د. فؤاد خشيش / البير كامو (7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1913 – 4 يناير/ كانون الثاني 1960) فيلسوف وجودي وكاتب مسرحي وروائي فرنسي مشهور ولد بقرية موندوفي من أعمال قسنطينة بالجزائر، من أب فرنسي، وأم أسبانية، وتعلم بجامعة الجزائر، وانخرط في المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألماني، وأصدر مع رفاقه في خلية نشرة باسمها، التي ما لبثت بعد تحرير باريس أن تحولت إلى صحيفة “الكفاح” اليومية تتحدث باسم المقاومة الشعبية، واشترك في تحريرها جان بول سارتر. ورغم أنه كان روائيا وكاتباً مسرحياً في المقام الأول، إلا أنه كان فيلسوفا. وكانت مسرحياته ورواياته عرضاً أميناً لفلسفته في الوجود والحب والموت والثورة والمقاومة والحرية، وكانت فلسفته تعايش عصرها، وأهلته لنيل جائزة نوبل، فكان ثاني أصغر من نالها من الأدباء. وتقوم فلسفته على كتابين هما “أسطورة سيزيف” 1942 و”المتمرد1951 أو فكرتين رئيسيتين هما: العبثية والتمرد. ويتخذ كامو من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان في الوجود، وسيزيف هو هذا الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدّر عليه أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح, فيضطر إلى إصعادها من جديد، وهكذا للأبد، وكامو يرى فيه الإنسان الذي قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقُدّرت عليه الحياة بلا طائل، فيلجأ إلى الفرار أما إلى موقف شوبنهاور : فطالما أن الحياة بلا معنى فلنقض عليها بالموت الإرادي أو بالانتحار، وإما إلى موقف الاخرين الشاخصين بأبصارهم إلى حياة أعلى من الحياة، وهذا هو “الانتحار الفلسفي”، ويقصد به الحركة التي ينكر بها الفكر نفسه ويحاول أن يتجاوز نفسه في نطاق ما يؤدي إلى نفيه، وإما إلى موقف التمرد على اللامعقول في الحياة مع بقائنا فيها غائصين في الأعماق ومعانقين للعدم, فإذا متنا متنا متمردين لا مستسلمين.
اعتمد ألبير كامو على أفكار المدارس الفلسفية المعاصرة عندما شكَّل وجهة نظره الخاصة في مفهومَي العبث والتمرد. وهذا ما يجعل القارئ يستمتع أكثر في دراستهما.
في بداية مقالته عن العبث، أكد كامو أن مسألة ماهية الحياة هي المسألة الرئيسية التي تبحث فيها الفلسفة. وهنا أراد كامو أن ينظر في عمق إلى علاقة الوجود العبثي والشعور العبثي بالحياة والانتحار وبالأمل والحرية وتأثيرهما فيها.
حاول كامو أن يفهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الانتحار، فتوصل إلى مفهوم الشعور العبثي، حيث اعتبر أنه “يظهر على أساس التناقض بين الإنسان والمحيط الخارجي”، أو كما شبَّهه قائلاً: “بين الممثل والديكورات”. ففي حال تمكَّن الإنسانُ من تفسير العالم تفسيرًا مقنعًا، على الأقل، يصبح هذا العالم في نظره مفهومًا ومقبولاً إلى حدٍّ ما. لكن حينما يدرك الإنسان “وهم” هذا التفسير سرعان ما يشعر على الفور بنفسه غريبًا في الكون، فيقف أمام سؤال: هل تستحق الحياة أن أعيشها؟ وهنا يلد الشعور العبثي.
توقف كذلك عند مسألة العقل والفكر ومعرفة العالم. فمعرفة العالم في نظر الإنسان تتلخص في دمجها بالمفاهيم المتداولة عنده. ولكن هناك تناقضًا بين الإنسان الذي يعتقد أنه يعرف وبين ما يعرفه في الواقع. ولا يمكن الاعتماد على النماذج الإبداعية، كالأدب والرسم وغيرهما، في التوصل إلى المعرفة الكاملة لأنها افتراضية، ولا على العلم لأنه قادر فقط على تمييز ظواهر معينة وتعدادها – علمًا أن كامو اعتبر أن العالم ظاهرة غير عقلانية، وليس ظاهرة عبثية. فالعبثية تتلخص في اصطدام هذه اللاَّمعرفة بالعالم بالتعطش إلى الوضوح الذي يصرخ في روح الإنسان. وإذن، فالعبث إنما يولد من اصطدام رغبة الإنسان بأن يكون سعيدًا ويصل إلى عقلانية العالم، من جانب، مع اللاعقلانية الصامتة لهذا العالم، من جانب آخر. وبهذه النتيجة يكون كامو قد عارض الكثير من المدارس الفلسفية، التي أكدت أن كلَّ ما هو موجود هو عقلاني وأن كلَّ شيء يمكن له أن يُفهَم بواسطة العقل.
يعتبر كامو أن جميع أنواع التجارب في الوجود متساوية. لذلك إذا كان الإنسان يملك وعيًا واضحًا فجميع تصرفاته ستصب في خدمته؛ وإذا كان الأمر خلاف ذلك، فستسبِّب تصرفاتُه المشكلات. وهنا تقع المسؤولية على عاتقه هو، وليس على عاتق الظروف.
ظل كامو يحب الجزائر، جبالها واثارها الرومانية، ميناء الجزائر الجميل والشرفة المتواضعة حيث عاش مع امه الطرشاء الخرساء والامية، وجدته المتسلطة وشقيقه لوسيان برعاية عمه الامي صانع البراميل. كل هذه الذكريات تمت الى ايامه عندما كان شابا وناشطا سياسيا ومع صدور مقالاته كان كامو قد فقد الصلة بها، والزيارة الوحيدة للجزائر بعد سنوات في المنفى كانت في عام 1956 في محاولة منه للبحث عن حل يوقف العنف.
والمهم ان الجزائر تظل مركزية في الجدل الذي يدور حول مواقف كامو ومعاركه الفكرية، فقد اصبحت القضية الجزائرية وتحرر الجزائريين المفصل التي يحكم من خلاله على ادبه وكفاحه الفكري، سواء ضد المؤسسة الاستعمارية في الجزائر او النازية عندما احتلت فرنسا، او من حركة التحرير الوطني الجزائرية التي رأى في اساليبها التي تستهدف المدنيين من الطرفين عملا ارهابيا. وهذا الموقف دعا بمنظري ثقافة ما بعد الاستعمار للعودة الى رواياته واعماله الفكرية وتحليلها، فهو حسب ادوارد سعيد “استخدم الفضاء الجزئري والعرب كإطار او خلفية لاعماله ليس الا”. ولعل من اهم الاعمال التي كتبها كامو حول المسألة الجزائرية هو كتابه الذي اصدره عام 1958 واعتقد انه بنشره سيحسم المسألة وموقفه من الحرب الدائرة ويسكت ناقديه، لكن كتابه لم ينل اهتماما ولا حفاوة من النقاد. هذا الكتاب هو “السجلات الجزائرية” وهو مجموعة من المقالات التي كتبها اثناء نشاطه السياسي في الجزائر من عام 1939، ونشرها في جريدة “الجزائر الجمهورية” الى الخمسينيات من القرن الماضي، اضافة لدراسات وكلمات اخرى نشرت في دوريات يسارية وردود كتبها على تقارير نشرتها صحف فرنسية مثل لوموند”.