. بقلم معد طلال / يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدّت إلى زوال الدولة العثمانية بعد أن سيطرت على العالم بضعة قرون كانت فيها ملء عين الزمان وسمعه لا بل كانت فمه القائل ويده الباطشة ولسانه الناطق.لان ذلك يربطنا بما يجري الان في ثلث العراق
وترجع هذه الأسباب إلى:
1-زواج السلاطين بالاجنبيات وتسلط هؤلاء الاجنبيات على عواطف أزواجهن وتصريفهم في سياسة بلادهن الأصلية وتحكمهن بمقدرات الدولة. فكم من الملوك قتلوا أولادهم أو إخوانهم بدسائس زوجاتهم وارتكبوا أعمالاً تضر بمصلحتهم إرضاء لزوجاتهم.
2-تعدد الزوجات والمحظيات اللواتي كان الأجانب والحكام يقدمونهن هدية للسلطان كأنهن السلع أو التحف واللواتي كان السلاطين إذا رأوا كثرتهن في قصورهم يهدونهن أحياناً إلى قادتهم أو خواصهم على سبيل التكريم. وكان من البديهي أن يحصل بين أولاد الأمهات وأمهات الأولاد. وسواءً أكانت الامهات زوجات أو محظيات، تحاسد وتباغض يؤديان إلى قتل السلاطين أولادهم وإخوانهم وإلى أمور غير معقولة ومقبولة عقلاً وشرعاً.
3-تفكك روابط الأسرة السلطانية بسبب كثرة النساء حتى أصبحت عادة قتل السلطان إخوانه أو أولاده، يوم يتولى العرش، أمراً معروفاً ومألوفاً. وكأنه يضحي بخراف احتفاء بهذا اليوم من غير أن يشعر بوخز ضمير أو لسعة ألم.
ولذا فقد كان أفراد الأسرة السلطانية يعيشون في خوف مستمر ويتربص بعضهم بالبعض الآخر الدوائر ولا يبالون بأن يشقوا عصا الطاعة في وجه السلطان سواء أكان أخاً أم أباً أم ابناً وذلك ليس حباً بالسيطرة فقط بل لانقاذ أعناقهم أحياناً من الغدر.
4-تدخل نساء القصر بالسياسة وشفاعتهن لدى أزواجهن السلاطين برفع الخدم إلى منصب الوزارة أو إيصال المتزلفين إلى مراتب الحل والعقد، كرئاسة الوزارة وقيادة الجيش. وفي كثير من الأحيان لا يكون لهؤلاء الرجال ميزة يمتازون الا تجسسهم لحسابهن.
5-بقاء أولياء العهد مسجونين في دور الحريم فلا يرون من الدنيا شيئاً ولا يعلمون شيئاً، وكثيراً ما كانوا لا يتعلمون شيئاً أيضاً لأنهم لم يكونوا يدرون إلى ما سيصيرون فإما أنهم يذهبون ضحية مؤآمرة قبل أن يصلوا إلى العرش وإما أنهم يصلون إلى العرش لكي يجدوا فئة من الناس تسيطر عليهم وتتحكم بهم أو يسحبون عن العرش ويقتلون أو تسيرهم نساء القصر أو يسيرهم جهلهم. وتسليم أمور الدولة إلى غير الأكفاء من الناس إذ كان طباخ القصر وبستانه وحطّابه والخصي والخادم يصلون إلى رتبة رئاسة الوزارة أو القيادة العامة للجيش. فماذا ينتظر من جاهل أن يفعل.
6-احتجاب السلاطين وعدم ممارستهم السلطة بأنفسهم والاتكال على وزراء جهال. فقد كان سلاطين آل عثمان حتى السلطان سليم الأول يتولون قيادة الجيش بأنفسهم، فيبعثون الحماسة والحمية في صدور الجنود، ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة إلى ضباط فصار الجنود يتقاعسون تبعاً للمثل القائل “الناس على دين ملوكهم”.
7-تبذير الملوك حتى بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الأحيان ثلث واردات الدولة.
8-خيانة الوزراء، إذ أن كثيراً من الأجانب المسيحيين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويدخلون في خدمة السلطان ويرتقون بالدسائس والتجسس حتى يصلوا إلى أعلى المراتب، وقد أبدى السلطان عبد الحميد استغرابه من وفرة الأجانب الذين تقدموا إلى القصر يطلبون عملاً فيه حتى ولو بصفة خصيان وقال : لقد وصلني في أسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة يطلب أصحابها عملاً في القصر حتى ولو حراساً للحريم،وكانت الرسالة الأولى من موسيقي افرنسي والثانية من كيمائي ألماني والثالثة من تاجر –*–*–*وني. وعلق السلطان على ذلك بقوله : من العجب أن يتخلى هؤلاء عن دينهم وعن رجولتهم في سبيل خدمة الحريم. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يصلون إلى رئاسة الوزارة، ولذا فقد قال خالد بك مبعوث أنقره في المجلس العثماني بهذا الصدد : لو رجعنا إلى البحث عن أصول الذين تولوا الحكم في الدولة العثمانية وارتكبوا السيئات والمظالم باسم الشعب التركي لوجدنا تسعين في المئة منهم ليسوا أتراكاً.
9-غرق السلاطين والأمراء في الترف والملذات.
10-الحروب الصليبية التي شنت على الدولة والتي لم تنقطع منذ ظهورها إلى يوم انهيارها.
11-الامتيازات التي كانت تمنح للأجانب اعتباطاً بسخاء وكرم لا مبرر لهما بل كانت تمثل التفريط بحق الوطن في أقبح صوره، فقد منحت الدولة العثمانية، وهي في أوج عظمتها وسلطانها، امتيازات لدول أجنبية جعلتها شبه شريكة معها في حكم البلاد. ولا أرى سبباً لهذا الاستهتار إلا الجهل وعدم تقدير الأمور قدرها الحقيقي وتقدير قوة ودهاء الدول التي منحت هذه الامتيازات والعاقل لا يستهين بعدوه مهما كان صغيراً وضعيفاً.
12-الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان الذين فتحت لهم الأرض أبوابها على مصراعيها يلجونها كما يشاؤون. وإن من يقرأ كتاب الملك سليمان القانوني إلى ملك فرنسا لا يجد فيه ما يشبه كتاب ملك إلى ملك أو امبراطور عظيم إلى ملك صغير أو حتى إلى أمير، بل يجده وكأنه كتاب سيد إلى مسود. ومن يطالع صيغ المعاهدات، في أوج عظمة الدولة، وما كان يضفى فيها على سلاطين بني عثمان من ألقاب يكادون يشاركون بها الله تعالى في صفاته بينما تكون ألقاب الاباطرة والملوك عادية، أقول إن من يطالع صيغ هذه المعاهدات يدرك إلى أي حد بلغ بهؤلاء السلاطين الجهل والغرور.
13-إدخال الدين في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة والسير بعكس ما يأمر به الدين، باسم الدين، حتى أصبح الدين ألعوبة في أيدي قبضة من الجهال يحللون ويحرمون على هواهم، ومثال ذلك إدخال أمر تغيير اللباس في نطاق الدين ثم لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة في استانبول ووجد معارضة من قبل علماء الدين لجأ إلى السلطان وإلى حاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فأمر السلطان شيخ الاسلام بأن يفتي بأن المطبعة نعمة من نعم الله وليست رجساً من عمل الشيطان كما أفتى العلماء من قبل فافتى شيخ الاسلام بجواز إنشاء مطبعة شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كتب ا لتفسير والحديث والفقه. وقد أنشئت أول مطبعة في استانبول سنة 1712 أي بعد أن كان قد مضى على اختراع المطبعة ما يزيد على قرنين نصف القرن وبعد أن أنشأت فرنسا المطبعة الوطنية بنحو قرنين.
هذه الأسباب التي قضت على الدولة العثمانية وأنزلتها من شامخ عزها إلى حضيض المذلة والهوان. وإن من يدرس، بإمعان نظر، كل سبب من هذه الأسباب المذكورة آنفاً ويرى مدى تأثيره الواسع في المحيط الدولي لا يعجب من انهيار هذه الدولة العظيمة تحت سياط هذه الضربات بل يعجب كيف استطاعت أن تعيش ست مئة سنة وهي تتحمل هذه الضربات القاسية التي نزلت بها والتي لو نزلتعلى جبل لصدعته، ولكنها عاشت بفضل اختلاف اعدائها على تقسيمها فيما بينهم وبفضل أيمان أهلها وتمسكهم إلى حد بالإسلام. ومن المؤسف المحزن أن يهدم أبناء أولئك المؤمنين بتنكرهم للدين وبتخاذلهم ما بناه آباؤهم وأجدادهم بجدهم وجهدهم وربما قدموه من تضحيات بالدماء والأرواح.