البروفيسور خليل عزيمة : هل لروسيا مستقبل دون الإسلام؟
28 مايو, 2017
الأخبار, مقالات
البروفيسور خليل عزيمة
باحث وأكاديمي فلسطيني
يحدث في تاريخ الشعوب المختلفة تكرارية لنمط دوري ما، وتعتبر بداية ونهاية دورة التطور السياسي هي عملية ديمقراطية طبيعية متجدّدة الحدوث، ثم تنتقل إلى مرحلة النخبة القيادية الدكتاتورية، مع وجود ممثلين عن الملكية في الرئاسة، التي تسعى إلى ملكية مطلقة وإلى التوقف عن التطور وتقترب من نهاية الدولة بنتيجة محاولة إيقاف التماسك الذاتي الواقعي.
أحداث كثيرة جرت على أراضي روسيا خلال حقبة زمنية طويلة تميزت بتقلبات غريبة وفترات استقرار طويلة. ويعود أول ذكر لدولة «روس» (روسيا) إلى النصف الأول من القرن التاسع. ولكن مختلف المؤرخين ومن ضمنهم اسكندينافيون وبيزنطيون وعرب وفرس، لا يعطون صورة واضحة عن حدود وطبيعة هذه الدولة. ونجد في المصادر العربية ما يشير إلى وجود شعب «روسي» ابتداء من القرن التاسع، كما جاء في مؤلفات الثعالبي والجغرافي العربي ابن خرداذبة وغيرهم.
سادت حقوق الشعب على الأراضي الروسية في الألفية الأولى وقرر الشعب كل شيء في ندوته الشعبية “فيتشا”[1] ولم تستطع مجالس أي من الأمراء “لاريوريك ولا اسكولد”[2] أن يدعوا من أجل “قيادة” الشعب: كانت هذه وظيفة الاجتماع الشعبي باسم الندوة، والأمير هو فقط مسّمى من جنود منطقة أبراج القيادة وجامعي الضرائب.
وقّع إيغور معاهدة مع قيادة مدينة قسطنطينية، وهو الملقّب ( بأمير روسيا العظيم ونيابةً عن كل الأمراء وكل الناس على الأراضي الروسية)، كانت أكثر ديمقراطية من الصيغة القديمة (من التصرف باسم مجلس الشيوخ والشعب الروماني). وفي اجتماع الندوة “فيتشا” مع الكهان على الأراضي المقدسة جرى تعيين الأمير القائد الآتي من خارج سور المدينة، وحدث الاجتماع على “المقبرة” حيث يقع ضريح أمهات الأقارب، مما عكس رمزياً ضرورة مراقبة عملية حمل الأجيال. كان الشعب إذن ذو سيادة، أو كما يقال بالروسية (سيّداً) محترماً. كانوا يتمتعون بصورة رسمية بلقب (سيد المدينة الجديدة العظيم – فودنغراد).. (سيد بسكوف)، وما شابه .
كانت أرض روسيا في ذلك الوقت رائدة على المستوى الأوربي، فها هو الأمير سفيتاسلاف يهاجم (بيزنطة)، واستطاع مؤقتاً أن لا يدفع لهم “الأتاوة”. في حين كانوا يفرضونها على أوربا وفي آسيا. وأصبحت بيرياسلافيتش على نهر الدانوب عاصمة الإمبراطورية الروسية التي اضطر سفيتاسلاف أن يتخلى عنها بسبب الفشل الحربي. ولم يلبث أن مات بحادث خيانة بيزنطية ألغت المعاهدة القائمة وجهزوا له السجن بأيدي مساعديه.
قتل فلاديمير ابن سفيتاسلاف إخوته واغتصب السلطة في كييف عام 980م وأصبح عملياً استبدادي، وقد تابع أهم عمل لأبيه، وهو بناء الإمبراطورية الروسية محّولاً الروس إلى مستعمرة لروما الشرقية[3]، وقد ورث والده فأخذ من حريمه قريبة قاتلة آنا اليونانية، التي صاهرت الطاغية الآسيوية. قضى أولاً على سلطة الشعب الروسي عام 988م، وحّول منزله (لقصر مقدس) على نموذج الأنظمة الديكتاتورية، وليقدّم نفسه دعامة الكنيسة (متلبّس بملكوت الرب) الذي لا يحاسبه الناس.
فرض فلاديمير بالقوة على الشعب الروسي القديس الأول الذي لم يتضح جنسه، والآتي من حكومة عّدوة، فأخضع رأس تلك الحكومة فاسيليفس كونستا ينتنوبولسكي. وهو نفسه الذي نزع عن الأرض الروسية ليس فقط السيادة الروحية بل والسياسية، وأصبح نفسه إقطاعي الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وكانت الحكومة قبل ذلك عبارة عن اتحاد روسي عام مع ديمقراطية قومية متطورة، وبجمعه الأتاوة لبيزنطة ضعُف وغرق في حمام الدم قرنين من الزمان مع الأهالي، وانتهى ذلك النظام إلى غير رجعة وبقيت فوفوغراد العظيمة مكانه وكذلك الإمارة التي ظهرت في روسيا آن ذاك وهي الإمبراطورية المغولية العظمى.
لم تنجح الأساطير المسيحية أن تنتشر على مستوى الجماهير الشعبية قبل خضوع الروس إلى القطيع الذهبي المغولي، ولكنها وجدت متعاطفين معها بصورة رئيسية في المدن عند أصدقاء الملك، ولأنه من المسلّم به في المسيحية “لا سلطة إلا من عند الله، فالسلطة الموجودة إذن موضوعة من الله”(الروم13:1)، رأى المغوليون في ذلك إمكانية القضاء على السلطة الشعبية الروسية وتوطيد سلطة المستعمر لمملكة الخان. فساعدوا على أن يكون إدخال المسيحية المعروفة عند الناس الروس ممكناً وسهّلوها لهم، فتضاعفت في سنوات “ظلمهم” كمية الأديرة، وأعفيت الكنائس من كل الضرائب.
كان نص ختم جنكيز خان: “الله في السماء، والخان قدرة الله على الأرض، طابع ومالك البشرية”، وتطلب الأمر قراءة مكان الكلمات المغولية “الخان الإله” أو استبدال “الخان” في نص الصلاة مكان كلمة “القيصر” الروماني، وهكذا أصبح القطيع الأوردي[4] في مدونة التاريخ الرهباني للخان يسمى باسم (القيصر)، وأصبحت الكنيسة تصلي ليس وفق المذهب المسيحي البيزنطي، بل وفق طريقة الخان الذي أخذ السلطة عن الله، وأوجد الملك والمطران الأرثوذكسي حالة نواب (مالك البشرية).
مع انتماء موسكو إلى أملاك فلاديمير – سوزدالسكي[5] (للخانية البيضاء)، الذي شنقت الخان تقرباً من أمير موسكو في أعمال الإبادة الضخمة للشعب الروسي الثائر ضد المغول. لقد واظب الملك على قتل سكان الممالك الأخرى مثل مملكة (تفيرسكاوفا) بإخلاص، بل وقتل خواصه المقربين، مثله في ذلك مثل الخانية في إبادة شعبه، وبالتالي شكلّت السلطة الموسكوفية حكومتها الخاصة في مرحلة انتقالية تدعم حتى الآن نمط قاسي قديم بالي وغير عائلي وغير حميم، وعلاقته مع شعبه استعمارية. فكان من السهل التضحية بآلاف وملايين السكان الروس من اجل فكر يوتوبي[6] خيالي، أو ببساطة لصيد ثمين.
بنفس الوقت، غاب الوعي الذاتي القومي في موسكو منذ البداية وحلّ مكان القومية سلطة استعمارية “مقدمة من الله”، وحكومة “مقدسة”، “الروس المقدس”. انتصر ملك روسيا (هو لقب رسمي لرئاسة حكومة الأراضي الروسية) بجنوده على روما الشرقية في القرن الخامس، ووصل بدرعه إلى مفرق قسطنطينية، وأجبر بيزنطة على دفع الأتاوى وضمان الأمن من أجل التجار الروس، وحق التجارة عبر معبر البوسفور بدون ضرائب. في حين أظهر المطران الأرثوذكسي الوجه الثاني في موسكو خلال القرن الرابع، وهو من القبارصة الإغريق. وقد أصبح النصير والصديق القريب لرئيس الدير سيرغي زادوجسكي الأرثوذكسي المقدس، لتقديمه إلى مطرانية كل الروس التابعة إلى قسطنطينية. على هامش التعيين العادي للبطريرك “أعطى روستاف فيودر المعماري للتجّار الإغريق وثائق أراضي (للعبودية) بآلاف روبلات نوفوغراد القديمة، ووعد التاجر اليوناني واهتم بسفره وبتكفل كل مصاريفه، وحتى طعامه وسفره إلى نهر بوتا. وسمح كيبريان أن يضم إلى الرقيق اللازم أي روسي يظهر في – أرض الإغريق – وأرض التتر”[7].
لا يمتلك الموسكوفيون أي إرث روحي وقومي أسطوري وسياسي نابع من الأراضي الروسية. ومن المفهوم تماماً لماذا تدين الأديرة في المدونات التاريخية الشعب الروسي أثر أي محاولة لإنشاء سلطة شعبية. حتى في الظروف الرهيبة أثناء حصار موسكو على يد توخناميش[8] عام 1382م . وفي غياب ملك مطرانية موسكو وكل الروس هرب كيبريان وسرغي رادونجسكي رئيس الدير في العاصمة (تاركين الشعب لمصيرهم التعيس) إلى “الخائن” – إلى الملك تويرسك.
حررت الحكومة الديموقراطية الموسكوفيين من السلطة الأردية (خانية الصوفة البيضاء) أولاً، ثم قدّمت نفسها كحركة وطنية شعبية تحت قيادة يوحنا الثالث. ومع ذلك عاد يوحنا فلاديمير إلى العادة القديمة، فنشر في الشعب الروسي الأساطير الأيديولوجية السياسية البيزنطية المستوردة، ولهذا صاهر باليوغي وغيّر وصيته السياسية لمصلحة زوجته الإغريقية الأخيرة.
أصبح يوحنا غروزي القرين الرسمي لصوفيا باليونغ بيزنطي حقيقي من الطراز الأول – روحاً وسياسةً- الأول على العرش الروسي مثل (القائد سيزار[9] للإله أوغستين) على حدود الأراضي الروسية القديمة، بل وأعلن يوحنا غروزي نفسه غير مخطئ في مسائل القيادة الحكومية في رسالة إلى أندري كوربسكي الذي “كافئه” قائلاً: “نحن كنا دائماً أحراراً، أحرارأ في العقاب”.
هذا يعني أن القيصر تقمّص صورة الله القدير، وأصبح (إله أرضي) صاحب الإرادة التي لا يمكن أن ينتقدها أحد من الناس بالحقيقة. وغرقت الدولة في مرحلة تغيير القيصر وخلعه في دمار الشعب المشتت والممزق، وهذا أدى وفق الناموس الكوني بعد سنوات إلى اندثار الحكومة الموسكوفية.
انبعث الشعب الموسكوفي المؤلّه للإنسان من الإنجيل عبر ديمقراطية مجمع زيمسكي عام 1613م محافظاً على السلطة الثنائية لنصف قرن مؤلفة من الملك والشعب[10]. أعلنت فيما بعد الكنيسة الموسكوفية الكبيرة عام 1666م رسمياً أن القيصر-(إله أرضي)- وفق نموذج قنسطنطين العظيم.
وصل بطرس الأكبر مع ايكاترينا العظيمة إلى السلطة عن طريق انقلاب، وكانا عملياً ليسا ملكيين، بل قائدين شعبيين، وقد صرفا الكثير من القوى كي يُشعرا الشعب نفسه بالأمور السياسية. وقام أعوان بطرس الكبير الأرستقراطيان موراييف وبيستيل[11] بأكثر من ذلك، وحاولا إيقاف “اللقاء الشعبي” و”الحقيقة الروسية”، غير أنهما انتهيا بحرب ديكتاتورية.
غيّر القياصرة أنفسهم ابتداءً من نيكولاي الأول منتقلين من مجتمع المواطنين الأحرار، الوطنية (الشعبية) – إلى حكومة (استبدادية)، والمنهج الحكومي أرثوذكسي، وتحول هذا إلى عودة للأساطير الوثنية مختلفة المصدر، مع التركيز على الفكرة البيزنطية المطلقة (الإله الأرضي). ووجدت البلاد نفسها في معسكر اعتقال ضخم من ملايين العبيد المحرومة من الحقوق والتصويت، وعشرات الألوف من الجنود والمراقبين الدينين (عبيد الدولة – وسيد الدولة ).
وأصبح هذا النموذج في عهد ألكسندر الثالث ونيكولاي الثاني منتشراً في الأدبيات الروسية. وتحولت كل الصفوة الوطنية عملياً -رغم أنفها- إلى ملكية أرثوذكسية معارضة، والجانب الفعّال فيها ثوري اجتماعي. وأعلن نيكولاي الثاني عام 1897م منشوراً عن خطته (المهمة الأساسية) رسمياً وأنه “ملك الأراضي الروسية”، وعندما حاول تقويم نفسه واقعياً (بما يتفق مع ذلك) باللقب، ثم أتبعه بمشورة “المسيح الصغير” راسبوتين ومملكته الغنية فأضاعت تلك الحكومة آخر فرصة للبقاء.
وصل تطور الثلاثية الدورية إلى البلشفية: وبوصولها إلى السلطة بإرادة أصيلة من القيادة الشعبية الروسية، ظهر مجلس الشورى الوليد والمجالس، وتحولت المجالس في عهد ستالين إلى ممثلة الملكية، وتداعى هذا البناء بتأثير تغييرات رئيس الدولة العظمى ميخائيل غورباتشوف. استلم بوريس يلتسين السلطة بصورة غريبة مدّة تسع سنوات بعد تلك التغييرات ليسير على نفس الطريق، شخص واحد غيّر جذرياً ذاتيته, واضعاً خصائص السلطة الأربعة في واحد من المكاتب الرسمية للرئيس في الكرملين: بطرس الأكبر وايكاترينا العظيمة ونيكولاي الأول وألكسندر الثالث. يعكس هذا الانتقاء برمزيته وتبعاته التاريخية الانحطاط السياسي والروحي، ابتداءً من القيادة الشعبية لبطرس عبر الملكية المقدسة والنيابية لإيكاترينا ثم إلى الهوس الحربي المستبد لنيكولاي الأول وانتهاء بشعب غروزيا القفقازي “نيقولاي بالكينا” (كما سماه الناس)، وإلى خارج حدود السرقة وسجن الأشغال الشاقة لمدمن الخمر ألكسندر الثالث. أنجز يلسين بعبوره ذلك الدرب لتطوره الأسطوري بوجود رمزي على نمط نيكولاي الثاني. وبدفنه (افتراضياً) ما بقي بالمرسوم الحكومي 17 تموز عام 1998م، لم يكن من الغريب إقرار الحكومة له عن طريق المنتخبين من الشعب الحاكم بتلك الأساطير السياسية. داخلياً انتهت بعد شهر 17 آب 1998م عندما أعلنت إفلاسها وأضاعت الاستقلالية المالية. السيادة السياسية دون السياسة الاقتصادية ما هي إلا وسيلة تسخين لزمن قصير، ماداموا يعطون بديل عن النصيب الجديد لمخدّر الدولارات. وفقاً لمنطق أسطورته قدم بوريس يلسن نفسه مع المتوفين في 31 أكتوبر1999م مثل (أباه) نيكولاي الثاني ليبدأ فلاديمير بوتين مسيرة عهد جديد لحكم روسيا انطلاقا من حلمه بإعادة القيصرية الروسية.
نلاحظ خلال السنوات الماضية إن نموذج الإسلام في وعي الناس الروس بدأ يتغير جذرياً على الرغم من الدعاية الغربية المكثفة. في سنة 1996م كان مفتي روسيا الشيخ راوي عين الدين، قد طلب من الرئيس يلتسن الموافقة للمسلمين على الاحتفال بذكرى مرور ألف وأربعمائة سنة على دخول الإسلام إلى روسيا، ويبدو أن الذي لم يحصل عليه المفتي من يلتسن، حصل عليه من الرئيس بوتين، فقد احتفل المسلمون بهذه الذكرى العظيمة التي تؤرخ لوجود الإسلام على أرض روسيا، قبل اعتناق الروس للنصرانية بأربع مائة سنة.
تثار الآن كثير من الأسئلة حول منهج روسيا الحديثة، وما عدى النقاشات التقليدية للمفكرين المحليين والغربين ظهر الإسلام على المسرح السياسي الروسي الذي أخذ يشتد عوده في كل دول العالم. ولم يجد أعضاء الكرملين المأمورون وكتله الذين يسميهم الناس “ممثلي الديمقراطية الوطنية” لروسيا رئيساً مثالياً على مقاسهم بالمعنى الإيجابي، فعمدوا إلى نموذج مصمم على نمط العدو، أي إيجاد عدو خارجي، فاختاروا عدوهم “ممثلي الوطنية القوقازية” و”الإرهابيين المسلمين”، وهكذا أصبح ضمان تكتل روسيا الأرثوذكسية المخدوعة تحت جناح “الغربيين” وبرعايتهم أسهل. يحصل التقدم فقط إذا ما حدث رفض تام ونهائي لكل تبعات الاستبداد ، وخرافات السياسة – الإيمان بسلطة “الإنسان الإله “ـ لا يدور الحديث هنا عن أي تأثير للدولة على دين الناس أو على المعاهد الكنسيةـ ولا بأي صورة منه، وليصلي الجميع ويعيشون كما يملي عليهم ضميرهم (الوعي والإله). ولكن لا يحق لآي كان إجبار الآخرين على قناعته وتحويلهم إليه بالكامل.
يدور الحديث عن منهجية (إيديولوجيا) حكومية وعن مبادئ عقائدية يجب إن تستخدم لبنائها، فلن ينفذ الناس أي قانون مهما كان جيداً إذ لم يتضمن في عقيدته مفاهيم أخلاقية ومبادئ المساواة، الذي يقبل الاعتراف بالقانون وتطبيقه. يطرح الإعلام اليوم سؤال عن الإدارة ونوعية الحكومة المقترحة على أساس منهجية مذهبية كونية، ومعتمدة على سلطة الشعب الواسعة والحقيقية، من أجل أن يعيش في توافق مُرضي بين الضمير الخاص والقانون الشامل.
على الإنسان الروسي أن يتحرر خطوة فخطوة من الفيروس البيزنطي والسبيدا السياسية. فيروس العبودية والرق، ومعايشته لفكرة السيد الطيب وقولهم “يا سيدي”، قال القدماء: “الأمير يجب أن يكون طيباً” ولكن لم ينتظروا ذلك الأمير وكأنه هبة من السماء، بل انتخبوه وطالبوه بما لديهم من سلطة، وبمهنية وطنية، أي بالعدل، فإذا لم يحقق تلك المتطلبات فإنهم “يشيرون له إلى الطريق” بما لديهم من سلطة “خلعه”. على الأسطورة الروسية القومية أن تلد اليوم الإنسان المتفوق الوطني الخاص بها، الذي ينتصر على حالة العمى وجاذبية الأم الأصل “الأرض”. وأن يقف بقوة على قدميه كمالك عادل قوي بدولته ليخترع إلهه وثني من قَدَره كأوديس، ويحمّله خصوصيته ومثاله القومي الروسي للعدالة الاجتماعية. لكي تحدث تلك الولادة يجب أولا تعزيز روحية الأمة – النخبة القومية العقلية، والنخبة بدورها يمكن صياغتها بتعابير معروفة بالعدالة الاجتماعية، والأساطير الثقافية الوطنية، وبنموذج العدل للشعب. تحتاج روسية إلى مثل ديني جديد، ولأفكار مفهومة خاصة بالتاريخ القومي، ومنهجية حركية جديدة مرنة، فقد كانت بداية الروس مع الله الواحد ثم مع الملك المنبوذ فلاديمير مدمن الخمر والاستبداد.
البنية الحكومية الوحيدة الممكنة اليوم هي الديمقراطية الروسية الوطنية وحقوق المواطن، حيث يكون الشعب متفرداً ومتحداً، ذو ذات سياسية تاريخية لا تحجب سيادته، ويمكن للجمهورية الحديثة فقط المصاغة من مؤسسات سلطة متناسقة من القاعدة إلى القيادة تصلح لتكون أساساً لحكم روسي جديد.
وتكون نخبة المجتمع ورؤوس الحكم تحت مراقبة وأوامر منفذي إرادة الشعب بالكامل، وتوضع القوانين من أجل ذلك بمعايير موضوعية متوافقة مع النموذج المثالي الوطني، التي يغيرها الشعب برغبته العمومية بالاستفتاء العام، وليس النخبة التي تسعى إلى فبركة رأي الجماهير غير المدركة، وتلك معالم دين الله الواحد الذي وصل إلينا عن طريق وحي الأنبياء من إبراهيم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، ولم يغير نص الوحي ذاك أحد ولا يجوز نقده. وكما كتب يوري نيتكين ياروست [12]: “إذا استطاع الإنسان الروسي الكلام مع الله مباشرة دون وسيط، كما يتحدث المسلمون مع الله، فإن هذا يزيده عّزة وكمال”. فهل سيكون لروسيا مستقبل دون الإسلام؟.
[1] – كلمة سلافية قديمة تعني المجلس ، وهو اجتماع الشعب (أشبه باجتماع القبيلة) قوي دور هذه الندوة بعد ضعف القيصر في القرن الثاني عشر، وله في كييف مكان محدد بالقرب من المعبد الروسي.
[2] – ملك كييف في النصف الثاني من القرن التاسع، حاربه ريوريك حوالي 866م. قُتل على يد ملك نوفوغراد أليغ عندما احتل كييف عام 882م.
[3] – يقصد بفرضه الدين المسيحي على مذهب الكنيسة الشرقية آن ذاك.
[4] – قبيلة تتريّة لها عدّة بطون منها المغولية الذهبية، وتعني أيضاً الجماعات غير المنظمة.
[5] – مملكة فلاديمير سوزدالسكي هامّة جداً في تاريخ روسيا، كانت في الشمال الشرقي لروسيا في القرن العاشر واستمرت إلى القرن الثالث عشر، ولها تاريخ نضالي كبير أنتج مدرسة خاصة بها في التاريخ.
[6] – مصطلح فلسفي ترجمه البعض إلى طوباوية.
[7] – تيخوميروف ن. ن.، روسيا في القرون الوسطى على طريق العلاقات الدولية، القرن الرابع والخامس عشر، موسكو، 1966م، صفحة 90 – 92.
[8] – هو خان الصوفة الذهبية المغولي، توفي عام 1406م، حارب جنوب كازاخستان بمساعدة تيمور، واعتلى العرش عام 1380م، استولى على موسكو عام 1389م، وحارب تيمور أثناء صراعهما على أراضي قوقازية.
[9] – جوليان سيزار كاتب ومفكر روماني عاش في حوالي 44 ق. م.، اضطر إلى الذهاب إلى آسيا الوسطى ثم عاد بعد وفاة سولي، وكان من القواد الكبار وشارك في الحرب الأهلية.
[10] – سلطة حدثت بدعوة من عامة الناس عام 1613م، ظهرت مابين القرن السادس والسابع عشر بعد توحد الأراضي الروسي تحت قيادة واحدة وضعف الملكية الحاكمة، وقوة الطبقة الفلاحية العاملة. انتخبوا قائداً لهم هو رومانوف.
[11] – من أعوان القيصر بطرس الأكبر.
[12] – مفكر وقصصي روسي بعد مرحلة انهيار الإتحاد السوفيتي، ذو جمهور واسع / الغيظ، موسكو، رافليك، 1997م صفحة 199.