قمنا بها، حتى نحاول ان نجد هجوما جديدا. ذلك أن الحركة العظيمة يستحيل تكرارها، في وضع مماثل، خلال الشوط التالي. فالغريم لا يُفحم إلا بحركة غير متوقعة.
كذلك بالنسبة إلى القوافي غير المتوقعة لقصيدة ما.
لكن ما هي الشروط الضرورية لبدء الكتابة الشعرية؟
أولا؛ وجود مشكلة في المجتمع بحيث حلها لا يمكن تخيله إلا بعمل شعري. طلب اجتماعي (هاكَ موضوعا مهما لاطروحة عن غياب العلاقة بين الفرض الاجتماعي والطلب المقرر سلفا)
ثانيا؛ ينبغي ان تكون لك معرفة دقيقة، أو بالأحرى شعور، حول طموحات طبقتك (أو المجموعة التي تنتمي اليها) حول قضية معطاة أي ميلها إلى هدف محدد.
ثالثا؛ المادة. الكلمات. اثراء مستمر لاحتياط، عنبر دماغك بالكلمات الضرورية، المعبرة، النادرة الاستعمال، المُبتكرة، المُستجدة، والمُركّبة، وكل أنواع الكلمات الأخرى.
رابعا؛ معدّات المعمل ووسائل الانتاج هي أيضا ضرورية. ريشة، قلم رصاص، آلة كاتبة، تلفون، بدلة للذهاب إلى المأوى، دراجة للذهاب إلى مكاتب التحرير، طاولة للكتابة منظمة، مظلة للكتابة تحت المطر، مكان مساحته بالضبط بعدد الخطوات التي عليك أن تقوم بها عندما تعمل (وهذا جد ضروري للعمل)، صِلة بوكالة الصحافة لكي تكون على علم بما يجري في القرى، وإلى آخره، بل تحتاج حتى إلى غليون وسجائر.
خامسا؛ وعليك بكثير من المهارة والتقنيات لاستعمال الكلمات، الاعتياد الذي هو فرداني جدا ولن يأتي إلا بعد سنوات من العمل اليومي؛ وعليك أيضا بقواف وتناسب أصوات، وتجنيسات سجعية وصور وتدرّجات وأسلوب وتهييج مشاعر، وخاتمة، وعناوين؛، وتصميم طباعي… الخ.
مثال: طلب اجتماعي – كلمات لأغاني إلى الجيش الأحمر وهو يتجه إلى جبهة بطرسبورغ. الهدف ح هزيمة يودينتش. المادة – رطانة الجنود. وسيلة الانتاج – طرف من قلم رصاص عتيق. التقنية – جاتسوكا مقفاة. (يقدم مايَكوفسكي نموذجا يستحيل ترجمته لأنه يعتمد على إيقاع القوافي)
(…….)
لدي مجموعة مختارة من المواضيع الواضحة والغامضة:
1 المطر في نيويورك؛
2 مومس بوليفار كابوسين في باريس، ويقال ان مضاجعتها أمر ممتاز لأن ليس لها سوى ساق واحدة – لقد فقدت ساقها الأخرى في حادث حافلة كهربائية، كما أظن.
3 العجوز المكلف عن الغرف في مطعم هايسلر الضخم في برلين.
4 موضوع ثورة اوكتوبر الهائل، شيء لا يمكن تحقيقه ما لم نعش في القرية، الخ.
كل هذا الاحتياطي أحمله في رأسي أينما ذهبت، وبالأخص الدقيق والحساس منه، فهو معلوم بخط. كيف سأستخدمه؟ لا ادري، لكنني أعرف بأنه سيستخدم كله.
أقضي وقتي كله في تكديس هذا الاحتياطي. وبسبب هذا العمل، اضيّع كل يوم 18 الى 20 ساعة: بل أكاد لا اتوقف عن همهمة شيء ما. إن هذا الجهد المركز هو الذي يفسر شرود الشعراء المزعوم.
أتابع عمل التكديس هذا بحدة إلى حد أن تسعين من مائة قضية أتذكر المكان والظروف الخاصة حيث، خلال سنوات العمل الخمسة عشر، بعض القوافي، وبعض الجناس، وبعض الصور آلت إلي وّوّجدت شكلَها النهائي.
يُعتبر دفتر الملاحظات هذا أحد العوامل الضرورية لانجاز عمل حقيقي أصيل.
عادة لا نعلم بوجود هذا الدفتر إلا بعد موت الكاتب، فإنه يبقى، لسنوات، مهملا، لا ينشره إلا كعمل بعد وفاة المؤلف، ويوضع في نهاية الأعمال الكاملة، لكن بالنسبة إلى الكاتب هذا الدفتر هو كل شيء.
ليس لمبتدئي الشعر دفتر كهذا. فليس لهم لا التجربة ولا الدُرْبة. وقلما نجد في اعمالهم شعرا مكتمل النمو، ولذلك قصائدهم طويلة ومضجرة.
كان سهلا علي، بفضل مساهمة هذا الاحتياطي المشغول بعناية، أن انجز شيئا في موعد محدد. ذلك أن انتاجي على جري العادة هو ثمانية أو عشرة ابيات في اليوم الواحد، عندما يتعلق الأمر بعمل حقيقي.
إن كل لقاء، كلّ لافتة، كلَّ حدث، بالنسبة إلى الشاعر، لا قيمة له إلا بقدر ما يزود الشاعر بمادة لفظية.
فيما مضى، كنت متدربا على هذا العمل إلى حد كنت أخشى معه أن أعبّر عن نفسي بكلمات وعبارات كانت تبدو لي ضرورية لأشعاري مستقبلا، مما صرت كئيبا وممللا وصموتا.
في عام 1913، وأنا عائد من سارتوف إلى موسكو، ولأبرهن اخلاصي التام لشابة ما كانت برفقتي، قلت لها: “أنا لست رجلا، وإنما غيمة مرتدية بنطلونا”. ولحظة ما قلت هذا، حتى ادركت أن هذا التعبير يمكن أن يكون مادة لقصيدة، وخشيت أن يتسرب ويضيع دون أن استغله. رحت أطرح على الشابة، وأنا قلق، أسئلة تغريرية طوال نصف ساعة، ولم أهدأ إلا عندما اقتنعت بأن كلماتي دخلت من أذن وخرجت من الأخرى.
بعد سنتين، أستخدمتُ “غيمةٌ مرتدية بنطلونا” عنوانا لقصيدة.
مثال آخر: فكرت، طوال يومين، في الطريقة المثلى للتعبير عن رقّة رجلٍ وحيدٍ إزاء امرأة كان يحبها.
كيف كان يعتني بها، كيف كان يحبها؟
الأمسية الثالثة، خلدت إلى النوم مع وجع في الرأس، دون أن اعثر على شيء صالح. لكن في منتصف الليل، حضرني التعبير أخيرا:
جسدك
سأحبُّه وأعتني به
كجندي
بُتر في الحرب
– لا ينفع،
لا صديق له-
يعتني بساقه الوحيدة. (من “غيمة ببنطلون”)
قفزت نصف يقظ. وفي الظلمة، كتبت على علبة سجائر، بطارف عود ثقاب محروق، هذه الكلمة: “ساق وحيدة”، وعدت إلى النوم. في الصباح، قضيت ساعتين محاولا أن أتذكر بأي ساق وحيدة يتعلق الأمر، وكيف تواجدت العبارة على العلبة.
قافية تحاول القبض عليها، لكن لا تستطيع حتى الآن مسكها، يمكن لها أن تُسمّمُ وجودَك: إنك تتكلّم دون أن تفهم، تأكل دون ان تعرف ماذا، ولا تستطيع ان تنام، تكاد ترى القافية تدوّم تحت مرأى عينيك.
بَعدَ النحوي شنغيلي، ساد انطباع بأن العمل الشعري شيء تافه لا أهمية له. بل يوحد حتى ممسوسون يذهبون أبعد من شنغيلي. هاكم إعلانا ظهر في صحيفة “البروليتاري” الصادرة في خاركوف (العدد 256):
“كيف تُصبح كاتبا؟
جوابٌ مفصلٌ مقابل طوابع بريدية ثمنها خمسون كوبكا.
“صندوق بريد رقم 11”
محطة سلافيانسك، خط دونيتز”
ما رأيكم في هذا؟
فضلا عن ذلك، إنه من نتاج العهد القديم. إذ سبق ان وزعت مجلة “تسلية” ملحقا على شكل كتاب عنوانه: “كيف تُصبح شاعرا بخمسة دروس سهلة”.
أعتقد أن الأمثلة الصغيرة التي قدمتها تكفي للبرهنة على أن الشعر هو من صفة الأشياء الأكثر صعوبة، وهذه هي الحقيقة.
ينبغي اعتبار قصيدة مثل اعتبار المرأة في رباعية باسترناك العظيمة:
“منذ ذلك اليوم، من المُشْط حتى قدميك
كممثّل ريفيّ شكسبيري
حملتك معي وحفظتك عن ظَهْر قَلْب
جَرررتكِ طوال المدينة وكرَّرتُكِ”. (“ماربورغ”)
2
(…)
إن إحدى اللحظات الحاسمة في قصيدة، خصوصا عندما تكون متحيزة وحماسية، هي خاتمتها. فأبياتُ قصيدةٍ الأكثرُ تأثيرا غالبا ما تأتي في هذا الجزء الصغير الأخير. فأحيانا تعيد صياغة القصيدة كلها من أجل تبرير ترتيب جديد كهذا.
إن تفسير البيتين الذين كتبهما يسنين بكلام آخر، كان طريقة واضحة لأختم قصيدتي.
فبيتا يَسنين، عما هما على النحو الآتي:
“في هذه الحياة، ليس أمرا جديدا أن نموت
وبالطبع، ليس أمرا أكثر جِدّةً أن نحيا”
وهنا البيتان اللذان كتبتهما أنا:
“في هذه الحياة لم يكن الموت شيئا صعبا
لكن أن تصنع حياة جديدة لهو أصعب بكثير”
أبقيت، مدة عملي على القصيدة كلها، هذين البيتين في بالي على الدوام. وكنت أعود إليهما طوال الوقت الذي كنت أعمل فيه على أبيات أخرى – سواء عن وعي أو غير وعي.
إذ كان من المستحيل نسيان ما كان علي عمله هنا، لذا لم أدون هذين البيتين، وإنما كنت احتفظ بهما في رأسي.
إذن، ليس من الممكن عدُّ كم من تصحيح قمت به، لكن، في كل الأحوال، لم يقل عن خمسين أو ستين تصحيحا لهذين البيتين.
ثمة تقنيات عديدة يمكنك استخدامها في صقل الكلمات وصياغتها، ومن العبث التحدث عنها، بما أن جوهر النشاط الشعري، كما ذكرت مرات عديدة في مقالي هذا، يكمن في القدرة على ابتكار هذه التقنيات، وهي التي تجعل من كاتب محترفا. من المحتمل أن مشرّعي الشعر التلموديين سيقطبون وجوههم عند قراءة كتابي هذا- فهم يفضلون اعطاء وصفات شعرية جاهزة. هاك هذا المضمون، او ذاك، حاولْ الباسه زيّاً شعريّاً، ايامبي او تروكيه، ضع قوافي في نهاية الأطراف، اضف اليه تجنيساً سجعياً، ابدأ بصورة وسترى الشعر جاهزا.
إننا نلقي بهذا العمل النسائي البسيط، في سلة المهملات الموجودة اسفل طاولات رؤساء التحرير.
والشخص الذي يأخذ قلما، لأول مرة في حياته، ويريد ان يكتب شعرا خلال أسبوع، ليس في حاجة الى كتابي.
ذلك إن الذي يحتاج كتابي فعلا، هو الشخص الذي يريد، رغم كل الصعوبات، أن يصبح شاعرا، الشخص الذي يريد، عارفا أن الشعر من أصعب المحاولات، أن يتمكن لنفسه مما يبدو الأكثر غموضا في العملية الانتاجية هذه، ثم يمررها إلى الآخرين.
استنتج:
1 – الشعر مصنع انتاج، من أصعب وأعقد الأنواع، لكنه مصنع مع ذلك.
2 – إن تعلُّم الكتابة الشعرية لا يعني تعلم كيف يتم تحضير نمط ثابت ومحدد من الأعمال الشعرية، وإنما دراسة وسائل كل عمل شعري؛ دراسة تطبيقات هذا المصنع، التي تساعد في خلق مصانع أخرى جديدة.
3 – إن التجديد في المواد والتقنيات، لهو مسألة اجبارية لكل عمل شعري.
4 – يجب أن يكون عمل الشاعر يوميا، لتحسين مهارته وتكديس احتياط شعري.
5 – أن يكون لديك دفتر يوميات جيد، وان تعرف كيف تستخدمه، لهو أهم من معرفة الكتابة بدون أغلاط كما تقتضي الأوزان البالية.
6 – ليست هناك منفعة في اطلاق معمل شعري لصنع قداحات شعرية. تجنّب انتاج نزر شعري غير اقتصادي. خذ القلم فقط عندما ليس هناك وسيلة تعبير أخرى غير الشعر. ويجب عدم بدء العمل إلا عند لحظة الشعور بطلب اجتماعي على نحو واضح.
7 – ولفهم الفرض الاجتماعي بشكل صحيح، على الشاعر ان يكون في لب الأشياء والأحداث. معرفة نظريات الاقتصاد، معرفة الحياة الحقيقية، التبحر في التاريخ العلمي، كل هذا بالنسبة إلى الشاعر – في الجزء الجوهري من عمله – أهم من كل الموجزات المدرسية التي يكتبها اساتذة مثاليون يؤلهون كل ما بال عليه الدهر وشرب.
8 – من اجل انجاز الفرض الاجتماعي بقدر الامكان، يجب ان يكون الشاعر في طليعة طبقته، وان يناضل، مع هذه الطبقة، على كل الجبهات. يجب تهشيم خرافة الفن اللاسياسي فتاتا. هذه الخرافة البالية تظهر الآن تحت مظهر جديد، تحت غطاء الهذر حول “لوحات كبيرة ملحمية” (اولا ملحمية، ثم موضوعية وأخيرا غير منحازة) أو حول “الأسلوب الضخم” (اولا ضخم، ثم مرتفع وأخيرا سماويّ). الخ
9 – فقط بمقاربة الفن كمصنع يمكنك إزالة عناصر المصادفة، عشوائية الذوق، واعتباطية الحكم. فقط باعتبار الفن كمصنع يمكنك وضع جنبا الى جنب أجناس العمل الأدبي المختلفة: القصيدة وتقارير العمال والفلاحين الصحافية. وعوض التأمل التصوفي في موضوع شعري، ستكون لك قدرة على معالجة المسالة بشكل صحيح بالمعايير والتقييمات الشعرية.
10 – يجب الا تجعل من اللمسات الأخيرة؛ الصقل، العمل التقني كما يسمى، غايةً في ذاتها. لكن هذا الصقل التقني هو الذي يجعل من قصيدة صالحةً للاستعمال. إن الاختلاف في طرق الانتاج هذا، هو الذي يعمل اختلافا بين الشعراء؛ كما أن معرفة واتقان وتراكم مختلف الأدوات الشعرية، هي فقط القادرة على جعل شخص كاتبا محترفا.
11 – الجو الشعري اليومي يؤثر هو ايضا على خلق عمل أصيل، كسائر العوامل الأخرى. إن كلمة “بوهيمية” أصبحت نعتا قدحيا لكل حياة فنية يومية. لكن للأسف غالبا ما حاولنا النضال ضد الكلمة؛ فقط ضدها. لكن إن ما ترمز إليه حقيقة هو “الجو الوصولي الفرداني للعالم الأدبي القديم:؛ “المصالحِ الصغيرة للزُمَر السيئة”؛ مبدأ “حك لي ظهري، أحك ظهرك”، وكلمة “الشاعري” أصبحت تعني “ارتخاء”، “سكران قليلا”، “فاسقا” الخ. حتى الطريقة التي يرتدي فيها الشاعر ملابسه والطريقة التي يكلّم بها زوجته في المنزل يجب ان تكون مختلفة ويحددها انتاجه الشعري كله.
12 نحن، “جبهة اليسار الجديدة”، لا نقول إننا الوحيدون الذين يحتفظون بأسرار الخلق الشعري. لكننا نحن الوحيدين الذين يريدون اكتشاف هذه الأسرار، الوحيدين الذين لا يريدون احاطة العمل بإجلال فني ديني. (…)
ملاحظة من المترجم : تمت الترجمة من خلال خمس ترجمات انجليزية وفرنسية، ومع هذا هناك عبارات ومقاطع اضطرتنا إلى الرجوع إلى النص الروسي الأصلي لفهم المغالطة بين الترجمة الانجليزية والفرنسية لمقطع ما.