د.خالد ممدوح العزي ./ يستعر لهيب الازمة الاوكرانية الكبيرة بين روسيا والغرب حيث بدأت نارها تتخطى دائرة الصراع الكلامي والخطاب السياسي والدبلوماسي والإعلامي المتشنج بين الطرفين وقد تصل الى حد المواجهات العسكرية بين الاوكران والروس في مناطق اوكرانيا الشرقية ذات الترابط الوثيق مع روسيا حيث تشعر روسيا بأنها معنية بالدفاع عن سكان هذه المنطقة حتى لو كان ذلك من خلال القوة العسكرية كون مصالحها وجاليتها تطالب بهذه الحماية، وما حصل في الايام الاخيرة الا خير دليل على ذلك. ولابد من الاشارة الى ان الازمة الحالية بين الجارين التاريخيين لم يعرف لها مثيل منذ عقود طويلة حيث ان الترابط العرقي والقومي كبير (الدم السلافي) لدرجة لا يمكن التلاعب على هذه العصبية.
المواجهات اليومية الميدانية بين سكان هذه المناطق والسلطة الاوكرانية الهزيلة التي تحاول بدورها ان تستعيد ما فقدته من هيبة تعتبر انها فقدتها في المناطق الشرقية والتي تتهم سكانها بالانفصاليين والإرهابيين ، بينما روسيا تهدد وتتوعد بأن اي عمل عدواني من قبل الاخيرة سوف يكلف حكومة كييف غاليا .
وردا على هذه اللهجة تحاول الدول الغربية وأميركا رفع معنويات السلطات في كييف بسبب تخوفها من اي عملية عسكرية كبيرة قد تشنها موسكو وتسيطر من خلالها على المناطق الشرقية التي تنادي بالتدخل الروسي للحماية عبر التلويح بمزيد من العقوبات الاقتصادية الموحدة ضد موسكو والتي بدأت تشمل العديد من الشخصيات والكيانات الاقتصادية القريبة من سلطة الكريملن، حيث ردت موسكو بالمثل، مما دفع رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف الاسبوع الماضي في جلسة امام البرلمان بان روسيا تستعد لمواجهة هذه العقوبات وتحضر نفسها للأقصى منها .
لكن المراقبين الذين يحاولون معرفة مقدرة روسيا على الرد، يرون بان الروس سوف ينفذون عملية عسكرية كبرى على اوكرانيا، ولكن موسكو لاتزال تفكر بنوع السيناريو التي قد تستخدمه في ذلك، وبات من المرجح بان موسكو سوف تستخدم سيناريو جديد يجمع ما بين عملية القرم السرية الهادئة التي تمكنت موسكو من فرض سيطرتها على الجزيرة سريعا وما بين سيناريو جورجيا 2008 الصاخبة الذي فاجأت الغرب بقوة النيران وبنوعية العملية والسرعة في الرد ، لذلك تقوم روسيا بالجمع هذه الافكار مما يربك الغرب، في كيفية الرد على موسكو .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه على عقول الجميع ما مدى تأثير العقوبات الغربية على روسيا وقدراتها العسكرية في العملية القادمة .
بالطبع حاليا لن يكون للعقوبات اي تأثير مباشر، ولكن لاحقا سوف تنعكس هذه العقوبات على الاقتصاد الروسي وستترك اثارها السلبية على الشعب الذي ايد خطوات الرئيس بضم القرم ولكنه لن يؤيده بتحمل هذه العقوبات .
فالاقتصاد الروسي يعيش على انتاج وبيع الغاز والنفط الذي تراجع انتاجه في الشهور الاربعة الى 10,5 مليون برميل يوميا وكذلك بيع السلاح ، وبالتالي تعتبر روسيا دولة مستهلكة وليست منتجة ، وهذا ما قد يسبب ازمة كبيرة في عملية استيراد كل القطع الغربية التي تحتاجها الصناعة الروسية بسبب العقوبات التي ستفرض عليها اضافة لعملية التحويلات المالية .
وبالتالي روسيا وشعبها هنا من المستهلكين وليس من المنتجين، وهذا ما قد يسبب ازمة كبيرة في عملية استيراد كل القطع الغربية التي ستفرض عليها عقوبات اضافة لعملية التحويلات .
وتعاني روسيا ا حاليا من هروب اصحاب الرأسمال الكبير منذ اليوم لضم القرم والتي بلغت60 مليار دولار في الاشهر الثلاثة الاخيرة، وسوف يصل معدل تهريب الاموال بحسب الخبراء الماليون بنحو 100مليار دولار حتى نهاية العام بيمنا سجل في العام 2013 خروج 60 مليار دولار، و وسجل النمو الاقتصادي 0,8 في العام الماضي بينما العام الحالي 0,3 .
كما يسجل انهيار ملموس للروبل الروسي يلاحظ تدريجيا بالبورصة الروسية ، وخاصة مع بداية الازمة الاوكرانية لم يحصل له مثل منذ العام 1998 عند حدوث الازمة المالية الكبيرة في روسيا.
فالمصرف المركزي الروسي لايزال يضخ اموالا في الاسواق من اجل تعويم سعر صرف الروبل بظل حركة الشراء الكبيرة للعملة الاجنبية التي تسجل من قبل المواطنين، في عمليات سحب يومية من البنوك الروسية تحسبا لتطور الاوضاع . والجدير بالذكر بان الاحتياط الروسي يبلغ 300 مليار دولار .
وتشير الاحصاءات الحالية المالية بان روسيا دفعت ملياري دولار في القرم لعدد سكان البالغ مليوني نسمة في عملية تبديل العملة ودفع الرواتب فقط.فكيف لروسيا يمكنها تحمل اعباء سكان المناطق الشرقية ذات الامتداد الجغرافي الكبير والبالغ عددهم اكثر من 10 ملايين نسمة على كاهل اقتصادها الذي يعتبر اقتصاد مستهلك وليس منتج؟ .
مما لا شك فيه بان اوكرانيا منطقة استنزاف اقتصادي كبير لروسيا من خلال تغطية حاجات ومطالب الشعب الاوكراني الذي يرزح تحت حافة الفقر والطامع بالتوجه نحو الغرب او نحو روسيا من اجل تحسين ظروف معيشته وتغير حالته المالية والاجتماعية .
يقدر عدد “الكادر” الروسي الذي يذهبون سنويا للخارج لرفع الكفاءات العلمية في المعاهد الاوروبية والأميركية بحوالى 700 الف الى مليون شخص، ولكن نصفهم على الاقل يبقى في تلك البلدان على اساس الطلب الهجرة مع العلم ان روسيا تعتبر الدولة الثانية في العالم بنسبة عدد اللاجئين . فاذا حاولنا مقاربة اعداد المهندسين بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية فان مهندسي روسيا يشكلون 20 بالمئة من نسبة المهندسين الامريكان .
بالوقت التي تعاني روسيا من حالة نقص كبيرة في الديموغرافية ، حيث يتناقص عدد سكان روسيا سنويا سبعة ملايين نسمة، وهذا ما يعكس نفسه على تعداد القوات العسكرية التي كانت روسيا تملكها سابقا والتي تعتمد حاليا على القوات الخاصة في حربها .
لكن السؤال الذي لم يلق حتى الان جواباً: لماذا ذهب الجميع الى اتفاق جنيف لحل الازمة الاوكرانية طالما لم يلتزم به احد؟؟.
فمن المؤكد بان الجميع ذهب ليس من اجل الحل، بل من اجل ضبط الصراع وعدم تفجيره لان الجميع في مأزق، بالرغم من اعتبارهم بأنهم حصلوا في اوكرانيا على ما يريد ، “روسيا شبه جزيرة القرم، وأوروبا اوكرانيا، أميركا اعادة تموضوعها في اوروبا” ، وفرض نفسها مجددا على الامن الاوروبي” .
فالمعركة اذا هي صراع على الارض والسيطرة عليها ، لذلك لغة الحرب بدأت تعلو من جديد وخاصة بان روسيا ترى فرصتها الحالية بالسيطرة على شرق اوكرانيا، ومن ثم التفاوض على اوكرانيا الغربية في ادارة المصالح مع الغرب ،بينما سلطة كييف تحاول الهجوم من اجل الدفاع لتوريط الغرب في عملية الدفاع عنها.
ومن المؤكد بان الانتخابات بظل هذا التوتر لن يكتب لها النجاح وخاصة بعد عملية خطف افراد البعثة الاوروبية والتفاوض مع الخاطفين من قبل هذه المنظمة، التي اكدت الاعتراف بقادة المناطق الشرقية الذين فرض نفسهم بالقوة كلاعبين على الحلبة السياسية بأية عملية تفاوض جديدة لإنهاء الازمة الاوكرانية.
كاتب وباحث اعلامي مختص بالشوؤن الروسية ودول اوروبا الشرقية .