د. أحمد يونس / بعد مرور ثلاثة أشهر تقريباً على تعيين رئيس البرلمان الأوكراني أليكسندر تورتشينوف -رئيساً مؤقتاً- لأوكرانيا وفي خطوة اعتبرها الكثيرون بداية لمرحلة جديدة في حياة الأوكرانيين ، أمسى الأوكران في هاجس ورعب التفكك والانفصالية ، فروسيا -الدب- ما فتئت تلعب في حديقتها الخلفية بكل ثقلها ووزنها .. لأن ما وقع هنا لم يكن ليعجب قادة -الكرملين- في موسكو .
في غضون أسابيعٍ قليلة أضحت جنة أوكرانيا الجنوبية -شبه جزيرة القرم- مقاطعةً روسية رغماً عن كل الدنيا ، حتى أن الرئيس بوتين أصر أن يُحيي ذكرى يوم النصر على النازية من قلب قاعدة أسطول البحرية الروسية في البحر الأسود -مدينة سيفاستوبول التاريخية- حيث ما تزال ترابض هناك العشرات من البوارج الحربية وعدة غواصات روسية منذ أكثر من 20 عاماً .
-شبه جزيرة القرم- .. الفردوس الضائع
بعد أن زرتُ شبه جزيرة القرم آخر مرة العام الماضي كنت قد عزمت على تكرارها هذا العام ، لكن للأسف فقد ضاع الفردوس وضاعت معه -جنة أوكرانيا- وعروسها على البحر الأسود ، تاريخ حافل وطويل مرَّ على -القرم- عبر التاريخ .. حيث القيصرية الروسية ثم الامبرطورية العثمانية فالاتحاد السوفييتي فأوكرانيا وها هي روسيا اليوم تعلن ضمّها بكل برودة أعصاب إلى حزمة مقاطعاتها وجمهورياتها الاتحادية ، -جمهورية القرم المستقلة- هذا ما أعلنته الإدارة المتواجدة بالقرم من تسمية جديدة لشبه الجزيرة التي تبلغ مساحتها 27 ألف كم2 ، ويسكنها حوالي 2 مليون شخص منهم 500 ألف مسلم تتري .
شهرين كاملين يمران على ضم القرم .. بعد استفتاءٍ لم يشارك فيه المواطنون الأوكران ولا مسلمي تتار القرم -الذين اعلنوا عدم قبولهم بسيطرة روسيا على القرم- ، جرى الاستفتاء وأعلنت النتائج بذات اليوم عن موافقة أكثر من 80 % على خيار الانفصال ، خرج أنصار موسكو في الشوارع وبوسط العاصمة -سيمفروبل- وكانت كلمة رئيس برلمان القرم للجموع : اليوم نعود لحيث وجب أن نكون منذ زمن طويل ” ، كلمات لم تكن جديدة على الأوكرانيين .. فموسكو تضع رجالها في مواقع هامة وتسيطر بشكل أو بآخر على مفاصل مختلفة في قطاعات متنوعة من الدولة الأوكرانية ، وما تبع أحداث القرم من حركات انفصالية مسلحة وتواطؤ واضح من الشرطة والأمن هناك يثبت صحة هذه النظرية .
“سلافيانسك وكراماتورسك” الهدف الثاني
بلدتان صغيرتان على أقصى حدود أوكرانيا الشرقية مع روسيا تقعا في مقاطعة دونيتسك ولا تتجاوز مساحتهما مجتمعتين 430 كم2 ، خرج فيها العشرات من المسلحين المطالبين بانفصال المقاطعة عن أوكرانيا فيما سمُّوها -جمهورية دونيتسك الشعبية- رافعين أعلاماً لها وداعين إلى وحدة شعب شرق أوكرانيا -الناطقين بالروسية- ضد غطرسة وتحكُّم الغرب -الأوكراني- وحكومة كييف الجديدة التي يرون أنها في عداء معهم وضد تطلعاتهم في حياة سعيدة ، فيما لم يخفون آمالهم بالانضمام لروسيا الاتحادية كما جرى مع -القرم- جنوباً .. على إثر ذلك بدأ الجيش الأوكراني -عملية عسكرية ضد الإرهاب- كما سمَّاها ، مستخدماً فيها الدبابات وناقلات الجند وطائرات حربية مقاتلة ، ولا زالت رحى العمليات الميدانية متواصلة بين كرٍ وفرٍ من الطرفين إذ أن الانفصاليون سيطروا على قاعدة جوية في كراماتورسك يجعلهم مسلحين بعتاد قد يهدد سلامة جنود وطياري -كييف- .
استفتاء تحت تهديد “السلاح”
هذا ما يمكن أن نطلقه على استفتاء مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك -أقصى شرق أوكرانيا- المراد من خلاله فرض أمر واقع بقبول المواطنين بالانفصال عن الوطن الأم وإعلان ما يسمونه -جمهورية دونيتسك الشعبية- ، لا يُخفي كثير من سكان هاتين المدينتين معارضتهم للاستفتاء المزمع عقده ، فتباين الآراء واضح بين القوميّتين -الروسية والأوكرانية- والجميع متفق على تجنّب ويلات الحرب ومأساة التهجير .. فالأوكرانيين يعلمون جيداً ما معنى الحرب والمجاعة ذلك لأن أوكرانيا تعرّضت لأبشع تجويع في تاريخها (1931-1933م) بما يعرف باسم “هولودومور” -وباء الجوع- .. الذي راح ضحيته زهاء 3 مليون نسمة ، لهذا يكره الجميع هنا كلمة -حرب، فقر، جوع، قتل، هجرة- ذلك لأن الجميع تجرَّع من كأس الألم .. التتر والروس والأوكران شرقا وغرباً لم يميزهم ذلك الوجع ، أما جيل اليوم فكلٌ يغني على ليلاه في متطلباته وتطلعاته ونسوا أن بلدهم واحدة وما يجمعهم أكثر مما يفرقهم .