أتذكر جيداًَ ذلك الشعور الغريب الذي انتابني عند قراءة إحدى ملاحظات مكسيم غوركي عن تولستوي. يقول غوركي : صعقني قول غريب في اليوميات التي أعطاني إياها تولستوي, تلك العبارة هي “الله هو أمنيتي”. حينما استوضحته عن معنى هذه الأمنية قال : “فكرة غير مكتملة, لا بد أني قصدت إلى القول, الله هو أمنيتي كيما أدركه .. لا , ليس هذا .. “. كان تولستوي حسب تصور غوركي, ومن أحاديث جانبية بينهما, تشغله فكرة الله حتى تكدر صفاء ذهنه. يقول تولستوي في بعض أقواله المذكورة في ملاحظات غوركي: ماذا نقصد عندما نقول أننا نعرف؟ أعرف أنني تولستوي, ولي زوجة, وأولاد, وشائب الشعر, وقبيح الوجه, ولي لحية. وهذا كله مدون في جواز سفري. ولكنهم لا يدلفون إلى الروح في جوازات السفر! كل ما أعرفه عن روحي أنها تتوق إلى الاقتراب من الله. لكن ما هو الله ؟ هذا الذي روحي هي ذرة منه. هذا هو كل شيء!
هذا الملاحظات أصبحت صور تمر في ذهني كلما مر اسم تولستوي في أي قراءة. أتخيل وجه مكسيم وهو يسأل معلمه عن هذه الأمنية الحلم, فيرد وجه الشيخ الكثيف اللحية, المعتمر قبعة الفلاحين, بإبتسامة عريضة تنسي المحاور الآخر السؤال برمته, وما إن يلتفت إلى الخلف, تطفر منه دمعة كشخص ساذج, ويولي هارباً حتى تشتعل هذه الأمنية كبركان على وشك الإنفجار.
هذه الملاحظات لم أعرف ماذا تشكل على وجه الحقيقة في حياة تولستوي, المفكر والأديب المشهور. دستويفسكي في أغلب أعماله الكبيرة, وحتى في كتب البيوغرافيا, يعطي توضيح حاد لرحلته إلى الله والإيمان : “لقد وصلت إلى الله عبر طريق طويل وشائك من الإلحاد والشك الكبير”. قرأت رائعة آنا كارينينا قبل فترة, وكانت أول عمل كامل لتولستوي أتم قراءته بالكامل. كنت أتمنى أن أجد تفسير في الرواية لهذه الأمنية التي تراود تولستوي في دفاتر يومياته, ولكن لم أجد إلا حيرة مضاعفة بسبب شخصية قسطنطين ليفين, والذي عبر عن أكثر أراء تولستوي غموضاً. ليفين : تلك الشخصية التي لم تكن إلا تولستوي نفسها بكل تطرفها. كتب تولستوي عن نفسه في هذه الرواية وعبر عن أكثر أراءه بشكل حاد. من سيقرأ بعض ما كتب في يوميات تولستوي المنشورة في صور أدبية لمكسيم غوركي سيجد أغلب أفكاره مطروحة في شخصية ليفين. من أنا؟ وما هو هدف حياتي؟ والأهم : أين الله؟ من هو الله؟ وكيف أحيا بوجود الله؟ ماهو الوجود؟ ولماذا أنا موجود؟ هذه الأسئلة لإنسان مغرق في الشك – وملحد – كانت ذا تأثير عميق في الرواية, وتفنن تولستوي بتصويرها بأروع ما يكون التصوير الفني. ولكن, وهذا السؤال هو الأهم : من أين ظهرت هذه الأمنية؟ وما دلالتها في حياة تولستوي الأدبية والفكرية؟ وأخيراً : هل تحققت أمنيته؟ هل عرف الله كما تتمناها روحه؟
لمعرفة الجواب يستلزم أن تقرأ أكثر, أن تعرف سيرة حياته, وبشكل خاص مسيرة تولستوي الفكرية. كانت مهمة البحث عن أجوبه لهذه الأسئلة ليست بالسهلة على الإطلاق. كتب البيوغرافيا التي تحدثت عن تولستوي لم تستطع الإجابة عن هذه الأسئلة بالتفصيل. الناقد الروسي ك. لومونوف عبر كتابه صفحات مجهولة من حياة تولستوي يقدم سيرة أدبية رائعة ومشوقة لتولستوي. الجانب الأدبي طغى على الجانب الفكري مما سبب غموض أكثر بالنسبة لي. لومونوف يقدم لي تولستوي الأديب, صاحب الروائع الخالدة : “الحرب والسلم”, “آنا كارينينا”, “البعث”, أنا لا أريد تولستوي هذا, أريد تولستوي صاحب الأمنية الكبيرة : الله هو أمنيتي.
دائماً ما أجد أقوال دستويفسكي عن تولستوي موفقة وتصف الحالة العامة لتولستوي على وجه الدقة, هو لا يتكلم كثيراً ولا يرفع منافسه لمستوى أكبر منه, رغم أنهما منافسين شرسيين. حينما يقول أن آنا كارينينا هي أعظم رواية روسية فهو صادق . آنا كارينينا هي أقرب لمسمى الرواية أكثر من أي عمل روسي أخر. أما حينما يقول أن أمثال تولستوي هم معلموا المجتمع، معلمونا، ونحن مجرد تلاميذ لهم, فذلك يستلزم البحث لتعرف لماذا وصف دستويفسكي منافسه الشهير بوصف المعلم الكبير؟ وهل لهذا الوصف والتبجيل علاقة بأمنية تولستوي؟
لن يستطيع أحد أن يحلل ويفسر لي أمنية تولستوي أكثر من تولستوي نفسه, عبر كتابه الشهير اعترافات تولستوي “A Confession and Other Religious Writings” . ولكن المصيبة أن الكتاب غير متوفر في المكتبة العربية حسب علمي المتواضع. قررت شراء الكتاب في أقرب زيارة للخارج, وإلى أن يحين الوقت, حاولت قراءة كتاب سيروا في النور وثلاثة وعشرون حكاية “Walk in the Light & Twenty-Three Tales “. هذه المجموعة القصصيه تقدم لي أمنية تولستوي عبر الأدب على وجه التقريب . لم تستمر قراءتي للكتاب طويلاً. إذ وجدت الكتاب من مكتبة إنجليزية بطبعة فاخرة, وها هو كتاب الاعترافات بين يدي الآن, مع نهاية هذه السنة أجد هذا الكتاب أكثر الكتب تأثيراً عليّ حتى الآن