%D8%A7%D8%A8%D9%88%D9%85%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A أوكرانيا

التواطؤ الدولي مع فساد السلطة

المقالات التي تنشر تعبر عن رأي أصحابها و ليس بالضرورة عن رأي الموقع

منذ أن تشكلت السلطة الوطنية الفلسطينية حتى رحيل الشهيد ياسر عرفات في نوفمبر 2004 صدرت مئات التقارير المحلية والدولية التي تتحدث عن الفساد المالي والإداري للسلطة الوطنية الفلسطينية، فبعد أن أصدرت هيئة الرقابة ابومهاديالعامة تقريرها حول الفساد في السلطة الفلسطينية في العام 1997، جرى تشكيل “فريق العمل المستقل” برعاية مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي وترأسه رئيس وزراء فرنسا الأسبق “ميشيل روكارد” لوضع تقييماً حول أوضاع السلطة، وأصدر تقريراً شاملاً عن حالة مؤسسات السلطة في العام 1999، يشمل توصيات للإصلاح القانوني والمالي والإداري والأمني وغيرها، وفتح المجال واسعاً أمام تشكيل عشرات اللجان ومجموعات العمل المتخصصة، منها لجان وزارية وأخرى من منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص أشغلت كل المجتمع الفلسطيني في معالجة ظاهرة الفساد لدرجة دفعت الرئيس الامريكي “جورج بوش” في نهاية حزيران 2002 لإعلان موقف غريب يربط ما بين الإصلاحات في السلطة الفلسطينية والتقدم في عملية السلام ودعا لاختيار قيادة جديدة للشعب الفلسطيني، في نفس العام الذي فرض فيه المجتمع الدولي على السلطة الوطنية والرئيس عرفات ما عرف بإسم “خطة خارطة الطريق”، كمحاولة للي ذراع الشهيد ياسر عرفات بعد أن أخفقت الولايات المتحدة الأمريكية في فعل ذلك خلال مفاوضات كامب ديفيد عام 2000.

كان واضحاً مما تقدم أن موضوع الفساد المالي والإداري  في السلطة الوطنية الفلسطينية زمن الرئيس ياسر عرفات كان أحد أوجه الضغط التي مارسها المجتمع الدولي على الرئيس عرفات، حيث تم ربط التقدم بأي عملية سياسية  وتمويل السلطة بمقدار التقدم  في الإصلاحات داخل السلطة الفلسطينية وتحقيق رغبات المجتمع الدولي الذي لم يكن محايداً أو بريئاً في طرح هذه المسألة إلى أن رحل الشهيد ياسر عرفات، ونظمت إنتخابات رئاسية نصّبت محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية، بعد أن كان نتاجاً لخطط إصلاحية دولية جاءت به رئيساً للوزراء في حكومة لم يستمر عملها سوى ثلاثة أشهر.

تجربة عشرة أعوام من رئاسة عباس للسلطة الوطنية الفلسطينية، لم تغيّر حال السلطة الوطنية الفلسطينية للأفضل، بل أدخلتها في جملة من الكوارث كان أخطرها الإنقسام الذي فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، ونتج عنه حالة قمع بوليسية لم يشهد لها الشعب الفلسطيني مثيل من قبل، حيث صودرت مختلف الحقوق والحريات، وتم تعطيل عمل المجلس التشريعي كسلطة رقابة وتشريع، ونفذ عباس عشرات الغارات على جهاز القضاء الفلسطيني كان آخرها تعيينه لرئيس المجلس الأعلى للقضاء بشكل غير قانوني، وانتهك حصانة نواب في المجلس التشريعي كما فعل مع النائب محمد دحلان، ووصل به الصلف لإرسال قوات أمنية تحاصر المجلس التشريعي مسقطاً من حساباته هيبة هذه المؤسسة التي تمثل إرادة الشعب، وقام وأفراد عائلته بعمليات نهب كبرى للمال العام أبرزها سرقة مالا يقل عن 600 مليون دولار من أموال صندوق الإستثمار ووضع الأموال المتبقية تحت تصرف أفراد عائلته لتطوير إستثماراتهم العائلية، متسلحاً بعصابة من أجهزة الأمن ومجموعة من رجالات البزنس والإحتكارات الإقتصادية المختلفة، ويصمت عن عشرات قضايا الفساد في وزارات السلطة، كان أبرزها فضحية “المنحة الطلابية الفنزويلية” التي أساءت للعلاقة بين الشعبين الفلسطيني والفنزويلي، وفضحية التبغ المزوّر التي نفذها نجله في إحدى المستوطنات، وفضائح الرشاوى التي تتلقاها وزارة الشؤون المدنية لقاء إصدار تصاريح المرور عبر حاجز إيرز وحجبها لتصاريح عدد من التجار أصحاب الشركات التجارية، وغيرها من عشرات القضايا التي يصمت عنها المجتمع الدولي، ولم يعد يربط ما بين معالجتها وبين التقدم في العملية السياسية، وتشاركه هذا الصمت المئات من منظمات المجتمع المدني والأحزاب!

“ميشيل روكارد” كتب تقريره عن السلطة بعد ثلاث سنوات من إنتخابات المجلس التشريعي الأول وكانت السلطة تجربة ناشئة وإنتقالية قيد التطوير، وبعد أسوأ عشر سنوات مرّت على الشعب الفلسطيني في ظل حكم الرئيس عباس وترهّل السلطة وتغييب مؤسسات الرقابة وزيادة النهب من المال العام و”أموال المانحين” ، لم يأت ميشيل آخر، ولم تعد هناك شروطاً إصلاحية تطلبها الرباعية الدولية من السلطة ورئيسها من أجل إستكمال العملية السياسية، فالسلطة بنظر العالم نموذجية وفي أفضل حالتها طالما تؤدي مهام “التنسيق الأمني” مع الإحتلال وتقهر الشعب الفلسطيني وتسطو على أمواله، وتصادر حقوقه المختلفة، وتلهث وارء مبادرات سياسية مخزية يطلقها الأمريكي “جون كيري” أو نظيره الفرنسي “لوران فابيوس”، إنها سلطة ذات كفاءة عالية لا يمكن لمنظمات المجتمع المدني من إنتقادها والتجني عليها!

الفساد والزبائنية صفتان لصيقتان بالسلطة منذ نشأتها حتى الآن، وهذا أمر لا يسعد أي مواطن فلسطيني، ويدفع بكل الوطنيين نحو مواجهة هذه الظاهرة المسيئة للشعب الفلسطيني وسمعته، لكن صمت المجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب هو الذي يثير الريبة ويؤشر لخطورة ما يحاك للشعب الفلسطيني وقضيته، فبعد تجربة الصمود الطويلة التي خاضها الشعب وقيادته في زمن الشهيد ياسر عرفات وقبل، تحاول إسرائيل والنافذين في المجتمع الدولي بتواطؤ مع قوى محلية مصلحية فرض حالة إستسلام على الشعب الفلسطيني للقبول بحلول سياسية مجحفة ومنقوصة، جرّبت إسرائيل فرضها بالحرب والمفاوضات، وتواصل تجربتها من خلال نشر الإحباط واليأس وتضييق الخناق الإقتصادي والمعيشي على الفلسطينيين.

التواطؤ الدولي مع فساد السلطة ورئيسها لا يعفي المجتمع الفلسطيني من ضرورة مواجهة هذه الظاهرة، فالفساد والتعدي على حقوق وكرامة الناس هو المدخل الإسرائيلي لتكريس الإحتلال وتحويل الشعب الفلسطيني إلى عبيد يخدمون ثلاث جلادين، والدفع بآخرين نحو الهجرة أو الموت في عرض البحر، وما البطالة والفقر والقهر وانقطاع الكهرباء وتعطّل الإعمار وتلوث المياه وعشرات الأزمات المتفاقمة إلّا أعراض لمشكلة واحدة عنوانها الإحتلال، تشاركه قيادة متواطئة لم تتمكن من إيجاد حلّ واحد لمشكلة واحدة ولا تملك إرادة للفعل ذلك نتيجة عجزها وتورطها في صناعة هذه الأزمات.

الشكوى والدعاء والنحيب لا تغيّر الواقع، والخلاص من الظلم والإستبداد له ثمن أقل بكثير من ثمن الصمت عنه، فنحن أمام رئيس حول كل النظام السياسي الفلسطيني إلى مسخ يمتطي ظهره لتحقيق أحلامه في السلطة والمال، رئيس تجرأ على المساس بكل الثوابت الوطنية من أجل تأمين أطول فترة حكم ممكنة، لا تردعه أخلاق ولا عذابات الشعب، ولا يكيل وزناً للقانون، ويراهن على دعم المجتمع الدولي وتواطؤه مع حالة الفساد، كما راهن على إرضاء الإحتلال وتقديم الخدمات الأمنية لقاء الإستمرار في الحكم، متجاهلاً تجارب الشعب الفلسطيني في التمرد على الظلم، شعب لن ينتظر طويلاً في قلب المأساة وسيصنع حريته ولو بعد حين.  

شاهد أيضاً

قمة

قمة البريكس في قازان إعلانات ووعود تنتهك دائما

أحمد عبد اللطيف / قمة البريكس في قازان، روسيا (22-24 أكتوبر 2024)، هي محاولة أخرى …